كان صديقي بشّار يصرخ: "هنا... هنا"، وكنت أسابق خطاي، أشق جموع البشر لأصل إليه، دافعاً عربة الأمتعة، غير مكترث بما ارتطم به من سيقان لكبار وصغار، من حقائب وأغراض - لا أقدم اعتذاراً ولا أبالي بمن حولي - فالشوق كبير. إنها غربة عشر سنوات. خرجنا من الباب الأخير في المطار، لنلتقي زوج عمّة بشّار الذي تبرّع بإيصالنا. ما ان وطئت قدماي الرصيف الخارجي حتى شعرت بالصقيع يلفح عظامي، بدأت أسناني تصطك، أعضائي ترتجف لدرجة أني خلت نفسي هيكلاً عظمياً يتراقص فوق سطح من التنك! كانت الحرارة تقارب 30 درجة تحت الصفر، راودني إحساس بضرورة العودة فوراً. فالبرد لا يحتمل كما يبدو. تساءلت: كيف سأمضي أيامي في هذي البلاد؟ فمن الممكن أن أموت تجمداً! إختلفت الأمور عندما صعدنا السيارة، فالمكيف بثّ الدفء في جسدي، وانطلقنا نخترق طرقات مونتريال وتقاطعاتها، نتجاوز جسورها وإشاراتها الضوئية، كل شيء بدا غريباً! فالسيارات فيها أناس مثلنا لكن أشكالها ولوحاتها مختلفة، عناوين المحلات والمتاجر مكتوبة بالفرنسية، طرقات واسعة، مبان شاهقة، تجمعات، مصانع. كنت أنظر بعيون تلتمع كالدنانير، متطلعاً حولي، يراودني شعور الأعمى الذي عاد إليه النظر فجأة. إحساس عجيب. كان الخيال يذهب بي فأخال نفسي في كوكب آخر. لكن أحاديث بشّار وأسئلته كانت تعيدني الى مكاني في الواقع. أتذكر أني بدأت أصرخ كطفل حصل على ألعاب للمرة الأولى، كعصفور يغادر قفصه منطلقاً الى الحرية، أنا الغريب الفاتح لهذي البلاد حيث الأشجار والثلوج ترتفع لتلامس السماء. وصلنا منزل بشّار في منطقة "Cotes des neiges". لا أعلم كم طرحت من الأسئلة، لكني أعتقد بأني أنهكته. وضعت أغراضي، تناولت ثياباً صوفية إرتديتها فوق ثيابي، جلست لأرتاح فأتاني بشّار بكوب من شراب كندي غريب قدمه لي - هذا الطقس جعلني أشعر أنه كاهن يسقيني ماء الخلود - يناولني لأتعمد وأدخل هذه الأرض مباركاً، وبسلام. تبادلنا أطراف حديث - أشواق، لم أحتمل المكوث في المنزل حتى الصباح. بدوت كمن يريد رؤية كندا كلها دفعة واحدة، رجوت بشّار أن يصطحبني في جولة استطلاعية صغيرة في المدينة. سرعان ما غادرنا المنزل وبدأنا نجول في طرقات مونتريال. بدا الليل ثقيلاً والبرد قاسياً، لكن الأضواء المشعة وحب الإكتشاف، كانا يجعلاني غير مبالٍ بالبرد والصقيع. مشينا قليلاً، استقلينا الباص الذاهب الى "Down Town". إنه قلب المدينة يعجّ بالحياة: محلات، مطاعم، بارات، حوانيت، مرائب، تجمعات، أفواج من البشر تروح وتجيء! كنت أستنشق الهواء النقي المشبع بالأوكسيجين ملء صدري، فالرطوبة منخفضة جداً، أحسست بأني ديك زاه عرم. صلنا وجلنا في الشارع الرئيسي للمدينة. بات الصبح قريباً وبدأ التعب يسيطر، فقررنا العودة الى المنزل رغم انه كان هناك ما يشدني للتجوال أكثر وينسيني تعبي! لم أكن قد رأيت سليم بعد، وجدناه نائماً فلم نوقظه. إرتميت على فراش كان بشّار حضّره شخصياً لي، لم تمض لحظات حتى غبت في سبات عميق. إنه النهار. ها هي أشعة الشمس تنسل عبر النافذة كخيوط نسجها عنكبوت، غادرت سريري، كان سليم ينام في الصالون، فأيقظته، تبادلنا السلامات والكلمات، نادينا بشّاراً، وخرجنا لتناول الفطور في مطعم قريب، بعد ذلك نزلنا الى محطة المترو لنذهب نحو الوسط التجاري، كانت المرة الأولى التي أرى فيها قطار الأنفاق، فأخذت أجول بنظري مشدوهاً! كانت المحطة تمتلئ بالناس وبتماثيل ولوحات