ورشة للتعريف بنظام الزراعة وأدلة ونظام أسواق النفع بعسير    «مدينة الصين».. وجهة زوار «سيتي ووك»    واجهة روشن البحرية.. وجهة مثالية لممارسي الرياضة    "نيوم" يدعم صفوفه بالحارس مصطفى ملائكة    فيصل بن فرحان يتلقى اتصالاً هاتفياً من وزير خارجية أمريكا    انطلاق كأس العالم للرياضات الإلكترونية في الرياض    جحفلي يرحل عن الهلال    الشورى يدعو «تنمية الصادرات» لدعم المنشآت ورفع قدرات المصدرين    أمير القصيم يكرم منتسبي الصحة.. ويتسلم تقرير جمعية المتقاعدين    انطلاق فعاليات الخيمة النجرانية ضمن مهرجان «صيفنا هايل 2024»    المفتي العام يستقبل مسؤولين في الطائف ويثني على جمعية «إحسان» للأيتام    الحجاج يجولون في المعالم التاريخية بالمدينة المنورة قبل المغادرة لأوطانهم    سباعي روشن يتنافسون في ربع نهائي يورو 2024    حقيقة إعلان بيولي تولي تدريب الاتحاد    ارتفاع أسعار النفط وخام برنت يبلغ 87.34 دولار للبرميل    خروج 17 ألف مواطن من سوق العمل بيونيو    ولي العهد يستعرض مع السيناتور الأمريكي كوري بوكر أوجه التعاون    فنون الأجداد بروح الشباب    "واتساب" يتيح إنشاء الصور الشخصية ب "الذكاء"    وزير الخارجية يهنئ نظيره المصري بتوليه مهمات منصبه الجديد    السجن سبع سنوات وغرامة مليون ريال لمرتكب جريمة احتيال مالي    ماكرون يحضّ نتانياهو على «منع اشتعال» جبهة لبنان    «البيت الأبيض»: الرئيس بايدن ماضٍ في حملته الانتخابية    السودان.. القتال يتجدد في أم درمان    %59.88 من مشتركي التأمينات تشملهم التعديلات الجديدة    عروض شعبية ببيت حائل    الربيعة يتفقد برامج إغاثة متضرري الزلزال في سوريا وتركيا    جامعة أم القرى تبدأ استقبال طلبات القبول    بن مشيبه متحدثاً لوزارة الحرس الوطني‬⁩    «حرس الحدود» بعسير يحبط تهريب 15 كيلوغراماً من الحشيش    جمعية البر بالشرقية تطلق برنامج إرشادي لمكافحة الإدمان    نائب أمير الجوف يعزي التمياط    ضيوف الرحمن يغادرون المدينة المنورة إلى أوطانهم    الوفاء .. نبل وأخلاق وأثر يبقى    أرامكو والراجحي يقودان "تاسي" للتراجع    الأمير سعود بن نهار يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية اليقظة الخيرية    الحرارة أعلى درجتين في يوليو وأغسطس بمعظم المناطق    الدكتور السبتي ينوه بدعم القيادة غير المحدود لقطاع التعليم والتدريب في المملكة    موسكو تسجل أعلى درجة حرارة منذ 134 عاماً    بدء أعمال الصيانة ورفع كفاءة وتطوير طريق الملك فهد بالدمام اليوم    سمو محافظ الخرج يستقبل رئيس غرفة الخرج    محلي البكيرية يناقش الأمن الغذائي للمنتجات الزراعية وإيجاد عيادات طبية    بناء محطة فضائية مدارية جديدة بحلول عام 2033    اتحاد القدم يعين البرازيلي ماريو جورجي مدرباً للمنتخب تحت 17 عاماً    تجسيداً لنهج الأبواب المفتوحة.. أمراء المناطق يتلمسون هموم المواطنين    «السياحة»: 45 مليار ريال إنفاق الزوّار القادمين إلى المملكة    وصول التوأم السيامي البوركيني الرياض    90 موهوبًا يبدأون رحلة البحث والابتكار    أزياء المضيفات    ازدواجية السوق الحرة    أمير الشرقية: مشروعات نوعية ستشهدها المنطقة خلال السنوات المقبلة    أمير القصيم ينوه بعناية القيادة بالمشروعات التنموية    الحج .. يُسر و طمأنينة وجهود موفقة    هنّأ رئيس موريتانيا وحاكم كومنولث