} تنشر "الحياة" على ثلاث حلقات واعتباراً من اليوم القصة الكاملة ل"الوديعة الرابينية". ولقد اطلع باتريك سيل على وثائق ومراسلات فبات في الامكان تقديم رواية تغلّب الحقائق على المساعي الاسرائيلية لاعادة كتابة التاريخ. ولعل الاهمية في ذلك ان الحسم في قضية "الوديعة" بات شرطاً ضرورياً لايجاد نقطة يمكن الانطلاق منها لتجديد المفاوضات السورية - الاسرائيلية. تذكر دمشق وجود التعهد وينفي ايهود باراك ذلك ولكن واشنطن التي تعرف ان سورية على حق ترفض الكشف عما تعرفه معتبرة ان ذلك يعني انهاء دور الوساطة الذي تقوم به واعلان فشله. تخوض سورية واسرائيل نزاعاً حول الماضي: حول ما حدث خلال المفاوضات بينهما في الفترة من 1992 الى 1996. ما هي التعهدات، اذا كان هناك مثل هذه التعهدات، التي نقلها اسحق رابين وشمعون بيريز، رئىسا وزراء اسرائيل انذاك، الى الرئىس حافظ الاسد عبر الولاياتالمتحدة؟ هل تعهدت الولاياتالمتحدة لسورية بأكثر مما كانت مخولة ان تتعهد به - بمعنى آخر، هل تصرف وارن كريستوفر وزير الخارجية الاميركي آنذاك "بشكل اخرق" عندما قام بنقل التعهدات، كما ادعى بعض الاسرائيليين منذ ذلك الحين؟ واذا اُعطيت تعهدات فعلاً، الى اي مدى تعتبر ملزمة لزعيم اسرائيل الحالي رئىس الوزراء إيهود باراك؟ تكمن هذه الاسئلة في صميم الصعوبات الحالية التي تواجه استئناف المفاوضات على المسار السوري لعملية السلام. ان دراسة سجل المحادثات التي دارت بين عامي 1992 و1996، بالاستناد الى وثائق ومقابلات مستفيضة مع اشخاص كانوا على صلة وثيقة بالمحادثات، تقود المرء الى الاستنتاج بأن هذه مسألة تضليل سياسي، يُقال فيها شيء ويُقصد شيء آخر، ومسألة فرص ضائعة وخيبات امل مريرة. عندما انتصر ايهود باراك، ابرز قائد عسكري اسرائيلي والزعيم الجديد لحزب العمل، في الانتخابات في 17 ايار مايو الماضي، تبادل والرئىس السوري الاسد كلمات تعبر عن تقدير متبادل. وفُسّر هذا التبادل للمجاملات - غير المسبوق بين زعيم سوري وزعيم اسرائيلي - على نطاق واسع بأنه يعني ان محادثات السلام ستستأنف قريباً، بعدما قُطعت من قبل بيريز في اذار مارس 1995 وجُمّدت على مدى السنوات الثلاث التالية من قبل بنيامين نتانياهو. لكن الآمال في ان يباشر الاسد وباراك العمل اُحبطت حتى الآن. فأين يكمن الخلل؟ أخفق الطرفان حتى الآن في الاتفاق على الاساس الذي تنطلق منه المحادثات. تقول سورية ان رابين وبعده بيريز قدما تعهداً بالانسحاب من الجولان الى خطوط الرابع من حزيران 1967، وتقول اسرائيل انهما لم يفعلا ذلك. ويريد الاسد ان يصادق باراك على هذا التعهد قبل استئناف المفاوضات، ويرفض باراك حتى الآن القيام بذلك. ويصر الاسد على ان التعهد الاسرائيلي بالانسحاب يجب ان يكون نقطة البدء التي تستأنف منها المفاوضات. ورد باراك بالقول انه يريد ان يسمع من سورية موقفها بشأن مجموعة من القضايا الاخرى - حول الماء ولبنان والارهاب والترتيبات الامنية والانذار المبكر وفتح الحدود وانشاء سفارات - قبل ان يقول الى اي مدى سيكون مستعداً للانسحاب. وكالعادة، انحازت الولاياتالمتحدة