أثارت دعوة الرئيس بشار الاسد ادارة الرئيس جورج بوش الى "العمل الدؤوب لاستئناف المفاوضات" بين سورية واسرائيل جدلاً سياسياً في اسرائيل واهتماماً لدى دول اوروبية وعربية واقليمية. وتباينت الردود الرسمية الاسرائيلية بين ربط استئناف المفاوضات بتخلي دمشق عما تسميه تل ابيب "دعم الارهاب" او العودة الى مائدة التفاوض "من النقطة الصفر"، وصولاً الى توجيه الرئيس الاسرائيلي موشيه كاتساف دعوة الى الاسد لزيارة القدس. وفي المقابل، تمسك المسؤولون السوريون بما قاله الاسد في حديثه الى صحيفة "نيويورك تايمز" وهو استئناف المفاوضات "من حيث توقفت" قبل اربع سنوات، "وإننا اذا لم نقل هذا فذلك يعني أننا نريد أن نعود الى النقطة الصفر في عملية السلام. ويمكن ان يعني هذا تبديد المزيد من الوقت، وكل يوم نضحي بالمزيد من الناس الذين يقتلون والمزيد من أعمال العنف في المنطقة". وأضاف: "نرغب في استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها لكي نتوصل الى أفضل النتائج في أقصر وقت ممكن" خصوصاً "اننا اتفقنا على80 في المئة من نقاط عملية السلام". اين توقفت المفاوضات السورية - الاسرائيلية؟ في ما يأتي مراجعة لمسيرة عقد من المفاوضات: بعد مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد في تشرين الاول اكتوبر العام 1991، كانت الجلسات التفاوضية الاولى بين سورية واسرائيل بمثابة "حوار الطرشان" بسبب تشدد رئيس الوزراء اليميني اسحق شامير وافصاحه لاحقاً انه كان "يريد اطالة المفاوضات عشر سنوات" على اساس مبدأ "التفاوض لمجرد التفاوض". لكن فوز اسحق رابين في الانتخابات الاسرائيلية في حزيران يونيو 1992، اثار موجة من التفاؤل لدى المراقبين والسياسيين باحتمال بدء فترة جديدة في العملية التفاوضية. وتم التعبير عن ذلك بتكليفه السفير ايتامار رابينوفيتش رئاسة الوفد المفاوض الى الجولة السادسة من المفاوضات التي ترأسها من الجانب السوري السفير الراحل موفق العلاف بعضوية السفراء: زكريا اسماعيل ورفيق جويجاتي ووليد المعلم واحمد عرنوس والدكتور رياض داوودي. وكان "الاختراق السياسي" الاساسي في تلك الجولة التي عقدت في واشنطن في 24 آب أغسطس من العام نفسه ان الوفد السوري قدم "ورقة الاهداف والمبادئ"، فكانت "الوثيقة الاولى" التي يقدمها الجانب السوري لتأكيد الجدية في التفاوض ولاعتقاد السوريين بأن هذه الايجابية تساعد على انجاح الرئيس السابق جورج بوش في الانتخابات الاميركية في مواجهة الديموقراطي بيل كلينتون الذي كان اخذ في حملته الانتخابية على منافسه "محاباة سورية على حساب اسرائيل الديموقراطية"، قبل ان يصبح كلينتون لاحقاً من اكثر المتحمسين لتطوير العلاقات السياسية مع دمشق والاكثر اهتماماً ب"الكيمياء" مع الرئيس السوري الراحل. ومع ان ورقة "الاهداف والمبادئ" تناولت في صفحاتها الست المسارات الفلسطيني والاردني واللبناني و"الحل الشامل"، فإن النقطة الاساسية التي تمحور النقاش حولها كانت تتعلق بالبند الاول من الفقرة الخامسة لأنها تضمنت المطالبة ب"الانسحاب الاسرائيلي الكامل من مرتفعات الجولان السوري المحتلة العام 1967" و"ازالة المستوطنات الاسرائيلية كافة المخالفة لاتفاقية جنيف ومبادئ القانون الدولي ومبادئ الاممالمتحدة". "في" الجولان ومنذذاك