تزينها، تعطيها رونقاً غريباً. عرفت في ما بعد ان ذلك يتم بأمر من الدولة، حيث أنه يطلب من الفنانين أن يقدموا أعمالاً، لتوضع في هكذا أماكن وأماكن عامة أخرى في محاولة لتجميل المدينة وتقريب الفن من الناس وتعريفهم بالهوية الفنية - الثقافية والحضارية لبلدهم. استقلينا القطار بعد انتظار، كل شيء بدا منظماً ينم عن رقي وذوق، كان الشباب يقفون ليهبوا مقاعدهم لكبار السن الذين لا يجدون مكاناً للجلوس، بمبادرة ذاتية غريبة، وكان الناس ينتظمون في صفوف متراصة عند الدخول والخروج مما ذكّرني بفوضى لبنان وأهله، حيث الناس تتدافع دون تنظيم يمنة ويسرة غير آبهة بنفسها وبغيرها! وصلنا الوسط التجاري نكتشف مونتريال عن كثب، فها نحن في قلبها، نروح ونجيء. كنت أمشي بخطى سريعة، متجاوزاً سليم وبشّاراً بأمتار، أوزع نظراتي في كل اتجاه، متفحصاً متأملاً، محدقاً، مدققاً، كمن، أضاع شيئاً ثميناً في غمرة السوق بين الأقدام. أقف أمام الواجهات، أدخل المحال والمخازن، أتفحص البضائع كتاجر أقمشة شرقي، أقلبها بين يدي، أشتمها، أجسها، ثم أضعها مكانها أو في كيس المشتروات! كنت أحاول رؤية كل شيء، خائفاً أن يفوتني منظر أو مشهد، أحرك كاميرتي في كل اتجاه ملتقطاً الصور "كاليابانيين" للكنائس والمباني والتماثيل والقباب والغيوم، هناك شعرت أن للمدن "حياة" وأنها تموت وتحيا، وأن للمدن روائح تعبق بها فتميزها. إن المدن كالفتيات. إنها الظهيرة، حان وقت الغداء، دعاني بشّار وسليم لتناول الطعام في احد مطاعم "Eaton - Center" وهو مركز تجاري ضخم - مليء بالمتاجر والمطاعم والتحف والبدع. إرتحنا قليلاً ثم شرعنا بالتجول في المبنى متنقلين بين محل وآخر وزاوية وأخرى، حيث أخذت أسأل - أسوم، وأشتري حاجيات وأغراضاً صغيرة غريبة. بعدها غادرنا "Eaton - Center" متوجهين نحو الشطر الآخر من المدينة لنبحث عن مكتبة "Guerin" اذ أوصاني أحد الأقارب على كتب. إنه المساء، ما زلنا ندور، داهمنا الجوع لكثرة ما مشينا فدخلنا مطعماً يونانياً لتناول العشاء، كان المكان يعبق برائحة الشواء، طلبنا دجاجاً وسمكاً مشوياً وثمار البحر - باشرنا الأكل بشراهة لا مثيل لها، كأحصنة ثلاثة أنهكها جوع أيام! ثم قفلنا عائدين الى محطة المترو، قاصدين المنزل لنرتاح ونحضّر أنفسنا لجولة مسائية جديدة. في هذا الوقت، جلست أرتب أغراضي مضيفاً الى حوائجي حصيلة ما تبضعت. أمضينا ساعتين من الوقت نتحادث، نتبادل الأخبار والطرائف، قررنا بعدها سليم وأنا أن نخرج في جولة مسائية لأتعرف على مونتريال الليل التي تختلف كلياً عن مونتريال النهار. كان بشّار تعباً لكثرة ما تجولنا ولكثرة ما سألته فقرر النوم باكراً، لا أنفي تعبي أنا أيضاً، لكني غالبت التعب والنعاس وغادرت المنزل مع سليم. كانت الحرارة أكثر من 30 درجة تحت الصفر، شعرت بشفتيّ تتجمدان. خلت أنهما أصبحتا من زجاج وستتكسران بمجرد أن أحاول الكلام. ركبنا الباص وتوجهنا من جديد الى قلب المدينة لكن، الى ناحية أخرى. كنت قد مررت ببعض هذه الأمكنة خلال النهار، لكني الآن أشعر بأني أراها لأول مرة. فالليل أعطاها حلّة أخرى أكثر وقاراً واختلافاً. في الباص اكتشفت ان الإنسان في كندا يتمتع بخصوصية قلّ نظيرها، عكس الإنسان في بلادي، خصوصية اكتشفتها خلال تجوالي، فهناك وأينما كنت، لا أحد يلاحقك بنظراته، لا أحد يراقب مظهرك وثيابك وشكلك ليحكم عليك! فبينما يقضي اللبنانيون الوقت