للحرب أكثر من منطق، وكل منطق منها قائم بذاته، تحتكر الدول وسائل العنف"المشروع"بحسب القول الكلاسيكي الشهير لعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر. وكان عليه ان يضيف: أما الدول الضعيفة فلا سبيل لها الى هذا الاحتكار. وأمامنا اليوم مشهدان من لوحة واحدة: مشهد الدولة الإسرائيلية التي تحتكر قرار الحرب والسلم، ومشهد الدولة اللبنانية التي تفتقر الى هذا الاحتكار. المفارقة ان احتكار الدولة لوسائل العنف"الشرعية"، لا يعني، ضرورة، انها قادرة على التصرف بها من دون قيد. فهي بحاجة الى إجماع الأمة، بل تنشده وتبلغه بوسائل شتى، من النقاش البرلماني، الى الكذب الإعلامي، ومن إخفاء الحقائق، الى رمي الخصوم بالخنوع او الخيانة. وبالطبع فدول الحزب الواحد، أو الأسرة الواحدة لا تحتاج الى وجع الرأس هذا لبناء"الوحدة"المنشودة، فهي قائمة بالكرباج، وبقوة المنع. ونرى اسرائيل منذ 1982، شأن الولاياتالمتحدة منذ فيتنام، في وضع من يستخدم الحرب ذاتها وسيلة لحشد الجمهور، وبناء إجماع لما يبدو يسيراً. صارت الحرب ذاتها، ناهيك عن مبرراتها وأهدافها المعلنة، اداة لبناء الإجماع. فشق الجبهة الداخلية خطيئة كبرى، حيث"الجنود يقاتلون على الجبهة". هذه عبارة تتكرر في الصحافة الغربية في كليشيه ثابتة. وعلى رغم ان المجتمع الإسرائيلي صار، بسبب نشأته وتطوره، مجتمعاً حربياً بامتياز، فمنطق الحرب المكرورة ذاته يولد ايضاً شيئاً من نقيضه، كما رأينا عام 1982، واستمرار هذا الميل مرهون ايضاً بالآخرين. ونحن نفعل ما في وسعنا لوقفه، بتكتيكاتنا الباهتة. السجال السياسي الدائر في اسرائيل، بصدد الحرب، غير متجانس، وهو يتجاوز منطق الإجماع القومي الذي تنشده الدولة كجهاز للحكم. في المقابل نجد ان السجال في لبنان اكتسى منذ اليوم الأول، طابعاً متعدداً هو الآخر، لا بفضل غياب مقولات الإجماع، بل بفعل الانقسام السياسي - الطائفي السابق للحرب. فالدولة الليبرالية القائمة ضعيفة اصلاً، وبعيدة عن احتكار المعلومات، ناهيك عن أي احتكار آخر. والانقسام في لبنان، سابق للحرب، بل احد مسبباتها، وقد أطلق موجة سجال جريء، في الأيام الأولى على الأقل، عن حق إشعال الحرب، وجدوى إشعالها، ومصلحة لبنان. التمس حزب الله خطاب القومية العربية والقومية الإسلامية في الدفاع عن قراره بخطف الجنديين. فهو يريد تحرير الأرض مزارع شبعا، وهو يجابه العدو التاريخي العروبة والإسلام ضد الصهيونية، بل هو يريد نجدة الشعب الفلسطيني اختطاف حماس لجندي اسرائيلي، ويريد ايضاً، تحرير الأسرى على غرار مطلب حماس وفتح ايضاً مع اختلاف الوسائل. بإزاء موتيفات الخطاب الإسلامي - العروبي، طرحت الدولة اللبنانية خطاب القانون والسيادة، مثلما استنفرت خطاب الوطنية اللبنانية الذي استخدمته قوى 14 آذار في وجه الوجود السوري. والحرب تخدم مصالح اقليمية او موتيفات اقتصادية متفرعة: الحرب دمرت موسم السياحة 4 بلايين دولار وتدمر فرص الاستثمار. وبدا ان النزعة العروبية - الإسلامية آيلة الى تصادم مع النزعة الوطنية اللبنانية، بشقها القانوني أو السياسي أو الاستثماري. جغرافية الحرب تلغي هذا التفارق. فإذا كان حزب الله ينفرد بفتح النار على اسرائيل خارقاً حق دولته في إقرار هذه الوسيلة، فاسرائيل اذ تسدد النار عليه، فإنما تطلق على الأرض اللبنانية. هنا منطق الحرب يلغي التفارق بين النزعة الإسلامية - العربية والوطنية اللبنانية. فالحرب على حزب الله تقتضي، بالمنطق العسكري الصرف، قطع خطوط إمداده وضرب بناه التحتية. لكن هذا يعني تدمير قطاعات لا صلة لها