لصالح الجانب الاسرائيلي في الخلاف، ولو بشيء من الغموض. في 3 تشرين الثاني نوفمبر الجاري، نُقل عن "مسؤول كبير في وزارة الخارجية الاميركية" - الارجح انه دنيس روس المنسق الخاص للشرق الاوسط الذي كان مسؤولاً بشكل رئيسي مع وزير الخارجية كريستوفر عن جهود الوساطة في المحادثات بين اسرائيل وسورية - قوله ان "ليس هناك شيء متفق عليه حتى يتم الاتفاق على كل شيء، ولم تكن هناك اي اتفاقات في هذا المجال". وبعد ذلك بيومين، في 5 الشهر الجاري، كرر جيمس روبن الناطق باسم وزارة الخارجية هذا التعبير المُلغز، ثم اضاف: "لا تقوم الولاياتالمتحدة الاّ بنقل ما نحن مخولون نقله من طرف الى آخر. لا نتعهد اكثر مما نحن مخولون التعهد به، ولا نتعهد اقل مما نحن مخولون التعهد به". وبدا هذا مناورة بارعة في اتخاذ موقف الحياد. لكن ناطقاً باسم رئيس الوزراء الاسرائيلي سارع فوراً الى استثمار التصريح الاميركي بأنه "ليس هناك شيء متفق عليه حتى يتم الاتفاق على كل شيء، ولم تكن هناك اي اتفاقات في هذا المجال". فاعلن ان "الموقف الاميركي يؤكد فحسب ما قاله رئىس الوزراء باراك في عدد من المناسبات، بما معناه ان اسرائيل لم تعط ابداً اي تعهد بالانحساب من هذا الخط او ذاك. قضية الاراضي، تماماً مثل كل القضايا الاخرى، ينبغي ان تكون جزءاًً من المفاوضات وليس شرطاً لها". صحيفة "يديعوت احرنوت"، 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1999. من هو على صواب ومن هو على خطأ؟ من يقول الحقيقة؟ وماذا يُبيّن السجل؟ التعهد بانسحاب كامل الرئىس الاسد لا يحب ان يسير في الظلام. انه لا يحب القضايا المبهمة. وهو يريد ان يعرف، قبل الدخول في مفاوضات، الى اين يتجه وماذا ستكون النتيجة النهائية. احد الانتقادات التي يوجهها الى اتفاقات الفلسطينيين مع اسرائيل هي انها غامضة وغير محددة لدرجة انها تقتضي دائماً مفاوضات اضافية ثم المزيد من المفاوضات قبل التنفيذ. ولنا ان نتذكر انه منذ انطلاق مؤتمر مدريد للسلام في تشرين الاول اكتوبر 1991 الى حزيران يونيو 1992، لم يكن هناك اي تحرك على المسار السوري. وكان السبب يرجع الى رفض السوريين مناقشة اي قضايا جوهرية قبل ان تقر اسرائيل بأن الجولان عائدة لهم وانه سيتعين اعادتها. وبما ان اسحق شامير رئىس الوزراء الاسرائيلي انذاك استبعد اي انسحاب، كان هناك مأزق كامل. وعندما هُزمت كتلة ليكود بزعامة اسحق شامير في الانتخابات وتولى زعيم حزب العمل اسحق رابين رئاسة الحكومة في 13 تموز يوليو 1992، أحس السوريون بتفاؤل كبير اثر تصريح السفير اتامار رابينوفيتش، كبير مفاوضي اسرائيل على المسار السوري، بان قرار مجلس الامن 242 "بكل اجزائه وفقراته" ينطبق على مفاوضات السلام مع سورية - بمعنى آخر ان مبدأ السلام مقابل الارض ينطبق على الجولان. وفي الفترة بين تموز يوليو 1992 وصيف 1993، ادلى رابين نفسه بتصريحات عدة يمكن تفسيرها كاشارات الى سورية، فضلاً عن المستوطنين في الجولان، مفادها ان اسرائيل مستعدة للنظر إن لم يكن في انسحابٍ كامل فعلى الاقل في انسحابٍ جزئي. وفي تعبير شهير، تحدث رابين