أستراليا.. خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    تأثير التكنولوجيا ودورها في المجتمع الحديث    "التخصصي" يجري 5000 عملية زراعة كلى ناجحة    أمير القصيم يكرّم عدداً من الكوادر بالشؤون الصحية في المنطقة    "الطبية" تعالج شلل الأحبال الصوتية الأحادي لطفل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باتريك سيل يكتب ل"الحياة" قصة "الوديعة الرابينية". لم تبدأ المفاوضات الأمنية إلا بعد الالتزام الاسرائيلي الانسحاب الى حدود 4 حزيران
نشر في الحياة يوم 22 - 11 - 1999

} تنشر "الحياة" الحلقة الثانية من تحقيق باتريك سيل الذي تقصّى فيه حقيقة "الوديعة الرابينية". وتشير المعلومات المؤكدة ان رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق اسحق رابين تعهد مرتين بالانسحاب الكامل من الجنوب 3-8-93 و20-7-94. غير أنه رغب في إبقاء الأمر سرياً حتى عن وزرائه ومعاونيه وجنرالاته. ولقد احترم الرئيس السوري حافظ الأسد هذه الرغبة معتبراً أن "الشاهد" الأميركي يكفي خاصة وأن كبار المسؤولين في واشنطن أكدوا له أن المفاوضات انما تتم بناءً على هذا الالتزام من رابين. وحصل سيل على النص الحرفي لأهداف الترتيبات الأمنية ومبادئها وتنشرها "الحياة" لأول مرة باعتبارها الوثيقة التي تتحكم بالمفاوضات اللاحقة حول الموضوع مع أن الأميركيين والاسرائيليين يسمونها "لا ورقة". غداً حلقة ثالثة وأخيرة.
يحرص الرئيس حافظ الأسد في التفاوض مع اسرائيل على توضيح أدق التفاصيل، رافضا ذلك "الغموض البنّاء" الذي كان موضع فخر وزير خارجية أميركا الأسبق هنري كيسنغر اثناء تحركاته الديبلوماسية في الشرق الأوسط خلال السبعينات. ذلك ان الأسد تعلم بالتجربة ان الغموض يشكل دوما مصدرا للخلاف وسوء التفاهم. وكان هذا دافعه، عندما حمل اليه وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر في 4 آب أغسطس 1993 التزام رئيس الوزراء اسحق رابين الانسحاب الكامل من الجولان، الى طرح سؤالين على المسؤول الأميركي: الأول، "هل يقصد رابين عندما يتحدث عن الانسحاب الكامل الانسحاب الى المواقع التي كانت تحتلها اسرائيل في 4 حزيران 1967؟". وكان جواب كريستوفر: "عندي التزام بالانسحاب الكامل، لكن دون تحديد الخط". السؤال الثاني: "هل تملك اسرائيل ادعاء بأية أراض احتلتها على الجبهة السورية في حزيران 1967؟". وكان جواب المسؤول الأميركي: "ليس حسب علمي".
كان الأسد بحاجة لجواب على كل من السؤالين، لكنه بدأ بالشك في جدية رابين وعزيمة الوسيط الأميركي عندما مرت الشهور دون احراز تقدم. وبدا له ان كريستوفر والمنسق الأميركي الخاص للشرق الأوسط دنيس روس لم يزيدا، في أفضل حال، على ان يكونا ساعيي بريد لاسرائيل، وفي اسوأها مساندين لها، بدل القيام بدور الوسيط النشيط والمنصف.
وفي قمة جنيف بين الرئيس الأسد والرئيس كلينتون في 16 كانون الثاني يناير 1994 أعلن الأسد أن سورية "اتخذت الخيار الاستراتيجي للسلام"، وانه مستعد لاقامة "علاقات طبيعية سلمية" مع اسرائيل مقابل الانسحاب الكامل. ورحب الرئيس الأميركي بالتصريحين، وحث اسرائيل علنا على التجاوب. لكن رابين عبّر عن انزعاجه من نتيجة القمة، ولم تكن هناك متابعة تذكر لها. بعد ذلك انتظر الأسد، بنفاد صبر متزايد، ان "تهضم" اسرائيل اتفاقيها مع الفلسطينيين والأردن لتستطيع تحويل انتباهها الى المسار السوري.
