متى نقترب من النسبة الصفرية للبطالة ؟    الذكاء البشري في مأزق    «المنظمة العربية للطاقة».. رؤية سعودية جديدة للتعاون الإقليمي والدولي    نمو الإنتاج الصناعي غير النفطي 21.8 % في أربعة أعوام    الطلب العالمي على النفط يرتفع 1.6 مليون برميل يومياً    مواطن مستبصر    عودة الأمل اللبناني    20 مليار دولار خسائر متوقعة لحرائق لوس أنجلوس    الشرع وميقاتي يبحثان ملفات اللاجئين السوريين والأموال المجمدة في لبنان    هل أشرقت شمس النصر الجديد؟    ماتياس والرئيس    جوارديولا: ووكر طلب الرحيل عن مانشستر سيتي    الديوان الملكي: وفاة والدة صاحبة السمو الملكي الأميرة فهده بنت فهد بن خالد بن ناصر بن عبدالعزيز آل سعود    متعب بن مشعل يحضر ختام مهرجان زيتون الجوف    الطائرة الإغاثية التاسعة تصل مطار دمشق    فالفيردي : سنلعب بعقلية الفوز .. و"بيدري": الكلاسيكو يمنحنا الحماس لتحقيق اللقب    القيادة تهنئ سلطان عُمان    خير المملكة.. دعمٌ مستمر    الشيخ علي بن نوح.. إلى رحمة الله    عشرة فائزين ب"جائزة صيتة" في العمل الاجتماعي    «اسلم وسلّم».. توعية سائقي الدرّاجات    نائب أمير حائل يستقبل رئيس "مُحكم لتعليم القرآن"    خطيب المسجد الحرام: امتثلوا للأوامر واجتنبوا الكبائر    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالتخصصي ينهي معاناة شاب كويتي مع الجنف المضاعف    نائب رئيس مجلس الوزراء وزير خارجية الإمارات يصل إلى الرياض    فحص الزواج غير مطابق ولكن قيس يريد ليلى    أوكرانيا تكشف تعاون كوريا الشمالية مع روسيا بأسر الجنود    السودان يقف في ظل صراع غير منتهٍ    ضبط يمنيين في جازان لترويجهما (56) كجم "حشيش"    الفهود تسقط النمور    التعاون يتغلّب على القادسية بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    للمملكة أهداف أنبل وغايات أكبر    القبض على 7 وافدين ظهروا بمشاجرة في عسير    لقاح الإنفلونزا والغذاء الصحي.. نصائح مهمة للوقاية من نزلات البرد    الطرق تشدد على معايير تصميم الإنارة    الأزمات.. بين الانتهازية والإنسانية !    رقم قياسي جديد لموسم الرياض بأكثر من 16 مليون زائر    الشاب "موسى النجم" يدخل "القفص الذهبي"    تشييع الحربي صاحب ال 50 حجة في مقبرة الوجه    «ضاع قلبي في جدة».. نوال الكويتية ورابح صقر يشعلان ليل العروس بحضور جماهيري كبير    المنافذ الجمركية تسجل أكثر من 1900 حالة ضبط خلال أسبوع    فريق جامعة المؤسس يحقق بطولة السلة للجامعات    انطلاق ملتقى " إضاءة عسير " الاثنين القادم    تعددية الأعراق والألوان تتوحد معك    نادي جازان الأدبي يكرم الزميلة خلود النبهان    وكيل "الشؤون الإسلامية" للمشروعات والصيانة: تدشين الأدلة الفنية للمساجد إنجاز نوعي برؤية شاملة ومعايير عالمية    أكثر من 300 جلسة رئيسية في النسخة الثالثة من قمة المليار متابع    خالد عبدالرحمن ل«عكاظ»: جمعنا أكثر من 10 قصائد وننوي طرح ألبومين سامريات    ابعد عن الشر وغني له    القائد الذي ألهمنا وأعاد لنا الثقة بأنفسنا    «الغذاء والدواء» تحذّر من منتج لحم بقري لتلوثه ببكتيريا اللستيريا    بالشرقية .. جمعية الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم"    خطيب المسجد الحرام: قيدوا ألسنتكم عن الوقيعة في الأعراض    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما أجمل ليل فرانكفورت ... سيراً ونظرات
نشر في الحياة يوم 30 - 11 - 2008

توقف الميترو في محطة "لوكال بانهوف" في منطقة "زاكسن هاوزين" قادماً من مطار"فرانكفورت ماين". شمس الثانية عشرة ظهراً تتسلل رفيعة كخيوط العنكبوت. البرد يخرق معطفي السميك. الحرارة لا تتعدى الخمس درجات. يبتسم زميلي فيليكس فيما أفرك كفاً بكفّ، ليطعلني أن الطقس جميل اليوم،"فالشمس مشرقة والحرارة معتدلة"! أستغرب، خلته يهزأ. يستدرك علامات التعجّب المرتسمة على وجهي، فيشرح أن هذه الخيوط الصفراء هدية من السماء في مثل هذه الأيام الخريفية في مدينة فرانكفورت. يضع حقيبتي الزرقاء الثقيلة على الأرض. ينصحني بعدم الخروج من دون قبعة تغطي أذنيّ، وشال من الصوف يقي عنقي من الهواء البارد. ويتجه يساراً الى مكاتب جريدة"فرانكفورتر روندشاو"، ليتركني أسير الى الفندق يميناً...
