ذكر الباحث ايتمار ربينوبيتش في نهاية كتابه "الأفق المبتعد: إسرائيل والعرب والشرق الأوسط 1948- 2012" بأن علاقات إسرائيل مع العالم العربي وموقفها الإستراتيجي في الشرق الأوسط وصل الى نقطة متدنية جداً. وقال ان الكثير مما جرى مؤخراً في المنطقة وخاصة ما سُمي ب "الربيع العربي" لا علاقة له بتحركات إسرائيل وسياساتها. لقد بدأ الواقع الجديد في المنطقة والكئيب من ناحية إسرائيل قبل عقد من الزمن، واعتمدت الدولة في ردة فعلها على الأدوات القديمة، وعلى رأسها السلام والتنسيق الأمني مع الأنظمة في مصر والأردن. وليس واضحاً مدى إمكانية الاعتماد على ذات الأساليب القديمة، في الوقت الذي تشهد المنطقة تطورات أخرى متلاحقة ومقلقة كسعي إيران لامتلاك السلاح والتقنية النووية، وتنامي هيمنة تركيا التي تحولت من شريك إستراتيجي إلى عدو شرس لإسرائيل، وتضاؤل تأثير الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط. لقد قضى البروفيسور ربينوبيتش عشرات السنوات في دراسة الوضع في المنطقة، وتحليل ودراسة الوضع المعقد لإسرائيل فيه وتوثيق محاولاتها لتحقيق السلام مع جيرانها. وخلال السنوات الأربع الممتدة من 1992 وحتى 1996 قرر ربينوبيتش تجاوز كل الخطوط وترك العمل الأكاديمي لدخول المعترك السياسي. فعمل سفيراً لإسرائيل في الولاياتالمتحدة، وترأس الوفد الإسرائيلي لمفاوضات السلام مع سوريا في عهد حكومة إسحاق رابين (بعد مقتل رابين بقي سفيراً لحكومة شمعون بيريس). وطوال هذه السنوات كان متفائلاً بحذر. أما الآن ولأول مرة طغى عليه التشاؤم بشكل واضح. والى جانب ما يراه ربينوبيتش من ضعف في القيادة الفلسطينية يمنعها من التوصل لتسوية نهائية مع إسرائيل، فإن التطورات التي تشهدها المنطقة جعلته يتوصل الى نتيجة مفادها أنه من جهة إسرائيل فإن الوقت الحالي ليس مناسباً أبداً لاتخاذ خطوات لتسوية النزاع مع الفلسطينيين. ويرى أن القيادة ستضطر لتهدئة وتيرة المواجهة وإدارة الصراع بنيران خفيفة نسبياً، حتى تتهيأ الظروف التي يمكن فيها العمل على تسوية النزاع مجدداً. وقال ربينوبيتش لصحيفة هآرتس " إن الدخول في معركة غير متكافئة، وتهديد الصواريخ المستمر للجبهة الداخلية، وانهيار عملية السلام، كل ذلك يخلق وضعاً صعباً جداً أكثر خطورة مما كان عليه قبل 10 سنوات". وأضاف يقول للصحيفة "بالنسبة للمسار الفلسطيني فأني أخشى أن لا يكون رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في وضع يسمح له بتوقيع وثيقة تُنهي الصراع. ومن جهة ثانية تحكم إسرائيل حالياً حكومة يمينية متصلبة، أحد أعضائها المهمين الوزير غدعون ساعار الذي سبق أن دعا في مراسم حصوله على جائزة ايرفينغ موسكوبيتش لخدمة الصهيونية، الى رفض فكرة الدولتين". وتابع يقول " لدينا طرف فلسطيني ضعيف، ومشكوك في رغبته وقدرته للتوصل الى اتفاقية نهائية، كذلك هناك حماس في المشهد والتي بإمكانها تخريب هذه الاتفاقية في حال التوصل إليها. وحالياً من غير الممكن التوصل لاتفاقية كاملة مع الفلسطينيين. كذلك لم يستجب الفلسطينيون للتحركين الأكثر جرأة من جانب كل من وزير الدفاع ايهود باراك ورئيس الحكومة السابق ايهود اولمرت. وفي ظل وضع كهذا يغيب فيه وجود شريك فلسطيني، ووجود حكومة يمينية في إسرائيل، وعدم وضوح ما ستؤول إليه الأوضاع في المنطقة، إلا أنه لدي انتقاد لنتنياهو، وفي نفس الوقت لن أقترح عليه المبادرة لتقديم تنازلات على الأرض لتحريك وضع ضبابي. بل سأفضل الانتظار. وبإمكاني أن أتفهم الرغبة في الانتظار أولاً لرؤية ما يجري حولنا". وأوضح