عن انسحاب "في" الجولان، وليس "من" الجولان. لم يكن هذا كافياً بالنسبة الى الاسد. ومرة اخرى لم يشهد المسار السوري اي تحرك الى ان طلب رابين، في 3 اب اغسطس 1993، من وزير الخارجية الاميركي كريستوفر ان ينقل رسالة مهمة الى الزعيم السوري. وحط كريستوفر في دمشق اليوم التالي، 4 آب، وحسب مصادر سورية واميركية على السواء ابلغ الاسد ان "رئىس الوزراء رابين طلب مني ان ابلغكم بأن اسرائيل مستعدة لانسحاب كامل من الجولان شريطة ان تُلبى مطالبها بشأن الامن والتطبيع". وفي روايته عن المفاوضات الاسرائيلية - السورية، في كتابه "حافة السلام"، يشيد السفير رابينوفيتش - الذي كان يدون الملاحظات لرابين في اللقاء - برسالة رابين الى الاسد باعتبارها "الخط الفاصل الحاسم في المفاوضات الاسرائيلية السورية". وبعدما سمع رابين يقدم عرضه، همس رابينوفيتش لدنيس روس بأن "اجنحة التاريخ يمكن ان تُسمع في الغرفة". لكن ماذا كان رابين يعني برسالته؟ هل كان عرضاً صادقاً؟ ماذا يعني رابين؟ الشيء الاول الذي ينبغي ان يُلاحظ هو ان الرسالة الى دمشق نُقلت بشكل غير مباشر عبر الوزير كريستوفر، بدل ان تُنقل بشكل مباشر من وفد الى آخر، ولو انه بحلول آب 1993 كان الوفدان السوري والاسرائيلي عقدا في واشنطن ما لا يقل عن عشر جلسات من المحادثات الثنائية العقيمة الى حد كبير. نُقلت رسالة رابين شفوياً: لم تدوّن ابداً. وكلما اقترح الاميركيون، في مجرى المفاوضات اللاحقة، تدوين الرسالة على الورق، كان رابين يتهرب من طلبهم. وربما كانت المسألة الاهم اطلاقاً هي ان الرسالة الى سورية نُقلت في اقصى درجات السرية. فالاميركيون الذين نقلوا الرسالة، والسوريون الذين تسلموها، طلب منهم التزام السرية بشأنها. ربما لم يشأ رابين ان يعرّض نفسه لاعدائه السياسيين المحليين الذين كان يحتمل ان يتهموه بالتنازل لدمشق وتوقيع صفقة خيانية. وباستثناء رابينوفيتش لم يُسمح لأحد غيره على الجانب الاسرائيلي ان يعرف بالعرض. اُخفي الامر عن جنرالات رابين. كما اُخفي عن وزير خارجيته شمعون بيريز ايضاً، والارجح بسبب الكراهية الشخصية بين الرجلين، او ربما لان رابين كان يخشى تسريباً من "حاشية" بيريز. اجمالاً، اصر رابين على السرية التامة. وكما يبدو واضحاً من الرسالة فان عرض رابين كان مشروطاً: يتوقف على تلبية حاجات اسرائيل. ماذا كان رابين يريد من سورية مقابل عرضه؟ اللائحة، كما نقلها كريستوفر، كانت طويلة. اصر رابين على ترتيبات امنية محكمة مع مشاركة اميركية. وكان يريد معاهدة سلام مع تطبيع كامل صريح، بما في ذلك علاقات ديبلوماسية. لكن هذا لن يقابله في البداية سوى انسحاب اسرائيلي محدود جداً على الجولان. ولن تفكك اي مستوطنات اسرائيلية. بالاضافة الى ذلك، طالب رابين بفترة تمتد الى خمس سنوات ل "اختبار" حسن سلوك سورية، تطالب اسرائيل خلالها ب "ادلة ملموسة على السلام" قبل التفكير بانسحاب اكثر اهمية. وكان يُفترض الاّ يكون هناك اي ربط بين معاهدة السلام السورية ومفاوضات اسرائيل المستمرة مع الفلسطينيين. كما ستخضع الصفقة كلها في النهاية الى نتيجة استفتاء