سؤالان من الأسد
ولم تأت التوضيحات التي طلبها الأسد الى أن قام كريستوفر وروس بسلسلة من المهام المكوكية الموسعة من نيسان أبريل الى تموز يوليو 1994، بدءاً بزيارة من يومين الى دمشق قام بها كريستوفر من 30 نيسان الى الأول من أيار مايو، نقل خلالها الى الرئيس السوري صفقة السلام التي يقترحها رابين. ولم تختلف الصفقة كثيرا عن التي اقترحها رئيس وزراء اسرائيل في آب 1993.
واذ أكد رئيس الوزراء الاسرائيلي على التزامه الانسحاب الكامل، فقد اقترح ان يكون على مراحل تمتد خمس سنوات، بدءاً بانسحاب ضئيل لا يتجاوز ميلاً او ميلين. لكنه أراد مباشرة من المرحلة الأولى حدودا مفتوحة وعلاقات ديبلوماسية تشمل تبادل السفراء وترتيبات أمنية معقدة.
وهنا ذكّر الأسد الوزير الأميركي بالسؤالين: هل يعني الانسحاب الكامل العودة الى خطوط 4 حزيران 1967؟ وهل تطالب اسرائيل بأي من الأراضي التي احتلتها في 1967؟ ولم يستطع كريستوفر مرة اخرى اعطاء الأسد التوضيحات المطلوبة، لكنه قال انه يعتقد ان رابين يقصد الانسحاب الى الحدود الدولية بين سورية وفلسطين حسب الاتفاق البريطاني - الفرنسي عليها في 1923. ورفض الرئيس السوري ذلك في شكل قاطع، مشيراً الى ان سورية المستقلة لم تكن طرفا في ترسيم تلك الحدود، التي لم تزد على ان تكون خطا رسمته الامبريالية على الخريطة العربية: الخط الذي كان يريده هو ما كان بين الطرفين عشية حرب 1967. وأوضح الرئيس الأسد في شكل لا يقبل الشك بأن ليس من عملية للسلام بين سورية واسرائيل ما لم يلتزم رابين الانسحاب الى خط 4 حزيران، وان كل ما تم في العملية سوف يلغى لأن سورية لن تتخلى عن شبر واحد من أرضها. ان الجولان رمز رئيسي لسيادة سورية واستقلالها، والتخلي عن شبر واحد يعني التخلي عن الكل. وعاد الى المطالبة بتوضيح فوري لالتزام رابين.
حدود 4 حزيران
ولم يتمكن كريستوفر من تقديم التوضيح الذي طالب به الأسد في آب من السنة السابقة الا بعد ان قام برحلة مكوكية اضافية بين القدس ودمشق ما بين 19 و22 تموز 1994. وأعلن الوزير الأميركي ان رابين التزم الانسحاب الكامل الى خطوط 4 حزيران 1967 شرط تحقيق متطلباته ضمن صفقة للسلام. وان على الالتزام، كالعادة، أن يبقى سريا لحماية رابين من منتقديه الاسرائيليين. بعد أيام قليلة، في 25 تموز، تكلم كلينتون هاتفيا مع الأسد، واتفق الاثنان على ان التوضيح يشكل انجازاً رئيسياً حققته رحلة كريستوفر المكوكية الأخيرة.
بعد أن حصل الأسد على هذا الالتزام الواضح من رابين وافق على بدء جولة جديدة من المفاوضات المكثفة يقوم بها في واشنطن السفيران السوري وليد المعلم والاسرائيلي ايتمار رابينوفيتش، بحضور المنسق الأميركي دنيس روس.
هل كان "توضيح" رابين مجرد خدعة جديدة؟ الواضح ان الرئيس كلينتون ووزير خارجيته كريستوفر اعتبرا ان الالتزام حقيقي وأوصلا ذلك الى الرئيس الأسد.