البروفيسور ربينوبيتش بأنه يعارض استيلاء إسرائيل التدريجي لأجزاء من الضفة الغربية، وأبدى أسفه "على انعدام الجهود الرامية للتوصل الى تسويات جزئية على المسار الفلسطيني". وعلى حد قوله فإنه يتوجب على إسرائيل أن تهتم بالدبلوماسية الإقليمية بدلاً من البقاء سلبية. وقال "من المهم أن نتذكر بأن الولاياتالمتحدة لن تتحرك على الأقل حتى موعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل. وإذا ما فاز فيها الجمهوريون سيكونون بحاجة الى مزيد من الوقت لترتيب أنفسهم. وعطفاً على ما سبق فإنني لا أتوقع حدوث أي تحرك كبير على المدى القصير". لقد كان مجال البحث الذي وضع فيه البروفيسور ربينوبيتش كل جهده وخلاصة تجربته في إسرائيل والخارج حول سوريا ولبنان. وقال حول الوضع الحالي للرئيس بشار الأسد "إن وضعه قد حُسم، وهو ساقط في النهاية. لقد قلت هذا منذ أول تصعيد لمعركته مع المعارضة الصيف الماضي. فبشار لن يستطيع القضاء على الاحتجاجات ضده، إلا أن ضعف المعارضة وانقسامها هو سبب عدم سقوطه حتى الآن. ويبدو أن سوريا في طريقها الى حرب أهلية طويلة ودامية. فأعداد اللاجئين في تزايد ونيران ما يجري في سوريا طالت لبنان والعراق. وفقدت الحكومة السورية السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد. ورغم أن والده حافظ الأسد بقي محتفظاً بشرعيته رغم المذبحة التي نفذها بحق الإخوان المسلمين قبل 30 عاماً إلا أن الأسد الابن فقدها تماماً". ومنذ أن ترك البروفيسور ربينوبيتش العمل الأكاديمي الذي ترأس خلاله جامعة تل أبيب عاد ليكرس جهوده في تحليل الأحداث السياسية بين إسرائيل وجيرانها. فقد في كتابه "حافة السلام" الذي صدر العام 2002 مفاوضات السلام الفاشلة مع دمشق إبان حكومتي رابين وبيرتس. كما وثق باختصار في كتاب آخر هو "مخاض السلام" الذي صدر العام 2004 الاتصالات السياسية. أما كتابه الأخير "الأفق المبتعد" ففصل فيه بتوسع ما ذكره في كتابه السابق "مخاض السلام"، وتحدث فيه بالتفصيل عن كل العراقيل التي واجهت مفاوضات السلام الطويلة في كل المسارات، الى جانب بعض النجاحات القليلة المبعثرة هنا وهناك كاتفاقيتي السلام مع الأردن ومصر. وقال "إن نقطة التحول الأكثر أهمية تمثلت في وديعة رابين لدى وزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر في الثالث من أغسطس عام 1993. وكانت هذه الوثيقة بصيغة سؤال افتراضي تضمن شروط السلام الإسرائيلية لتسوية مستقبلية ومن بينها الاستعداد للانسحاب الكامل من هضبة الجولان في ظل توقع رد سوري مفصل. وهنا تم تفويت فرصة سانحة. فقد كان بالإمكان تحويل الوثيقة الى أساس لاتفاق سلام إسرائيلي – سوري. وعندها سيكون هذا الاتفاق حجر أساس داعما لعملية السلام قبل تحقيق أي تقدم على المسار الفلسطيني. لان هذا السلام كان سيُلغي مركزية ياسر عرفات وعليه سيتغير كل ما جاء في أعقابها". وأضاف البروفيسور ربينوبيتش "لنفترض أننا أعدنا هضبة الجولان للسوريين، فكيف ستكون صورتنا الآن في ضوء المذبحة الجارية هناك ؟ فلو كانت سوريا قد وقعت على اتفاقية سلام لما كانت في الوضع الذي هي عليه اليوم. إن من الأسباب الجوهرية التي جعلت حافظ الأسد يصل الى نقطة معينة ويتوقف عندها تماماً، هي خشيته من أن يفقد نظامه مبرر وجوده. فكيف يستطيع تبرير تمسكه بآلته العسكرية والمخابراتية الضخمة لو يعد العدو الإسرائيلي عدواً ؟ لقد كان حافظ الأسد حينها يسير على خُطى أنور السادات التي رفضها واحتقرها عام 1977. فالرئيس المصري السادات تصالح مع إسرائيل وتقرب من الولاياتالمتحدة، وكانت لدى السوريين ذات الرغبة. فلو وقعوا اتفاقية سلام معنا فلن تتحول سوريا الى دولة ديمقراطية برلمانية، بل كانت ستجري فيها وفي لبنان تحولات عميقة وايجابية". وتابع يقول "لقد كلفني رابين بمحاولة استيضاح ما إذا كان ممكناً التوصل الى سلام مع سوريا، ولم يخبرني حينها بوضوح انه ينوي التخلي عن هضبة الجولان، وما كان واضحاً هو استعداده للمضي بعيداً. أما في حملته الانتخابية التي فاز فيها فقد أكد رابين أنه لن ينسحب من الجولان وبعدها بدأ يتخبط. فهو لم يكن يؤمن بالتسويات الشاملة بل بالتدرج خطوة خطوة. وفي المقابل ركز على المسارين السوري والفلسطيني. بالنسبة للسوريين لم يكن ممكناً الجلوس للحديث بشكل حقيقي، حتى عبر وساطة أمريكية، فالرئيس الأسد أصر على الحصول على التزام إسرائيل بالانسحاب من هضبة الجولان بالكامل. وقبل ذلك لم يعط الأسد أي تفاصيل حول رؤيته للاتفاق النهائي. في هذه الأثناء دخلت المفاوضات مع الفلسطينيين على مسار أوسلو. ففي يوليو من العام 1993 وقف رابين أمام موقف مربك. فمن جهة كان اتفاق أوسلو جاهزاً للتوقيع، ومن جهة أخرى كان التقدم على المسار السوري محدوداً. ورغم أن الأجواء كانت مهيأة إلا أنه لم تحدث أي انفراجة على الطريق. لقد كان رابين متناقضاً حيال اتفاقات أوسلو، وكان يشعر بأن من واجبه أن يتأكد من أن لديه خيارا سوريا، وعندها فكر بالوديعة. وفي بداية أغسطس جاء كريستوفر لإسرائيل وبرفقته دينس روس المبعوث الأمريكي الخاص للمنطقة آنذاك وكنت حاضراً لقاءهما برابين. حينها ألقى رابين بقنبلة، حيث قال لكريستوفر (خذ هذه في جيبك، لاتضعها على الطاولة (مع السوريين)، وإذا تسرب ما جرى بيننا الآن سأسحب الوديعة) ليس لدي إثبات على ما جرى ولكني خرجت بانطباع بأن الأمريكيين عرضوا الوديعة على حافظ الأسد رغم تحذير رابين. عندها قال الأسد فوراً (نعم ولكن..) وبذلك قلص مجال النقاش، لان مبدأ الانسحاب الكامل كانت ضمن الوثيقة". وتابع ربينوبيتش يقول "لم يكن الرئيس الأسد مستعداً لبذل أي جهد يُذكر علناً. وقال لي رئيس الوفد السوري موفق علاف في لقاء غير رسمي خلال المحادثات المباشرة (أتمنى أن تتفهم حكومتكم أن الرئيس حافظ الأسد لن يستطيع أن يقبل منكم أقل مما حصل عليه منكم السادات) وأجبته بأننا نأمل بأن يفهم الأسد بأننا نريد مقابلاً كالذي أعطاه السادات. وكان عرض السادات لمناحيم بيغن يتضمن ما فعله أمام الجمهور الإسرائيلي، واستعداده لإلقاء خطاب في الكنيست. أما الأسد فكان يؤمن بوجوب إدارة المفاوضات بصلابة، ولم يترك ممارسة الضغوط حتى اللحظة الأخيرة. كذلك لم يكن الأسد يريد ان يدرك بأن تسليح حزب الله واستخدامه ضدنا في جنوب لبنان سيجعله عدواً في نظر الإسرائيليين. لذللك ركزت حملة "الشعب مع الجولان" في إسرائيل على الصورة السلبية للرئيس حافظ الأسد ونجحت الحملة. وفي صيف العام 1993 ذهب الأمريكيون في إجازة ولم يتابعوا خلالها وثيقة رابين، وعندما عادوا أصبحت مفاوضات أوسلو مع الفلسطينيين علنية وبدأت يتبلور الاتفاق معهم. لقد كان من الواجب عليهم البقاء في المنطقة خاصة مع استعداد رابين الانسحاب من الجولان، لقد كان هذا خطأ المسؤولين في إدارة بيل كلينتون، وكل الأطراف أيضاً ارتكبت العديد من الأخطاء خلال هذه المفاوضات". بحسب البروفيسور ربينوبيتش فقد كان حافظ الأسد مشككاً في إمكانية التوصل الى اتفاق أكثر من رابين. وقال "في العام 1995 وبعد اللقاء الثاني لرؤساء هيئة الأركان العسكرية في الجانبين أمنون ليبكن شاحاك وحكمت شهابي، قال لي