سيتبع الجانب السوري استراتيجية تقوم على اساس عدم التقدم "ذرة واحدة" قبل سماع كلمتي "الانسحاب الكامل"، فبقيت المفاوضات تراوح مكانها باستثناء تقدم لافت تمثل في اعتبار الاسرائيليين ان القرار 242 "ينطبق على المسار السوري". وشكل هذا اختراقاً عاماً ناقض ما كان يقوله شامير من ان اسرائيل "طبقت هذا القرار لدى انسحابها من سيناء التي تشكل معظم الاراضي" العربية المحتلة. وسجل اختراق سياسي آخر، اذ ان المفاوضين الاسرائيليين بدأوا بالحديث عن انسحاب "في" مرتفعات الجولان السورية مع ان ذلك لم يرتق الى الطموحات السورية بالحديث عن الانسحاب "من" الجولان. حصل ذلك في الجولة السابعة في دفعتين بين 12 و29 تشرين الاول اكتوبر وبين 9 و19 تشرين الثاني نوفمبر من العام 1992، مع ان كلينتون فاز في الانتخابات الاميركية بين الجولتين. وعلى رغم حصول مجزرة الحرم الابراهيمي في شباط فبراير وقيام الاسرائيليين في تموز يوليو 1993 بعملية "تصفية الحساب" في الجنوب اللبناني، قرر وزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفرالقيام بجولة في الشرق الاوسط في آب اغسطس من العام نفسه، فالتقى رابين في حضور رابينوفيتش والمنسق الاميركي لعملية السلام دنيس روس على امل تحقيق تقدم على المسار السوري لاعتقاد الاميركيين بأن "سورية مفتاح السلام الاقليمي في الشرق الاوسط، وان اي اتفاق سلام مع سورية سيؤدي الى حل اردني - فلسطيني". وفي هذا الاجتماع الشهير، طرح رابين اسئلة افتراضية على كريستوفر: "لنفترض ان مطالبهم السوريين قبلت، هل سورية مستعدة لتوقيع اتفاق سلام مع اسرائيل؟ وهل ستكون على استعداد لسلام حقيقي يتضمن حدوداً مفتوحة وعلاقات ديبلوماسية كما في الحال المصرية؟ هناك عناصر يجب تحقيقها في السلام مثل اقامة سفارات وعلاقات قبل انجاز الانسحاب". وقال رابينوفيتش لاحقاً ان رابين تحدث عن "ضرورات الانسحاب التي تستلزم اجراءه في خمس سنوات مع اقامة ترتيبات امنية" وانه كان "مصراً على السرية المطلقة" لما قاله. انتقل كريستوفر الى دمشق للقاء الاسد في 4 آب، وأبلغه: "ان رابين اخبرني انه اذا اعطى الاسد ما يريده، هل يستطيع التوجه في شكل حقيقي نحو السلام؟". وبحسب باحثين سوريين فان الرئيس الاسد "فوجئ بالعرض، لكنه سأل كريستوفر: ما المقصود بكلام رابين؟ هل يعني الانسحاب الى خط الرابع من حزيران 1967؟ هذه خطوة ايجابية لكن ليست كافية لأن خط الانسحاب يجب ان يكون محدداً"، فأجاب الوزير الاميركي: "اعرف بالضبط خط الانسحاب". ولا شك في ان هذه "الرواية" تناقض رواية قدمها رابينوفيتش في كتابه "على حافة السلام" من ان خط الانسحاب لم يذكر الاّ عام 1994 وان الحديث كان عن "انسحاب كامل" وان "الوديعة" الاسرائيلية التي وضعت في "جيب" الادارة الاميركية كانت مرتبطة ب"اذا" الشرطية او "الافتراضية". وقيل ان السفير السوري السابق في واشنطن وليد المعلم ابلغ السفير روس في الطريق الى المطار: "اشعر بأن هناك زخماً تفاوضياً حقيقياً. عليك القيام بجولة ديبلوماسية مكوكية والحصول على اجابة لسؤال الاسد عن خط الانسحاب". لكن ما حصل في اللقاء الثاني بين كريستوفر ورابين كان يسير في اتجاه آخر، اذ ان رئيس الوزراء الاسرائيلي اعتبر رد الاسد "مخيباً للآمال" وانه "شعر بخدعة"، بحسب