مع ذلك فان رابينوفيتش في كتابه "حافة السلام" يعطي رواية تختلف في شكل مهم عما حصل في 19 تموز عندما طلب كريستوفر من رابين أن يوضح اذا كان التزامه "الانسحاب الكامل" يعني العودة الى خطوط 4 حزيران 1967. كتب رابينوفيتش: "كان رابين في هذا الوقت قرر بوضوح ان بإمكانه دمج هذه القضية خط 4 حزيران في الهيكلية التي تم الاتفاق عليها في 4 آب". وقال لكريستوفر ان بامكانه القول الى الأسد بأن هذا هو "انطباعه". لكن الظاهر ان رابين لم ينبه كريستوفر الى وجوب عدم اعتبار "التوضيح" "التزاما". وبقيت هذه الخدعة الكلامية في ذهن رابين وحده. من هنا لم يكن مستغربا ان كريستوفر بعد سماع كلام رابين اعتبر انه يشكل "التزاما". وكما قال ناطق باسم الخارجية الأميركية في تشرين الثاني نوفمبر 1999 في معرض مراجعة القضية: "نحن لا نقدم اكثر مما نحن مخولون بتقديمه".
مشكلة رابين كانت انه أكد مرارا وتكرارا الى كلينتون وكريستوفر جديته في التوصل الى السلام مع سورية، وهو ما نقله الأميركيون عنه بصفاء نية الى السوريين. لكنه في الحقيقة لم يكن متعجلا لذلك، كما لم يكن، بالتأكيد، راغباً في دفع الثمن العادل المطلوب. هكذا، ولترضية الأميركيين الذين كانت سمعتهم على المحك بالنسبة للسوريين، دخل رابين تلك المفاوضات الوهمية، "حتى كما في التعبير الجدير بالانتباه الذي كتبه رابينوفيتش لو تطلب ذلك احياناً تقديم تنازلات كلامية" ص 239
"تنازلات كلامية"؟ هذا المثال الاضافي على المراوغة يشير الى ان رابين خدع عمداً كلا من الأميركيين والأسد.
شكوك الرئيس السوري
يرى الأسد ان عملية السلام أساساً وسيلة ديبلوماسية لاستعادة الأرض التي خسرتها سورية الى اسرائيل في حرب 1967. وكان الأسد من 1967 الى 1993 وضع استعادة الأراضي الفلسطينية على رأس أولوياته. لكن بعدما قرر الفلسطينيون ان يشقوا طريقهم المستقل في أوسلو، ركّز الرئيس السوري على استعادة مرتفعات الجولان والأراضي اللبنانية التي تحتلها اسرائيل مباشرة أو من خلال عملائها منذ أكثر من ثلاثة عقود، واصبح هذا تعريفه ل"السلام الشامل".
وكان الأسد التزم في نقاشه مع كلينتون وكريستوفر وروس، وقبلهم الرئيس جورج بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر، خطا ثابتا تماما، بأنه يريد سلاما عادلا وشاملا ينهي الاحتلال الاسرائيلي ويضمن للعرب حقوقهم حسب الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام كما يكرسه قرارا مجلس الأمن 242 و338.
لكن الرئيس السوري يشك في أن قادة اسرائيل قد توصلوا الى قرار استراتيجي بالسلام مع سورية مواز لقراره. وكان قد قبل منذ زمن بواقع وجود اسرائيل، وهو يدرك، بما له من واقعية، ان اسرائيل اصبحت لاعبا مهما في نظام الشرق الأوسط ويعلن استعداده لاقامة "علاقات طبيعية وسلمية" معها. لكنه يرفض ان تكون اسرائيل اللاعب المسيطر أو المهيمن في ذلك النظام. ولا يريد سلاماً يكرس تفوق اسرائيل الاقليمي عن طريق توفير مزايا استراتيجية اضافية لها. ويرى، مصيبا أم مخطئا، ان اسرائيل تضمر المزيد من الطموح للهيمنة تحاول تحقيقه تحت ستار عملية السلام. ويعتبر أن طموحات اسرائيل هذه لا تؤدي الى السلام بل الى المزيد من الصراع مستقبلا.
ومع تحرك المفاوضات من مأزق الى آخر تعمقت شكوك الأسد بنوايا اسرائيل. وسأل سفيره في واشنطن وليد المعلم مرارا: "هل الاسرائيليون جادّون؟ هل اتخذوا الخيار الاستراتيجي للسلام أم انهم يحاولون خداعي؟".