في وسائل النقل يثرثرون ويرمقون بعضهم بعضاً بنظرات فارغة، يجلس الكنديون وبين أيديهم كتاب أو جريدة أو C.D Rom أو ساندويش، مستغلين كل لحظة من وقتهم بإنسانية وخصوصية رائعة وبرقي غريب! دخلنا أحد النوادي الليلية الراقصة، التي تتفرد بها مونتريال بين مدن أميركا الشمالية، مكان جوّه رائع، يضج بالأنغام ويمتلئ براقصات تتهادَين على المسرح كفراشات ملونة تحتفل بزهوها كأنها تمتلك الكون! في اليوم الثالث، إستفقنا على رنين الهاتف، إنه أبو بشّار يريد الإطمئنان علينا، يرشدنا ومن بعيد، كيف نستغل وقتنا، يعطينا دفعاً معنوياً غريباً وحوافز وعناوين متاحف وأمكنة! بناءً لتوجيهاته ذهبت وبشّار الى شارع "شار بروك" حيث المتحف الوطني الكندي، متحف الفن الحديث، معظم غاليريات الفن والمعارض المتخصصة. شارع مليء بالتماثيل البرونزية والأنصاب الحجرية وصالات العرض. الفن في كندا بمتناول الجميع مزروع في كل مكان يجمّل النفوس والأماكن يرقّي أحاسيس كل من يمر في الشوارع، شاء ذلك أم أبى! في الطبقة الأولى من المتحف الوطني، الفنون الأثرية تحتل الواجهات، منحوتات من عظام الحيتان، فخاريات، قلائد، برونزيات، أعمال فنية غريبة لسكان البلاد القدامى. أما الطبقتان الثانية والثالثة فتحويان نتاج الفن الكندي الحديث من لوحات وتماثيل تدل الى حضور فني عظيم ومكانة مرموقة ما كنت أتخيلها. حقاً إن الفن الكندي لفن عالمي! إلتقطت عشرات الصور، أحسست في المتحف أني سيدٌ - فاتحٌ أقف على تاريخ هذي البلاد، أتمحّص حضارتها، أقيس وأقارن نسبة رقيها بين جيل وجيل! تابعنا التجوال في صالات فنية أخرى. لوحات الفنانين الشباب تملأ الأمكنة، ألوانٌ زاهيةٌ، مواضيع غريبة! تمنيت لو أمضي العمر بينها، لكن بشّار كان يشدني الى الواقع مذكراً بتأخر الوقت، فقفلنا عائدين الى البيت، لأتوجه بعدها الى مطار دورفال، حيث سأقابل ممثلي مهرجان Quebec للنحت وأنتقل معهم الى "Quebec City" المقصد الرئيسي والمحطة الأخيرة! جهزت حقيبتي. ارتحت قليلاً. ذهبت والصديقين الى المطار. ودعتهما بعد أن التقيت ممثلي المهرجان، الذين أوصلوني الى محطة الباص السريع انطلقت بعدها في تجربة جديدة باتجاه "Quebec City". الليل يلف كل شيء! لكني كنت أرى الغابات والأشجار والسهول والثلج من النافذة تلتمع بإنعكاس خافت، زادت الظلمة من إحساسي بثقل الوقت وطول المسافة فعلينا اجتياز 350 كلم. بدأ النعاس يسيطر. حاربته قدر ما استطعت الى ان وصلنا. فعلاً ان سفر الليل مزعج، فهو لا يصلح بنظري إلا لتنقل الهاربين من العدالة ونقل المساجين! في محطة الباص أول "Quebec City" انتظرت مندوبي المهرجان لينقلوني. تأخروا قليلاً. استغليت الوقت بتناول الطعام في مطعم صغير الى أن أتوا وأوصلوني الى الفندق حيث أخذت حماماً دافئاً وارتميت على الفراش. في الصباح، نزلت مطعم الأوتيل لتناول الفطور. غريب الفطور الكندي لما فيه من تنويع وسعرات حرارية. تخيل انه يحتوي النقانق واللحم والبيض وأطعمة أخرى غريبة إضافة الى الفاكهة المشكلة! توجهت بعدها الى غرفة الاجتماعات ويعقد مؤتمر عن المهرجان وتسلمت عدة النحت على الثلج وثياب الجيش الكندي، وذهبت مع الزملاء، أعضاء الوفود الأخرى برفقة دليل في جولة حول Quebec City. في المساء دعينا جميعاً الى حفلة تعارف في نادٍ ليلي يدعى "موريس" تعرفت فيه على أعضاء الوفود والفنانين المشاركين، وأجريت القرعة ليأخذ كل فريق