رابينوفيتش. لكن ما حصل فعلاً ان السوريين اثبتوا مهارة تفاوضية: "اخذوا التعهد بالانسحاب الكامل ثم بدأوا بالتفاوض على الجدول الزمني للانسحاب لخفضه من خمس سنوات الى ستة شهور". وقال ايتار حاير مدير مكتب رابين ان رئيس الوزراء الاسرائيلي "كان يصرخ بصوت عالٍ لانه اعتبر تصرف كريستوفر اخرق ولأنه قدم العرض للسوريين كاقتراح اسرائيلي وليس كاستدلال اميركي"، فأعطى بعدها رابين "الضوء الاخضر" لتوقيع اتفاق اوسلو الذي كانت تجرى مفاوضات في شأنه في "المسار الثاني" في العاصمة النروجية بعيداً من الاضواء والاهتمام المباشر. ويعتقد الخبير البريطاني في الشؤون السورية باتريك سيل ان "مرونة" رابين نحو سورية كانت ل"خداعها" وفي اطار اللعب بين المسارات السوري والاردني والفلسطيني، لأن تركيزه الاساسي كان على المسار الفلسطيني الذي شهد تطوراً كبيراً بتوقيع اتفاق اوسلو في ايلول سبتمبر 1993. بعدها عقدت قمة سورية - اميركية في جنيف في كانون الثاني يناير 1994، وتعهدت سورية ب"عدم تعطيل" اتفاق اوسلو. لكن وفاة باسل نجل الرئيس السوري بعدها بأيام وقيام رابين بتقديم عرض "مجدل شمس أولاً" اسوة ب"غزة اريحا أولاً" خلال لقائه كريستوفر في نيسان ابريل 1994 صبا ماء بارداً على حرارة المفاوضات على المسار السوري. "انطباع" ام "تعهد"؟ في 19 تموز التقى كريستوفر رئيس الوزراء الاسرائيلي، فجدد الاول طلبه الحصول على اجوبة لاسئلة الاسد حول "خط الانسحاب" بعد استياء سوري من عدم حمله الاجوبة المطلوبة. ويروي رابين نفسه رؤيته للموضوع عشية لقائه كريستوفر وبعد تقديمه "العرض" قبل سنة، في ثلاث صفحات كتبها في دفتره الصغير ونشرتها صحيفة "معاريف" في 11 تشرين الاول 2002 وجاء في الصفحة الاولى "ما تم الاتفاق عليه هو: ارادة الانسحاب الكامل في مقابل سلام كامل بجميع عناصره، مدة الانسحاب ومراحله، الجمع بين انجاز سلام كامل قبل اكمال الانسحاب باجراء انسحاب اولي، اجراءات امنية". ويسأل رابين نفسه: "ماذا سيحصل؟"، ثم يجيب: "ان السوريين حصلوا على وعد بانسحاب كامل هو اكثر ما تتجرأ اي دولة عربية اخرى على المطالبة به في مقابل عدم وجود اتفاق على اي عنصر من عناصر صيغة ما عرف بالصفقة الكاملة او ارجل الطاولة الأربعة". ويضيف: "ان عملية المفاوضات ستبدأ عندما يتوقع السوريون ان الاميركيين سيخونون اسرائيل خطياً. لقد بدأوا المفاوضات وجعلوا من استئنافها شرطاً للحصول على تنازلات اضافية من اسرائيل". ومرة اخرى يسأل: "ماذا سيحصل؟". ويجيب: "التأكيد للسوريين ان موضوع الارض ليس في جيبهم باعتباره عنصراً منفصلاً، بل انه موضوع مشروط بتلبية المطالب الاسرائيلية الاخرى، والاستمرار في موضوع اجراءات الامن. لن نتنازل عن اي تغيير في اجراءات الامن في اختلاف ارضية انسحاب متعلقة بالحال الجغرافية واتفاقية فصل القوات". وفي كتابه "الجيب السري" كتب رئيف شيف المعلق العسكري ل"هآرتس" ان الوزير الاميركي سأل رابين: "ماذا سأخبر الاسد؟". وأضاف: "من الحيوي بالنسبة اليّ ان اتمكن من القول له الرئيس السوري اذا رد بالايجاب على شروطك، اموراً بوضوح نهائي من دون ان يكون تعهداً نهائياً". وزاد شيف: "صدّق رابين كريستوفر، وقال: بوسعك ان تقول له ان لديه الاسباب الكافية للاعتقاد ان هذه ستكون النتيجة، لكن