النقاش على الأمن
الموضوع التفاوضي المهم الآخر، الذي طرح متوازيا مع التفاوض على معنى "الانسحاب الكامل"، كان العنصر الأمني في السلام. وللترتيبات الأمنية أهمية حاسمة للطرفين لأنها تشكل جوهر منظور كل منهما للسلام. وكان الأمن الموضوع الرئيس في المفاوضات خلال الشهور العشرين من نيسان 1994 الى اغتيال رابين في أوائل تشرين الثاني 1995.
وفيما طالب رابين بترتيبات أمنية كان لها ان تحيّد سورية عسكرياً فيما تضمن لاسرائيل تفوقا على المدى البعيد، حاول الأسد الحد من الترتيبات لكي تلبي ما اعتبره احتياجات اسرائيل الأمنية الحقيقية دون ان تزيد على ذلك. فقد كانت اسرائيل، بكل مقياس عسكري ممكن، متفوقة الى حد كبير على سورية، ولم يكن من المعقول لها ان تطلب المزيد من التفوق. من هنا أصر الأسد على أن تكون الترتيبات متساوية ومتكافئة ومتقابلة، مؤكدا في الوقت نفسه ان السلام هو الضامن الأفضل للأمن.
انشغل المفاوضون، لدى بحث الجانب الأمني، بقضيتين أساسيتين. فقد نقل كريستوفر الى الأسد ان رابين يصر على الاحتفاظ بمحطة الانذار المبكر في جبل حرمون جبل الشيخ داخل الأرض السورية - وهي المحطة التى لا تزال مصدرا لشعور المهانة والغضب لدى السوريين. وتتمكن اسرائيل بفضل اجهزة الرادار والتنصت هناك من تغطية العمق السوري واللبناني، وحتى العراقي. ويبلغ من قدرتها انها تستطيع التقاط المكالمات الهاتفية في دمشق.
جواب الأسد كان الرفض الأكيد لإبقاء محطة كهذه على الأرض السورية، معتبرا انها رمز للاحتلال. واقترحت سورية بالمقابل الاستعاضة عن المحطة الأرضية بالرصد الفضائي والجوي الذي يفي بحاجات الطرفين، وأيضا نشر قوة دولية في الجولان بينهما. لكن اسرائيل أصرت على محطة أرضية للانذار المبكر، ولا يزال هذا مصدراً لخلاف رئيسي بين الطرفين.
أوضح كريستوفر الى الرئيس السوري أيضا ان رابين يقترح تقسيم كل سورية الى اربع مناطق: منطقة منزوعة السلاح، وثانية محدودة التسلح، وثالثة لا يسمح فيها لها بسوى فرقتين ومطار عسكري واحد، ومنطقة رابعة في بقية سورية لا تحديد على تسلحها. وقابل الأسد الاقتراح بغضب شديد. فبدل الانسحاب من الجولان ها هو رابين يريد احتلال كل سورية! انه يريد نزع سلاحها وحرمانها من القدرة على الدفاع عن النفس! هل يريد من سورية ازالة مطار دمشق!
عندها أعلن الأسد المبدأ الرئيسي لموقفه التفاوضي: اقتصار الترتيبات الأمنية على مناطق التماس بين اسرائيل وسورية، اي على شريط ضيق من الأرض عرضه من خمسة الى سبعة كيلومترات على جانبي خط 4 حزيران 1967. وعرف المفاوضون هذا الشريط، الذي يتم فيه تحريم او تحديد وجود قوات مسلحة، باسم "المناطق ذات العلاقة". لكن الخلاف برز هنا أيضاً عندما اصرت اسرائيل على ان يكون الشريط أكثر ما يمكن عرضا، خصوصاً على الجانب السوري من الخط، فيما أرادته سورية ضيقا. هكذا فان غالبية النقاش خلال 1994 و1995 دار على هاتين القضيتين: الانذار المبكر وتعريف ما سمي "المناطق ذات العلاقة".