يخيّم الليل على مدينة المصارف الهادئة. تنخفض الحرارة تدريجاً كلما دارت عقارب الساعة. صمت مدقع يلفّ المكان من حولي، كأنه خال حتى من الحشرات. أشجار متراصة كجنود في المعركة على جوانب الطرق. تفترش أوراقها الصفر العريضة الأرصفة، وتغطي السيارات كأنها تحميها من عواقب وخيمة آتية. صفير الريح يُنذر بقدوم عاصفة ثلجية. وحده صوت القطار الآتي من المحطة المقابلة لنافذة غرفتي في الفندق، يوحي بأن نَفساً بشرية تمرّ في المكان.
لم تحتمل عيناي التحديق عبر الزجاج، كأنهما تتابعان فيلماً ألمانياً صامتاً من العشرينات. السكون يُسقط على المشهد الحي أمامي، ملامح مثيرة مرعبة، ويثير في النفس أسئلة فلسفية لا تجد الخاطرة لها أجوبة أحياناً...
تلحفت بالمعطف، ومشيت علّ حركة قدمي تكسر ملل ليل متقدم. أتردّد في الخروج. أسأل موظّف الاستقبال في الفندق عن السرقات والتحرّشات الليلية. يعقد الشاب الأسمر الإيراني الأصل حاجبيه، ثم يضحك."أنتِ هنا في فرانكفورت عليك الأمان أينما رحتِ".
شارع مقفر تمتد فيه خطوط بيض طويلة، تفصل حدود الطريق المخصصة للسيارات، عن تلك التي ترتادها الدراجات الهوائية، والأخرى المخصصة للمشاة وكلابهم. سلسلة أعمدة النور بمصابيحها المتلألئة تلعب دور"الميكروسكوب"، تُساعد عينيّ الملوّنتين عند منتصف الليل، على التفتيش عن حبة رمل أو بقايا سيجارة، أو غلاف لوح شوكولاتة، أو قصاصة بطاقة مهملة... عبثاً. كأن مكنسة كهربائية مرّت من هنا قبل دقائق لتنظّف المكان من كل ذرّة مهملة، إلا من أوراق الشجر العريضة.
يتساقط المطر رويداً رويداً، مصحوبة بهواء بارد يلفح خدّي بصقيع موجع. الصقيع يقطع التنفّس عن فتحتَي أنفي. حتى رائحة المطار لا أشمّها. وهل للمطر رائحة في هذا المكان النظيف؟
في انتظار تحوّل إشارة المشاة من الأحمر الى الأخضر، يشرد ذهني في"مقدسات"الشعب الألماني: الصحة والنظافة والنظام الصارم والدقة والوقت المحدد. آه الوقت المحدد والنظام الصارم. مجرد لمعان الفكر في رأسي يُشعرني بالارتجاف. يُشغلني التأقلم مع"مقدسّات"اعتدت على تلافيها. فسيف الوقت الذي تعودت على تقطيعه لعمري وجهدي، لم أشفَ من جرحه بعد... يبرق اللون الأخضر في الإشارة. أهرول والمياه تبلل ثيابي، قبل أن تدهمني الثواني المعطاة لرجليّ لاجتياز الطريق الطويلة. أصل الى الضفة الأخرى حيث تفوح رائحة"الهوت دوغ"المشوية، قبل فوات الأوان. فيأتي صوت الشاعر ليُذكّرني"الوقت ما عندو وقت ينطر حدا". فأشعر أنني جملته المستعجلة التي لا سكون فيها، وجسدي فرس عربي يمتطي أسطح البنايات. يمرّ مسرعاً على نوافذ الشقق المضاءة كعلب الكبريت. يتلصّص على زوجين يتعانقان بعد نهار مضنٍ. يحلم مع أطفال يستمعون في غرفهم الجميلة الى قصص نوم مطمئنّ. تشدُّهُ عيناه للوحات تشكيلية، يتمنى لو تطول يده، ليلتقطها عن جدران المنازل البسيطة. تطرب أذناه لموسيقى تطلع من بين فتحات الشبابيك الخشبية. يشفق على عجوز تقبع وحدها في عتمة الليل تداعب فرو قطتها السوداء...
ليس التلصص مهنتي، بل هي هواية اكتشاف تفاصيل ما وراء الزجاج الشفاف أغوتني. منذ كنت صغيرة يستهويني المشي بعد منتصف الليل. هواية مرّ زمن ولم أمارسها. تسرقني ساعات العمل ومقاهي بيروت من ممارستها. وتقف البنايات الطويلة المتراصّة والطرق الضيقة التي لا تسمح بتلصّص ناجح، بيني وبينها. أعادتني فرانكفورت الى ليالي الصَبيَنة في الضيعة الجبلية حيث كان الوقت ملكي، ينتظرني لأراقب النجوم والقمر وأنتظر طلوع الفجر. أعادتني الى طمأنينة افتقدها في بلدي منذ سنوات. أثارت سكينتها في نفسي شيئاً من الملل المحبّب. الملل الذي يفتقده الذن يتوهون في دوامة اللهاث وراء ساعات تموت هدراً من دون التمتّع بها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.