الاسرائيليين لم يعلنوا عن ذلك قبل تلبية كل متطلباتهم. بوسعك القول ان هذا ما فهمته انت". اما رواية رابينوفيتش فتضمنت ان رابين ابلغ وزير الخارجية الاميركي: "في وسعك تكييف الموضوع وفق نموذج الثالث من آب وان في وسعك القول ان هذا انطباعك". لكن المعلم، الذي يعمل حالياً معاوناً لوزير الخارجية السوري، قال ان كريستوفر "لم يطرح الانسحاب الى خط الرابع من حزيران على اساس انه انطباع اميركي بل على انه التزام من رابين نفسه" خلال لقاء الاسد - كريستوفر في الثاني من تموز. وعندما تسلم بنيامين نتانياهو رئاسة الوزراء بعد اغتيال رابين، انكر وجود "وديعة" ما دفع بالجانب السوري الى شرح ما حصل. فروت الخارجية السورية في وثيقة حصلت عليها "الحياة" في 2 تشرين الاول 1999 : "ابلغ وزير الخارجية الاميركي السابق سورية في تموز 1994 موافقة رابين على الانسحاب من الجولان الى خط الرابع من حزيران كالتزام لا بد منه للانطلاق الى معالجة بقية عناصر اتفاق سلام كامل. وفي هذا السياق طرح الرئيس الاسد على الوزير الاميركي سؤالين للتأكد من صحة ودقة مضمون الالتزام الاسرائيلي. السؤال الاول: هل يعني رابين بأن الانسحاب من الجولان سيشمل كل الاراضي التي كانت تحت سيادة سورية في الرابع من حزيران 1967؟ فكان جواب وزير الخارجية الاميركي: نعم. السؤال الثاني: هل هناك اي ادعاء اسرائيلي بأي قطعة من الارض الواقعة ضمن خط الرابع من حزيران، فكان جواب الوزير الاميركي: لا يوجد اي ادعاء". وهذا ما يفسر اعطاء الرئيس الراحل "الضوء الاخضر" لقناة السفراء حيث اجتمع المعلم ورابينوفيتش في 25 آب في منزل السفير روس. وكان واضحاً للسوريين ان هذه المفاوضات كانت تجري على اساس وجود اتفاق بالانسحاب الى خط 4 حزيران، فتناولت ترتيبات الامن والجدول الزمني. وبحسب خبراء سوريين، بدأ كلينتون حديثه لدى لقائه الاسد في اول قمة اميركية - سورية تعقد في دمشق في تشرين الاول 1994 من زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون قبل عشرين سنة: "لا يزال لدينا تعهد رابين بالانسحاب الى خط 4 حزيران". وفيما تعهد كلينتون بوجوب ان "لا يكون امن طرف على حساب الطرف الآخر" وان يتحقق الامن ل"جميع الاطراف" في الشرق الاوسط لطمأنة السوريين ومطالبهم في تفاصيل الترتيبات الامنية، تحدث الاسد للمرة الاولى عن "علاقات السلم العادية بين سورية واسرائيل" وان "السلام خيار استراتيجي". وكان هذا كافياً للسماح للمعلم بلقاء رئيس الاركان الاسرائيلي ايهود باراك والمستشار العسكري لرئيس الوزراء داني ياتوم في 2 و3 تشرين الثاني. وقال المعلم في حديث الى "مجلة الدراسات الفلسطينية" ان اللقاء كان "ايجابياً وتناول موضوع ترتيبات الامن" اذ ناقش باراك "الامور وترتيبات الامن بجدية". ونتيجة وصول تقارير وانطباعات ايجابية للاسد من كريستوفر وروس والمعلم ونتيجة اتصالات كلينتون، اعطي الضوء الاخضر للقاء رئيس الاركان السوري العماد حكمت الشهابي بباراك وفق الصيغة الآتية: الشهابي رابينوفيتش في 19 كانون الاول ديسمبر والشهابي - باراك في 21 كانون الاول. لكن المفاجئ ان اللقاء الاخير كان "كارثياً"، بحسب السوريين، لأن باراك كان يتحدث عن "الرسم وكيفية اختياره الالوان الى حد ان الشهابي سأل المعلم ما اذا كان هذا