استنتج الرئيس الأسد من النقاش الطويل والعقيم هذا ان ليس من امكان للتقدم ما لم تتوصل القيادتان السياسيتان الى اتفاق على الأهداف والمبادئ العامة للترتيبات الأمنية. وشعر أن اتفاقا سياسيا كهذا يمكن ان يوفر القاعدة الضرورية للجانب التقني من المفاوضات، اي ان الخبراء العسكريين من الطرفين سيتمكنون من انجاز التفاصيل انطلاقا من الخطوط العريضة التي يقدمها لهم قادتهم السياسيون.
الأهداف والمبادئ
وعندما زار الرئيس كلينتون دمشق في 27 تشرين الأول أكتوبر 1994، في طريق عودته من مراسيم توقيع معاهدة السلام الأردنية - الاسرائيلية في وادي عربة، طرح عليه الأسد ما اعتبره المبادئ الأساسية للترتيبات الأمنية. وتزايد اقتناع الرئيس السوري خلال الأسابيع التالية بالحاجة الى اعلان مشترك عن الأهداف والمباديء، خصوصاً عندما فشل قائدا الأركان السوري والاسرائيلي، - اللواء حكمت الشهابي والجنرال رئيس الوزراء الحالي ايهود باراك في احراز اي تقدم في اجتماعات واشنطن من 21 الى 23 كانون الأول ديسمبر.
من هنا وجه الرئيس السوري في 20 كانون الثاني يناير 1995 رسالة كتابية الى الرئيس كلينتون تضمنت ما تعتبره سورية الأهداف والمبادئ التي يجب ان تتحكم بالترتيبات الأمنية. وهدف الأسد من خلال كل هذا الى خفض مطالب اسرائيل الأمنية لكي تتناسب مع ما يرى انه احتياجاتها المشروعة، وضمان عدم حصولها على ميزات استراتيجية لا حق لها فيها. فوق كل هذا كان هناك حرصه على ان لا تستعمل اسرائيل احتياجاتها الأمنية ذريعة لانتهاك خط 4 حزيران.
وبعد الكثير من التباحث والمزيد من الرحلات المكوكية في المنطقة من قبل كريستوفر وروس تم التوصل الى اتفاق في 24 أيار مايو 1995 على وثيقة من صفحة واحدة بعنوان "أهداف ومبادئ الترتيبات الأمنية". وأطلق الأميركيون عليها صفة "اللا ورقة" لكي يوضحوا، كما يبدو، انها ليست وثيقة رسمية أميركية بل وسيلة ديبلوماسية اتفق عليها الطرفان بمساعدة أميركية لدفع المفاوضات الى أمام.
وقد تجد غالبية القراء ان النص نوع من تحصيل الحاصل، لكن المفاوضات عليه استغرقت أسابيع عدة:
{ الأهداف:
1 الأولوية الأهم خفض، ان لم يكن الغاء، خطر هجوم مفاجئ.
2 تجنب الاحتكاك اليومي على خط الحدود، أو خفضه الى الحد الأدنى.
3 خفض خطر هجوم واسع او غزو او حرب رئيسية.
{ المبادئ:
1 الأمن احتياج مشروع للجانبين. وليس من مطالبة بالأمن، أو ضمان له، على حساب أمن الطرف الآخر.
2 على الترتيبات الأمنية ان تكون متساوية ومتكافئة ومتقابلة للطرفين.
3 يدرك الطرفان أن التوصل للترتيبات الأمنية يجب ان يتم من خلال اتفاق متقابل، وان يتماشى بهذا مع سيادة وسلامة أراضي كل من الطرفين.
4 على الترتيبات الأمنية ان تقتصر على المناطق ذات العلاقة على جانبي الحدود بين البلدين.
يقدم ملحق بالفقرة الثانية من القسم الثاني اعلاه تفسيراً اضافياً الى مفهوم "التساوي في الترتيبات الأمنية" هدفه ان يأخذ في الاعتبار رأي اسرائيل في ان التباين في جغرافيا البلدين يستدعي قدراً من المرونة:
"التساوي، تحديداً في ما يخص الجغرافيا والمصاعب التي تسببها، هو كما يلي:
غاية الترتيبات الأمنية الضمان الكلي للأمن في سياق السلام بين سورية واسرائيل. واذا تبين خلال المفاوضات على الترتيبات الأمنية ان تنفيذ مبدأ التساوي، في ما يتعلق بالجانب الجغرافي لترتيب معين، مستحيل او زائد الصعوبة فإن الخبراء من الطرفين سيبحثون هذه الصعوبة في الترتيب المعيّن وحلها اما بتعديله من ضمن ذلك الاضافة اليه او الاجتزاء منه أو عن طريق الاتفاق المتبادل على حل مرض.