في اسرائيل. كان رابين يريد ايضاً ان يعرف اذا كانت سورية مستعدة لاتخاذ اجراءات صارمة ازاء "حزب الله" في لبنان، وطرد التنظيمات الفلسطينية "الرافضة" العشرة من دمشق، وقطع علاقتها الاستراتيجية مع ايران. المدهش ان الاسد لم ينبذ اقتراح رابين كله باعتباره مزحة رديئة. كان مستعداً للتفاوض. ورفض الاقتراح الخاص باقامة علاقات ديبلوماسية صريحة، لكنه قبل المعادلة الاساسية التي تقوم على مبادلة "انسحاب كامل بسلام كامل". ووافق على مشاركة دولية في الترتيبات الامنية. وعلى صعيد الجدول الزمني لتنفيذ الاتفاق، اقترح فترة ستة اشهر بدلاً من خمس سنوات حسب اقتراح رابين. واثر عودة كريستوفر الى القدس من دمشق، وصف رد الاسد بانه ايجابي، لكن رابين أقر بخيبته الشديدة. فهو لم يكن يريد ان يساوم. ووفقاً لتقديره فان الاسد رفض الصفقة التي قدمها. كان احد الجوانب الاخرى البالغة الاهمية في "خطوة الانفتاح على سورية" التي اقدم عليها رابين يكمن في توقيتها. فقد تمت قبل ايام فقط من توصل المفاوضين الاسرائيليين والفلسطينيين، الذين كانوا يلتقون سراً في النروج، الى اختتام مفاوضاتهما الماراثونية في شهر آب ذاته بشأن ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي للفلسطينيين: ما يُعرف باتفاقات اوسلو. غالباً ما يقال ان اتفاقات اوسلو كانت ثمرة جهود بيريز، وان رابين نأى بنفسه عن المفاوضات، وانه لم يبد حرصاً خاصاً على نجاحها، وربما يرجع موقفه هذا الى ان بيريز كان مسؤولاً عنها، او ربما لانه لم يستطع ان يتغلب على نفوره من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. كان رابين، حسب مجادلة تُسمع كثيراً في اسرائيل، مقتنعاً بالمزايا الاستراتيجية لصفقة مع سورية: ستزيل من المواجهة عدو اسرائيل الاكثر عناداً، وستفتح الباب للسلام مع المنطقة كلها، وستمنح اسرائيل فرصة رائعة للخروج من المأزق في لبنان، ويمكن ان تنهي تحالف سورية مع ايران، التي كان رابين يرى انها تمثل التهديد الاخطر على المدى البعيد بالنسبة الى اسرائيل. حسب هذا الرأي، قدم رابين العرض الى الاسد ليعطي نفسه خياراً بديلاً لاتفاق مع الفلسطينيين: اذا قبل الاسد الصفقة التي اقترحها، فانه كان سيحد من المفاوضات في اوسلو، او حتى يلغيها بالكامل، ويتحرك الى امام في اتجاه سلام على المسار السوري. وجهة النظر هذه لا تدعمها الادلة. ليس صحيحاً ان رابين ترك مفاوضات اوسلو لبيريز. فمنذ ربيع 1993، كان الطرف الاسرائيلي لمفاوضات اوسلو موجوداً في مكتب رابين بالذات. وكان رابين يتابع ويقر شخصياً كل خطوة. بالاضافة الى ذلك، كان يواجه ضغوطاً اكبر بكثير للتوصل الى اتفاق مع الفلسطينيين مما هو الحال مع سورية، وكان لديه حافز اكبر بكثير للقيام بذلك. فجبهة الجولان كانت هادئة، كما كانت منذ 1974، بينما كانت الانتفاضة الفلسطينية تهز الارض تحت قدميه. كانت الانتفاضة بالنسبة الى رابين تجربة مزعجة وصعبة جعلته موضع ازدراء عالمي بسبب اطلاق العنان لجيش للتنكيل بسكان مدنيين. لكنها اقنعته في الوقت نفسه بانه لا يمكن إخضاع الفلسطينيين وانه كان عليه