توقف الميترو في محطة "لوكال بانهوف" في منطقة "زاكسن هاوزين" قادماً من مطار"فرانكفورت ماين". شمس الثانية عشرة ظهراً تتسلل رفيعة كخيوط العنكبوت. البرد يخرق معطفي السميك. الحرارة لا تتعدى الخمس درجات. يبتسم زميلي فيليكس فيما أفرك كفاً بكفّ، ليطعلني أن الطقس جميل اليوم،"فالشمس مشرقة والحرارة معتدلة"! أستغرب، خلته يهزأ. يستدرك علامات التعجّب المرتسمة على وجهي، فيشرح أن هذه الخيوط الصفراء هدية من السماء في مثل هذه الأيام الخريفية في مدينة فرانكفورت. يضع حقيبتي الزرقاء الثقيلة على الأرض. ينصحني بعدم الخروج من دون قبعة تغطي أذنيّ، وشال من الصوف يقي عنقي من الهواء البارد. ويتجه يساراً الى مكاتب جريدة"فرانكفورتر روندشاو"، ليتركني أسير الى الفندق يميناً... يخيّم الليل على مدينة المصارف الهادئة. تنخفض الحرارة تدريجاً كلما دارت عقارب الساعة. صمت مدقع يلفّ المكان من حولي، كأنه خال حتى من الحشرات. أشجار متراصة كجنود في المعركة على جوانب الطرق. تفترش أوراقها الصفر العريضة الأرصفة، وتغطي السيارات كأنها تحميها من عواقب وخيمة آتية. صفير الريح يُنذر بقدوم عاصفة ثلجية. وحده صوت القطار الآتي من المحطة المقابلة لنافذة غرفتي في الفندق، يوحي بأن نَفساً بشرية تمرّ في المكان. لم تحتمل عيناي التحديق عبر الزجاج، كأنهما تتابعان فيلماً ألمانياً صامتاً من العشرينات. السكون يُسقط على المشهد الحي أمامي، ملامح مثيرة مرعبة، ويثير في النفس أسئلة فلسفية لا تجد الخاطرة لها أجوبة أحياناً... تلحفت بالمعطف، ومشيت علّ حركة قدمي تكسر ملل ليل متقدم. أتردّد في الخروج. أسأل موظّف الاستقبال في الفندق عن السرقات والتحرّشات الليلية. يعقد الشاب الأسمر الإيراني الأصل حاجبيه، ثم يضحك."أنتِ هنا في فرانكفورت عليك الأمان أينما رحتِ". شارع مقفر تمتد فيه خطوط بيض طويلة، تفصل حدود الطريق المخصصة للسيارات، عن تلك التي ترتادها الدراجات الهوائية، والأخرى المخصصة للمشاة وكلابهم. سلسلة أعمدة النور بمصابيحها المتلألئة تلعب دور"الميكروسكوب"، تُساعد عينيّ الملوّنتين عند منتصف الليل، على التفتيش عن حبة رمل أو بقايا سيجارة، أو غلاف لوح شوكولاتة، أو قصاصة بطاقة مهملة... عبثاً. كأن مكنسة كهربائية مرّت من هنا قبل دقائق لتنظّف المكان من كل ذرّة مهملة، إلا من أوراق الشجر العريضة. يتساقط المطر رويداً رويداً، مصحوبة بهواء بارد يلفح خدّي بصقيع موجع. الصقيع يقطع التنفّس عن فتحتَي أنفي. حتى رائحة المطار لا أشمّها. وهل للمطر رائحة في هذا المكان النظيف؟ في انتظار تحوّل إشارة المشاة من الأحمر الى الأخضر، يشرد ذهني في"مقدسات"الشعب الألماني: الصحة والنظافة والنظام الصارم والدقة والوقت المحدد. آه الوقت المحدد والنظام الصارم. مجرد لمعان الفكر في رأسي يُشعرني بالارتجاف. يُشغلني التأقلم مع"مقدسّات"اعتدت على تلافيها. فسيف الوقت الذي تعودت على تقطيعه لعمري وجهدي، لم أشفَ من جرحه بعد... يبرق اللون الأخضر في الإشارة. أهرول والمياه تبلل ثيابي، قبل أن تدهمني الثواني المعطاة لرجليّ لاجتياز الطريق الطويلة. أصل الى الضفة الأخرى حيث تفوح رائحة"الهوت دوغ"المشوية، قبل فوات الأوان. فيأتي صوت الشاعر ليُذكّرني"الوقت ما عندو وقت ينطر حدا". فأشعر أنني جملته المستعجلة التي لا سكون فيها، وجسدي فرس عربي يمتطي أسطح البنايات. يمرّ مسرعاً على نوافذ الشقق المضاءة كعلب الكبريت. يتلصّص على زوجين يتعانقان بعد نهار مضنٍ. يحلم مع أطفال يستمعون في غرفهم الجميلة الى قصص نوم مطمئنّ. تشدُّهُ عيناه للوحات تشكيلية، يتمنى لو تطول يده، ليلتقطها عن جدران المنازل البسيطة. تطرب أذناه لموسيقى تطلع من بين فتحات الشبابيك الخشبية. يشفق على عجوز تقبع وحدها في عتمة الليل تداعب فرو قطتها السوداء... ليس التلصص مهنتي، بل هي هواية اكتشاف تفاصيل ما وراء الزجاج الشفاف أغوتني. منذ كنت صغيرة يستهويني المشي بعد منتصف الليل. هواية مرّ زمن ولم أمارسها. تسرقني ساعات العمل ومقاهي بيروت من ممارستها. وتقف البنايات الطويلة المتراصّة والطرق الضيقة التي لا تسمح بتلصّص ناجح، بيني وبينها. أعادتني فرانكفورت الى ليالي الصَبيَنة في الضيعة الجبلية حيث كان الوقت ملكي، ينتظرني لأراقب النجوم والقمر وأنتظر طلوع الفجر. أعادتني الى طمأنينة افتقدها في بلدي منذ سنوات. أثارت سكينتها في نفسي شيئاً من الملل المحبّب. الملل الذي يفتقده الذن يتوهون في دوامة اللهاث وراء ساعات تموت هدراً من دون التمتّع بها.