وكانت الفقرة الأخيرة في الوثيقة الفقرة 4 مثاراً لمماحكة طويلة. فقد كان نص الصيغة السورية الأصلية "... على جانبي خطوط 4 حزيران 1967" بدل "على جانبي الحدود". لكن كريستوفر اعترض بأن خطوط 4 حزيران مسألة "بالغة السرية"، أي انها تنتهك قاعدة السرية التي اصر عليها رابين. وبرز اقتراح بأن يحرر الأميركيون رسالة جانبية الى الرئيس الأسد تؤكد ان "الحدود" هنا تعني خطوط 4 حزيران.
الا ان رابين اعترض على فكرة الرسالة. وأوضح المنسق الأميركي روس للرئيس السوري ان رابين لا يعارض نقل الالتزام هذا شفهياً، لكنه يرفض تسجيله كتابة من قبل الأميركيين - اي ان الرفض انصب على الشكل وليس المضمون. وهنا قدم روس صيغة جديدة، وهي ان اسرائيل قدمت الالتزام الى الولايات المتحدة وليس الى سورية، وهو بذلك "وديعة في جيب اميركا". وبعد المزيد من هذا النوع من الحذلقة وافق الرئيس الأسد على انه ليس بحاجة الى رسالة مكتوبة. فهي لن تضيف شيئاً الى الالتزامات التي قُدمت بالفعل - من قبل الرئيس كلينتون ووزير خارجيته كريستوفر وروس نفسه. "انه الالتزام مسجل في محاضركم ومحاضرنا. انه على الورق. انه ليس "لا ورقة"، وهو في ملفات مجلس الأمن الوطني. وإذا لم يشكل هذا التزاماً فليس هناك ما يمكن ان يشكل ذلك. ولو لم نعتبره التزاماً لما كنا دخلنا في محادثات السلام".
دعامتا موقف دمشق
من ذلك الوقت الى اليوم قام موقف الأسد التفاوضي على دعامتين، هما التزام رابين الانسحاب الكامل الى خط 4 حزيران، ووثيقة "الأهداف والمبادئ". واعتبر الرئيس السوري ان الاثنين سوية يقيدان في شكل كاف مطالب اسرئيل الأمنية. أو كما أوضح لكرستوفر: ان التزام رابين الانسحاب الكامل لا يعني ان لاسرائيل ان تطلب بالمقابل كل ما يحلو لها. ولم يعد بإمكان اسرائيل فرض الترتيبات الأمنية، بل كان عليها ان تضع مطالبها في حدود المعقول. وأصر الأسد على ان هناك حدوداً لكل شيء: "على احتياجات واحد من البلدين ان تتوقف عند حدود احتياجات البلد الآخر، مثلما تتوقف حرية شخص ما عند النقطة التي تبدأ منها حرية الشخص الآخر".
بعد ذلك حث الرئيس كلينتون، حرصاً منه على ان يرى تقدماً، الرئيس الأسد على ارسال رئيس الأركان اللواء الشهابي مجدداً الى واشنطن للاجتماع مرة اخرى الى نظيره الاسرائيلي - هو وقتها الجنرال أمنون شاهاك، اذ كان باراك غادر الجيش ودخل ميدان السياسة. لكن كانت هناك مشكلة، وهي أن رابين لم يكن أبلغ جنرالاته التزام الانسحاب الى خط 4 حزيران، ولذا طلب كلينتون من الأسد ابقاء القضية سرية، والتأكد من عدم ذكرها من قبل الشهابي عندما يقابل شاهاك.
وفي 6 حزيران 1995 أرسل كلينتون رسالة من خلال روس: "مثلما قلت لك في دمشق، وكما أكدت لوزير خارجيتك، ان في جيبي التزاماً من رئيس الوزراء رابين بالانسحاب الكامل الى خط 4 حزيران 1967..."، لكنه أضاف أن "ليس من المناسب الكلام عنه علناً" عندما يجتمع رئيسا الأركان.