رابين انه مع الرئيس الأسد لن يتحقق شيء إلا إذا تم وضعه تحت ضغط جيوسياسي، وهذا ممكن من العراق أو عبر لبنان، ولكن ليس في هذا الوقت. لقد قضى هنري كيسنجر شهراً كاملاً في المنطقة عام 1974 للتوصل الى اتفاقات الفصل، ولو أن كريستوفر تصرف مثله وسار على نهجه لربما غير التاريخ، وربما لا. عندما زار كلينتون دمشق العام 1994 بعد توقيع اتفاق السلام مع الأردن في وادي عربة رافقه في جولة بالسيارة وقال له إذا وقعت اتفاقية السلام أريد أن احصل مساعدة اقتصادية وعسكرية كتلك التي حصل عليها المصريون، غير أن كلينتون لم يرق له ما سمعه. لقد أراد الأمريكيون أن دفع السلام مع سوريا بواسطتهم، وكان كل من دينيس روس ومارتن انديك يفضل المسار السوري، وكانوا يريدون إبعاد سوريا عن إيران لاعتقادهم بأن هذه الخطوة سيكون لها أثر إيجابي. وكان الاعتقاد السائد لديهم أن الأسد بات جاهزاً للتوقيع وإتمام الصفقة. وعندما قرر رابين إظهار الوثيقة أراد بذلك اتفاقية مع سوريا وعملية متدرجة مع الفلسطينيين. ومع ضياع الفرصة المناسبة توقف المسار السوري واستمرت العملية السلمية في المسار الفلسطيني. ولو ان العملية سارت على المسارين لكان أساسها قوياً وصلباً ولما كان بيد عرفات ورقة للمقايضة". وتابع ربينوبيتش يقول "كذلك فشلت محاولة أخرى للتوصل الى سلام مع السوريين العام 2000، وأيضاً ارتكبت جميع الاطراف أخطاءً تسببت في فشلها. وإذا كان السوريون يعتقدون أن وزير خارجيتهم فاروق الشرع يستطيع رفض مصافحة باراك حتى في الغرف المغلقة فهم مخطئون. فما هي الرسالة المُراد توجيهها من هكذا تصرف ؟ وما الذي سيفهمه الجمهور الإسرائيلي من ذلك ؟ يصعب علي توزيع نسبة الخطأ هنا. فالأمريكيون يزعمون بأننا أضعنا الفرصة، غير أن اللقاء بين كلينتون وحافظ الأسد الذي جرى في شهر مارس من العام 2000 في جنيف لم يستمر أكثر من سبع دقائق عندما قال الأسد لا. كما لا يمكن الفصل بين ما حدث حينها وبين الوضع الصحي والعقلي لحافظ الأسد الذي توفي عقب هذا اللقاء بثلاثة أشهر". وإذا كان هناك من أسف على تضييع فرصة تحقيق السلام مع سوريا، إلا أن الكثير من الإسرائيليين وهم يرون المذابح التي تجري في ذلك البلد يقولون انه من الجيد أننا لم نتسرع في التوقيع على اتفاقية مع هذا النظام. علاوة على ذلك هناك من يرى بأن القسوة والوحشية هي السمة الغالبة في المشهد الداخلي السوري، فالرئيس المصري السابق حسني مبارك لم يسمح لأركان نظامه بقتل شعبه بهذه الطريقة. كذلك كان الناس في إسرائيل يتداولون قصصاً عن الوحشية التي كان يتعامل بها السوريون مع الجنود الإسرائيين الأسرى في حرب العام 1973، بينما لم يحصل ذلك للأسرى لدى المصريين. أما البروفيسور ربينوبيتش فيقول "أنا لا اظن أن هناك فرقاً في التعامل مع الأسرى، ولكن الأكيد هو أن هناك فرقاً كبيراً بين الثقافتين المصرية والسورية. ولمست هذا خلال التعامل معهم فيما يتعلق بعملية السلام. فالابتسامة تعلو دائماً وجوه المصريين، بينما في سوريا -وكذلك العراق - فإن السمة الغالبة هي القسوة". وتابع البروفيسور يقول "رغم ضياع الفرصة المتمثلة في الوديعة إلا أنه يبدو لي بأن السبب الرئيسي لانهيار مفاوضات السلام كان مقتل رابين. ورغم أنني لست متأكداً تماماً من إمكانية التوصل لتسوية نهائية في التسعينيات لو لم يُقتل رابين، إلا أنه كانت هناك فرصة سانحة بسبب قوة شخصية رابين وقدرته على إقناع الجمهور والرأي العام الإسرائيلي بالقرارات الكبرى التي يتخذها، وعلاقته المعقدة بشمعون بيرتس كانت تدعمه في هذا".