الشخص باراك هو الشخص ذاته الذي التقاه" قبل اسابيع. ونتيجة خيبة دمشق الكبيرة في هذا اللقاء "الكارثي" لم تستجب لاستئناف المفاوضات الا بعد وصول رسالتين خطيتين من كلينتون للاسد، حيث عادت اجتماعات السفراء وصولاً الى الاتفاق على ورقة "اهداف ومبادئ ترتيبات الامن" او ال"لا ورقة" بحسب الاسرائيليين التي اعلنت في ايار مايو 1995. وكانت تلك "الوثيقة" الاساس الذي عقدت عليه اجتماعات رئيسي الاركان الشهابي وامنون شاحاك في حزيران من العام نفسه، الى ان منيت المفاوضات بنكسة اولى باغتيال رابين في تشرين الثاني وتقديم شمعون بيريز الانتخابات الاسرائيلية وارتكابه مجزرة قانا في نيسان ابريل 1996 التي مهدت لفوز اليميني نتانياهو. وخلال سنتي حكم نتانياهو جرت بعض "الاتصالات" والمساعي الاوروبية التي قام بها المبعوث الاوروبي السابق ميغيل انخيل موراتينوس ورجل الاعمال اليهودي رون لاودر والتي كانت لا تتجاوز اظهار الرغبة في تحقيق السلام مع انها اسفرت عن "تصورات مكتوبة". لكن انتخاب باراك اعطى زخماً كبيراً للمفاوضات تمثل بحصول اول اجتماع على مستوى رفيع تمثل بلقاء وزير الخارجية السوري فاروق الشرع وباراك في "بلير هاوس" في نهاية العام 1999، تدشيناً لخطوة تفاوضية اكثر جدية تمثلت في محادثات بلدة شيبردزتاون بين باراك والشرع في بداية عام 2000. وفي لقائها الاول بالرئيس الاسد منذ انتخاب باراك في ايار 1999، تروي وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت انها كانت "مصممة" على ان تترك "انطباعاً قوياً" عند الرئيس الراحل. لكن الاسد كان يركز على ان رابين "تعهد" إعادة كل مرتفعات الجولان إذا جرى الاتفاق على موضوعي الأمن والمياه. ونقلت اولبرايت في كتاب مذكراتها الذي صدر اخيراً عن الأسد قوله: "لا يمكن ان اقبل أي شيء اقل من ذلك. لا أحد ولا أي طفل في سورية سيوافق على السلام مع أي طرف يحتفظ حتى لو بشبر واحد من أراضينا. في أي مكان في العالم، يُنظر إلى أي شخص يتنازل عن أرضه كخائن". 100 في المئة "مسألة شرف" وبعد يومين من "المحادثات المثمرة" في واشنطن، جرى الاتفاق على عقد المفاوضات في بلدة شيبردزتاون في ولاية فرجينيا الغربية حيث قتل وجرح في 17 أيلول عام 1862 نحو 22 ألف جندي في الحرب الاهلية الاميركية. كان السؤال المحوري في هذه المفاوضات: اين هي الحدود؟ أين الخط الذي كان قائماً قبل حرب حزيران؟. وتروي اولبرايت: "الأسد، الذي لم يكلّ أبداً عن إبلاغنا بأنه اعتاد السباحة في بحيرة طبريا عندما كان شاباً، أصر على ان الأراضي السورية تمتد إلى الشواطئ الشرقية للبحيرة وكذلك نهر الأردن. وبالنسبة إليه، كان رفض المساومة على الأرض مسألة شرف". وفي المقابل، سعى باراك إلى الاحتفاظ بما يكفي من الأرض لضمان "سيادة كاملة وآمنة" على البحيرة. وكان الجانب السوري يشكو من امتناع باراك عن تكرار التزام رابين بانسحاب كامل إذا لُبّيت حاجات إسرائيل الأمنية. وتتابع وزيرة الخارجية الاميركية: "بعد العودة إلى شيبردزتاون استمرت المفاوضات. أحرز تقدم حول الحواشي، لكن القضايا الجوهرية بقيت من دون حل. وعندما قدم الرئيس بيل كلينتون مسودة الاتفاق التي قمنا بإعدادها، سعى باراك الذي اصبح متردداً على نحو متزايد إلى التعطيل. ولإبطاء سير العملية اقترح رئيس