اضافة الى ذلك أوضح روس للأسد أن شاهاك ربما اضطر لمواجهة لجنة الشؤون الخارجية في الكنيست، وانه لا يستطيع الاعتراف بالالتزام امامها، بل يفضل ان يتكلم عن "خيارات": اذا بقيت اسرائيل في الجولان فإن احتياجاتها الأمنية ستكون كذا وكذا، أما اذا انسحبت الى خط 4 حزيران فستختلف الاحتياجات الخ. وكرر الوزير كريستوفر النقطة نفسها للرئيس الأسد عندما التقاه بعد أيام من ذلك: رابين بحاجة الى قدر من المرونة عند الاجابة على اسئلة علنية. لكنه طمأن الرئيس السوري في الوقت نفسه ان ليس من اهمية عملية لذلك بالنسبة للمفاوضات لأن الالتزام كان بالتأكيد في جيب أميركا.
من جهته كان الأسد مستعداً للمضي في تلك المهزلة لحماية رابين من اعدائه السياسيين. لكنه اجاب كريستوفر وروس بأن لا بديل لسورية من انسحاب الى خط 4 حزيران 1967، وقال: "لا اريد استمرار اي سوء فهم او غموض" حول ذلك.
ثم التقى الشهابي وشاهاك في واشنطن من 26 الى 29 حزيران، واستقبلهما كلينتون في البيت الأبيض بعد المفاوضات. لكن الخلاف تفجر فوراً تقريباً، وليس على نتيجة التفاوض فحسب، بل اذا ما كانت هناك نتيجة اصلا. واذ كانت المشكلة الرئيسية تعريف "المناطق ذات العلاقة"، فإن الشهابي اعتقد ان شاهاك، عدا ذلك، اتفق معه في ما يخص الانذار المبكر، وهو القضية الرئيسية الأخرى، على ان بالامكان الاستعاضة عن المحطة الأرضية بالاستطلاع الفضائي والجوي. الا ان الاسرائيليين خالفوا ذلك، واشتبك الطرفان في جدل حاد على الموضوع.
أدى كل هذا الى اقتناع الرئيس الأسد بأن رابين كان يتقصد تضييع الوقت، وان تردده وهوسه بالسرية لا يعنيان سوى شيء واحد، وهو انه لم يكن قد اتخذ القرار النهائي بالتوصل الى السلام مع سورية، واراد الاحتفاظ بدل ذلك بخيار التراجع عن الحافة اذا دعت الضرورة. خلال ذلك كانت فرصة التسوية قبل موعد الانتخابات الاسرائيلية في طريقها الى التلاشي. ورأى الأسد، اضافة الى ذلك، ان كريستوفر وروس لم يضغطا على اسرائيل للتقدم نحو السلام بل كانا يدعمانها في لعبتها التي تتلخص بالتفاوض العقيم على الشكليات بدل القضايا الجوهرية. باختصار، ان اميركا تخلت عن دورها القيادي وسمحت لرابين بفرض الوتيرة. هل كانت شكوك الأسد في مكانها؟
يقول عارفو رابين عن كثب انه، عكس الانطباع عنه كقائد قوي، كان شخصاً خجولاً متردداً، ولم يعتقد ان لديه تخويلاً شعبياً بالانسحاب من الجولان لأن القضية لم تطرح في الحملة الانتخابية في 1992. كما كره الدخول في مواجهة مؤلمة مع مستوطني الجولان الذين كان أكثرهم من مؤيدي حزب العمل. وأيقن رابين منذ صيف 1993، كما يؤكد رابينوفيتش، ان التوصل الى اتفاق مع سورية خلال ولايته الأولى ليس بالأمر الواقعي، بل ربما كان عليه الانتظار الى الولاية الثانية، وان يرى وقتها اذا كان هو في موقع القوة فيما يكون الأسد في موقع أضعف. خلال ذلك كتم رابين نواياه عن الأميركيين والسوريين سوية.
مع مراوحة رابين مكانه بدأ التشاؤم في السيطرة على اجواء المفاوضات السورية - الاسرائيلية. وفي 4 تشرين الثاني 1995 اغتيل رابين ودخلت عملية السلام مرحلة جديدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.