ان يتعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية التي يبغضها. كان التعامل مع الفلسطينيين ملحاً اكثر بالنسبه اليه من التعامل مع سورية، كما كان اسهل بكثير سياسياً. ويمكن التعرف على مكمن الاهتمام الفعلي لاسرائيل من مستوى النشاط على المسارات المختلفة: كان المسار السوري مجمداً من ايار مايو 1993 الى اذار مارس 1994، وهي واحدة من فترات انقطاع وتعليق عدة. بالمقارنة مع ذلك، كانت المحادثات السرية مع الفلسطينيين في النروج تحولت الى جهد مثير ومتصاعد يستحوذ على التفكير ويستأثر بكل الطاقات، ويشمل محاولات اقناع وممارسة ضغوط واعداد صياغات ذكية وصنع اتفاق في النهاية. وافق الفلسطينيون بسذاجة على انهاء الانتفاضة مقابل لا شيء اكثر من اعتراف اسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية. وكانوا مستعدين لتأجيل القضايا الاساسية المتعلقة بالمستوطنات والحدود واللاجئين والقدس، ولأن يرهنوا طموحهم المركزي لاقامة دولة بحسن نوايا اسرائيل. لكن رابين ادرك بان الاسد سيطالب، في اي اتفاق مع سورية، بتعهد علني بانسحاب كامل من الجولان وتفكيك المستوطنات اليهودية. ولم يكن هناك ادنى شك اي الاتفاقين كان اكثر جاذبية. تضليل سياسي ماذا كان اذاً معنى العرض غير المباشر والشفهي والمشروط والسري الذي قدمه رابين في اللحظة الاخيرة الى الاسد بانسحاب كامل؟ تلمح الادلة على نحو ساحق بأنها كانت عملية تضليل سياسي، وخدعة حرب. كان رابين يعرف ان اتفاق عرفات الانفرادي في اوسلو سيثير غضب الاسد. وادرك الضرر الذي سيلحقه الاتفاق بديبلوماسية الاسد، محطماً محاولته الحفاظ على وحدة العرب في تعاملهم مع اسرائيل. كان يخشى احتمال ان يسعى الاسد الى احباطه. كما ادرك ان الفلسطينيين كانوا مرعوبين من احتمال ان تتوصل اسرائيل الى صفقة مع سورية اولاً، ما سيتركهم لوحدهم وعرضة للمخاطر اكثر من اي وقت مضى. هكذا، كان عرض رابين مصمماً لاغراء الاسد واستدراجه للتفاوض لدرجة تكفي فحسب لثلم هجومه على اتفاق اوسلو، وفي الوقت نفسه ترهيب الفلسطينيين لتقديم تنازلات اخيرة. كانت المناورة بطرف عربي ضد الآخر استراتيجية اسرائيلية قديمة العهد. وقد نجحت. لم يكن السوريون وحدهم الذين خُدعوا. فاسرائيل لم تحط الاميركيين علماً بمفاوضات اوسلو. كان الاميركيون يعرفون بشكل مبهم ان لاسرائيل قناة اتصال خلفية مع الفلسطينيين، الاّ انهم لم يعيروا لها اهتماماً يذكر. وحرص رابين تماماً على ابقائهم بعيدين عما يجري. في الواقع، في الوقت الذي كانت المحادثات السرية تجري مع الفلسطينيين، كان الاميركيون يلحون على اسرائيل للتوصل الى صفقة مع سورية، وطمأنوا الاسد مراراً الى ان هذا يمثل اولوية بالنسبة اليهم! لكن حالما اُبلغ الاميركيون بشأن اتفاق اوسلو، اُستخدموا لتهدئة الزعيم السوري. وطلب رابين من الرئيس كلينتون ان يقنع الاسد بتخفيف حدة انتقاداته لاتفاق اوسلو. وتبعاً لذلك، في محادثة هاتفية مطولة، حض كلينتون الاسد ان يخول سفيره في واشنطن وليد المعلم حضور الحفل الشهير في حديقة البيت الابيض في 13 ايلول سبتمبر 1993 عندما