الوزراء الإسرائيلي ان يُمنح الوفدان بضعة أيام لدرس الوثيقة، والإدلاء ببعض التعليقات الأولية، ثم تعليق المفاوضات قبل العودة الى جولة ثانية". اعتقد باراك بقوة ان الأسد سيقبل الاتفاق الذي كان يعدّ له: إعادة كل مرتفعات الجولان الى سورية باستثناء شريط عرضه 500 متر في محاذاة بحيرة طبريا وشريط عرضه ثمانين ياردة في محاذاة الضفة الشرقية لنهر الأردن. وسيقدم الإسرائيليون في المقابل تعويضاً عن ذلك، قطعة من أراضيهم لم تكن سابقاً في أيدي السوريين. كانت فكرة باراك ان يرزم هذه الخريطة المقترحة مع مواقف إسرائيلية تفصيلية في شأن قضايا أخرى، وان يقوم الرئيس كلينتون بتقديمها في لقاء منفرد مع الأسد. كان يرى، بحسب اعتقاده، انه يعرض على الأسد الفرصة لاستعادة 99 في المئة من الجولان، وهو عرض لن يمكن لأي رجل ان يرفضه، بحسب اعتقاد الاميركيين، غير اخذين في الاعتبار صدى ذلك سورياً لاسباب كثيرة بينها الانتقادات الكثيرة التي وجهتها دمشق للاردن بسبب "تبادل" الاراضي او ما عرف ب"تنازلات جغرافية متبادلة". وكشفت اولبرايت ان رئيس الوزراء الاسرائيلي "قدم نصاً مكتوباً كاملاً كي يستخدمه الرئيس كلينتون في حديثه مع الأسد. وبطريقة اعتقد أنها كانت تنطوي على استعلاء، قال باراك انه سيكون مقبولاً ان يرتجل الرئيس العبارات العمومية التي يستهل بها كلامه، لكن وصف احتياجات إسرائيل ينبغي ان يُتلى حرفياً". وبالفعل، وافق كلينتون على "مسايرة" باراك في ذلك. وبعدما توقفت مفاوضات شيبردزتاون بسبب رفض باراك "ترسيم" حدود حزيران، بحسب الاعتقاد السوري، بقيت القمة بين الاسد وكلينتون في 26 آذار مارس 2000 الامل الوحيد لتحقيق اتفاق السلام. وتقول اولبرايت عن هذه القمة: "بدأ كلينتون بتقديم الشكر للأسد لمجيئه ومقدّراً الصعوبات الجسدية التي واجهها الزعيم الذي بدا المرض عليه بوضوح. أجاب الأسد: لا أتعب أبداً من رؤيتك". كما اعرب كلينتون عن السرور لأنه تمكن من كسب ثقة سورية من دون فقدان ثقة إسرائيل. وعندما قال انه سيقدم عرضاً رسمياً لما كان الإسرائيليون مستعدين للقيام به، أجاب الأسد "جيّد. لن أرد حتى تنتهي، لكن ماذا في شأن الأراضي؟. وعندما قال كلينتون: الإسرائيليون مستعدون للانسحاب كلياً إلى حدود متفق عليها في صورة مشتركة"، رد الاسد: ماذا تعني ب"متفق عليها في صورة مشتركة"؟ بدأ الرئيس كلينتون يشرح وأخرج منسق عملية السلام دنيس روس خريطة تستند إلى أفكار باراك، وكانت تبيّن خطاً يمتد على طول الضفة الشرقية لنهر الأردن وبحيرة طبريا، مع تحديد واضح لشريط الأرض الذي يريد باراك الاحتفاظ به. قال الأسد: إذاً هو لا يريد السلام، من دون حتى أن ينظر الى الخريطة وقال: انتهى الأمر. وعندما تدخلت اولبرايت قائلة: "ان كلينتون لم يأتِ إلى هذا اللقاء إلا بسبب التزامه السلام وان من المستبعد أن تحصل سورية على عرض إسرائيلي افضل" وانها حضته "على إلا يفرّط بالفرصة لاستعادة 99 في المئة من مرتفعات الجولان في خلاف على شريط ضيق من الأرض"، قاطعها الوزير الشرع قائلاً: "المشكلة ليست مسألة كيلومترات. انها مسألة كرامة وشرف. الإسرائيليون لا يخسرون إذا أعادوا أرضنا. لا يمكن لأحد أن يفعل اكثر من الرئيس الأسد لضمان أن تُقبل إسرائيل في المنطقة حالما يتم التوصل إلى اتفاق".