مكعب الثلج الذي سينحت عليه. مع إشراقة فجر النهار التالي، كانت الفرق الفنية المشاركة تتوجه عدة وعديداً الى محلة "Place des jardins" القريبة من سهل ابراهام، ليبدأ العمل بمكعبات الثلج المرصوفة على جانبي الطريق. باشرت العمل مع الآخرين، كان الثلج قاسياً فالحرارة منخفضة، وكنت أعمل من الصباح حتى المساء مستريحاً فقط وقت الغداء. فالوقت ضيق وعلي إنجاز العمل رغم الصقيع والبرد الشديد حيث أني كنت أشعر بخديّ تتمزقان كلما تكلمت. - إستمريت على هذه الحال أياماً. آلمتني فيها كل عضلة من جسمي! كنت أذهب للمشاركة في نشاطات فنية في الليل مع الوفود الأخرى، وقد شاركت في معرض النحت الدولي الذي افتتحته وزيرة الثقافة الكندي ثم عدت الى الفندق لأستحم وأقف على النافذة متأملاً المدينة المضاءة بأبنيتها الغريبة وقرميدها النحاسي الأخضر، كان منظر نهر "سان لوران" يبهرني، فهو يتلوى كثعبان طويل أزرق، مرقعاً ببياض قطع ثلج كثيرة تغطيه، مخترقاً "كيبيك"، شاطراً إياها الى نصفين جميلين! قررت العودة الى لبنان قبل موعد الاحتفال بتوزيع الجوائز لمشكلة طرأت على "الحجز". أوصلوني الى محطة الباص. كان الوقت ظهراً، أكلت قليلاً واستقليت الباص نحو مونتريال. كنت أنظر حولي بغرابة، أحاول أن أحفظ في ذاكرتي صوراً لكل ما أرى، أتطلع بالطرقات والأبنية والطبيعة كمن شعر بدنو أجله وأخذ يحدق بما حوله محاولاً أن يأخذ معه لقطات ومشاهد! وصلت مونتريال بعد مسير طويل أنهكني، كان بشّار وسليم وزوج عمتهما ينتظرونني في المحطة، جلسنا قليلاً، تحادثنا واستقلينا السيارة باتجاه المطار. صراحة، فكرت بالعدول عن العودة ونحن نقطع الطرقات نحو المطار فأنا لم أذق من كندا إلا القليل القليل! إلا أن بشّار نهاني عن هذا التفكير. دخلنا المطار. سلّمت الحقائب، وقفت مع الشباب قليلاً، ودّعتهم بحزن وتوجهت نحو السوق الحرة لشراء بعض الحاجيات وبعدها الى طائرة "البوينغ 747" التي كانت تنتظرني على المدرج الرائع، مفتتحاً طريق العودة الى باريسفبيروت. تعرفت في الطائرة على مهندس كندي من أصل جزائري أنيس المعشر، جعلني أنسى طول المسافة وعذاب الطريق! هبطنا في باريس صباح اليوم التالي. كان عليّ المكوث حتى ما بعد الظهر في مطار "شارل ديغول" الضخم لأستقل الطائرة المتجهة الى بيروت. ودعت صديقي الجزائري، جلست في قاعة المسافرين قليلاً، إلا أن نظرات اللبنانيين المتمترسين هناك أزعجتني إضافة الى حشريتهم الزائدة! فرحت أغدو وأجيء بين المخازن والمحلات، الى ان استقر بي المقام في كافتيريا جميلة احتسيت فيها الشراب حتى حان موعد الإقلاع الى لبنان! ها أنذا أعود! عابراً نفس الطريق في الذهاب والإياب، أرتفع بعيداً عن باريس شيئاً فشيئاً. صادف حظي هذه المرة أن الدنيا نهار فرأيت التفاصيل أكثر، بحثت عن المضيفة التي رأيتها في طريق ذهابي فلم أجدها، أخذت أحدق الى الأسفل كالأطفال يرون الطبيعة لأول مرة. إستمر ضوء النهار حتى المجال الجوي اليوناني حيث بدأ الظلام يسيطر، لكني كنت قد رأيت جزءاً كبيراً من دول أوروبا يلتمع بثلوجه تحت الشمس كفستان العروس وأزهار ليلة القدر البيضاء. وصلت بيروت عند التاسعة ليلاً، كانت صديقتي تنتظر وحيدة في المطار، تعانقنا، ذهبت بعدها الى منزلي لأنام ثلاثة أيام بنهاراتها ولياليها! ها أنا قد قطعت 30 ألف كيلومتر، عبرت قلب العالم، صلت وجلت وعدت، كأن شيئاً لم يكن! فهل كان ذلك حلماً؟