صافح رابين عرفات. كان المبرر الذي قدمه كلينتون للأسد ينضح نفاقاً، لكن يبقى موضع حدس ما اذا كان متعمداً او غير مقصود. قال كلينتون ان رابين بحاجة الى مساعدة الاسد! يريد رابين ان يتقدم على المسار السوري، لكنه يحتاج الى قوة سياسية اكبر. فاذا حظي اتفاق اوسلو بدعم قوي - واذا لجم الاسد "اعداء السلام"، اي تنظيمات "الرفض" الفلسطينية المتمركزة في دمشق - سيعاود رابين المفاوضات من اجل تسوية شاملة وسيجري التعامل مع مصالح السوريين. هكذا، فإن دعم اتفاق اوسلو هو في النهاية لصالح سورية! لم ينخدع الاسد، لكنه لم يشأ ان يجرح مشاعر كلينتون، فسمح لسفيره ان يحضر حفل التوقيع في حديقة البيت الابيض. لكن لم يول اهتماماً لمصالح سورية. فبعد اتفاق اوسلو، جاء دور الاردن. وافق الملك حسين على اجندة سلام مع اسرائيل بعد يوم واحد فقط من حفل التوقيع في البيت الابيض، وتحرك بعدئذ الى امام على مراحل وصولاً الى معاهدة السلام مع اسرائيل التي وقّعت في وادي عربة في 26 تشرين الاول اكتوبر 1994. مرة اخرى، اُستخدم الاميركيون لطمأنة الاسد الى انه لم يجر نسيانه، لكن لا بد ارجاء التقدم على المسار السوري مرة اخرى. وقال كلينتون موضحاً ان "الدائرة الكهربائية مُجهدة". فاسرائيل بحاجة الى وقت كي "تهضم" الاتفاقات مع الفلسطينيين ومع الاردن قبل ان تتمكن من النظر في الجولان. واعتاد الاسد ان يتساءل بجدية تشوبها سخرية من زائريه الاميركيين "ما هي هذه المشكلة بشأن الهضم لدى اسرائيل؟". لا يمكن للمرء عندما يتفحص الادلة الاّ ان يستنتج بأن رابين اعطى بالتأكيد، في آب اغسطس 1993، التزاماً بانسحاب كامل من الجولان يتم تنفيذه في اطار صفقة سلام. ونُقل هذا الالتزام رسمياً الى الاسد بواسطة وزير الخارجية الاميركي كريستوفر. لكن الشروط المفرطة التي وضعها رابين مقابل ذلك، والسرية المطلقة التي اصر عليها، وقبل كل شيء توقيت العرض الذي قدمه، يلمح كله الى انه لم يكن يعني ذلك. كان ذلك، على الارجح، مناورة سياسية، مريبة، تمت لخدمة اهداف اخرى. قبل بضعة اسابيع، في 4 تشرين الاول 1999، اُجريت مقابلة على التلفزيون الاسرائىلي مع ايتان هابر، الذي كان مدير مكتب رابين في 1993، حول عرض الانسحاب الكامل الذي قدمه رابين. روى هابر انه عندما سمع رابين بأن كريستوفر سلّم العرض للاسد باعتباره التزاماً اسرائيلياً، "صرخ بوجه وارن كريستوفر بصوت عالٍ لدرجة ان جدران مكتب رئيس الوزراء في القدس اهتزت فعلاً". وادعى هابر ان كريستوفر "تصرف بشكل اخرق" عندما قدم العرض للأسد كاقتراح اسرائيلي بدل تقديمه ك"استدلال" اميركي مما كان رابين قاله. اذا كانت رواية هابر صحيحة، فانها تقدم دليلاً اضافياً على ان رابين قال شىئاً ما، لكن بطريقة تجعل ما قاله يعني شيئاً آخر. كان واضحاً انه يحمي ظهره، ويعطي لنفسه مخرجاً. كما تقدم الحادثة مثالاً على طبيعة العلاقة بين رابين، العسكري والسياسي المخضرم، وكريستوفر، المحامي من كاليفورنيا غير المجرب نسبياً الذي لم يكن نفوذه الشخصي يرقى الى المهمة التي أُنيطت به والذي يبدو ان رابين استغله لغاياته الخاصة.