بحزب الله، فتتحول الحرب الرسمية المعلنة ضده حرباً ضد قطاعات واسعة من لبنان. وفي وسع حزب الله ان يقول، دون اتهامه بالمواربة الإعلامية، انه لا يقاتل الآن دفاعاً عن نفسه كحزب، او حتى طائفة، إنما يقاتل دفاعاً عن لبنان. هذا التحول يقلب النقاش من مستواه الليبرالي المتنوع، الى خطاب الإجماع، وهو إجماع لفظي قائم على إخفاء الصدوع، اكثر من رأبها. المزاج اللبناني، الغاضب على حزب الله، انقلب بحق الى مزاج ساخط على اسرائيل، من دون ان يجيَّر بكامله الى حزب الله. وسارع السياسيون، الذين انتقدوا الحزب على انفراده وتجاوزه سيادة الدولة، الى الثناء على زعيمه اعترافاً بتغير المزاج هذا. فالوطنية اللبنانية لم تستطع، في هذه الحال، اختراق الخطاب العروبي - الإسرائيلي لمصلحة الإصلاح وأولوية الدولة. العكس هو الذي حصل لمصلحة الحرب وكسر احتكار الدولة. هذا الاختراق لن يستمر إلا باستمرار الحرب عينها. وألاحظ الآن في الصحافة المكتوبة، أكثر مما في الإعلام المرئي الذي يتحول عادة الى تهريج وبكائيات سقيمة ان ثمة استمراراً في التساؤل والمساءلة والاعتراض، ولكن بنفس موارب، وصوت خافت، او لربما بكياسة ديبلوماسية بالغة التهذيب. تشكك هذه الكتابات في دوافع حزب الله المعلنة: تحرير مزارع شبعا وهي صغيرة حقاً زرتها شخصياً عام 1970، وتحرير الأسرى. لكن النقاش الأهم، برأيي، ينصب على مسألة الدولة والإصلاح السياسي. فهذه الحرب لن تستمر الى ما لا نهاية ونهايتها الوشيكة او البعيدة، ستطرح السؤال الحارق: إذاً؟ ماذا سيفعل حزب الله ان اعيدت مزارع شبعا، وتحرر الأسرى، بميليشياه؟ فإما ان تقوم الدولة الحديثة وأساسها احتكار هذه الهيئة لوسائل العنف، ولفرض القانون والنظام، أو ان تعود دولة الميليشيات. وسيواجه لبنان هذا الخيار ان عاجلاً أو آجلاً. سيواجه ايضاً مقتضيات الإصلاح، أي الخروج من نظام الملل العثماني الى رحاب الدولة الحديثة. والمشكلة كما لاحظ كثيرون ان الإصلاح الديموقراطي في مأزق بفعل تداخله مع الصراع الإقليمي. فالقوى الإقليمية سورية وإيران مهتمة اصلاً بإبقاء حزب الله قوة مهمة في الصراع، مما يستوجب ابقاءه خارج سيطرة دولته بالذات، وبالتالي سد باب الإصلاح والتغيير في لبنان. اما القوى الغربية المساندة للإصلاح والتغيير، فتريد استثماره لتحجيم تلك القوى الإقليمية عينها. فالإصلاح الديموقراطي واقع في هذا المغطس، ومما يزيد من ورطته ان مجموع القوى الإقليمية ليست معنية كثيراً بمنطقه، وهي تشهر بوجه الدولة اللبنانية سيف التخوين، نقطة الارتكاز شبه الوحيدة في الخطاب القومي. لنعترف بأن هذه الحرب تختلف بعض الشيء عن سابقاتها في توافر هامش شحيح من حرية النقاش العربي عن حرب دائرة ضد خصم تاريخي، هو اسرائيل. فالنقاش، عادة، لا يدور اثناء الحرب، بل يليها. وهو ما حصل اعوام 1967 و1973 و1982 بعد هزائم متتالية، وعليه فالسجال اللبناني للأسف لا توجد سوى امتدادات عربية محدودة له يكسر الروتين العربي البليد، بصرف النظر عن عمقه، او إمكانات استمراره. وهو يكسر تفكيراً روتينياً آخر للحرب هو البحث عن علاقتها بالمؤسسة العسكرية. فالخبراء يكررون، بشكل رتيب، عبارة المنظر الألماني كلاوزفيتز من ان الحرب امتداد للسياسة، وينسون لأنهم لم يقرأوا كتابه"عن الحرب" اموراً اهم يضيفها، منها ان الحرب ما ان تقع حتى تكتسب منطقها الخاص، أي المنفصل عن عالم السياسة، وأن الحروب والجيوش تدار كما تدار الشركات. فهذا البيزنس التدميري يقوم على حساب الربح والخسارة. وهذه الحقائق تعطي للمؤسسة العسكرية احتكاراً يقيّد السياسة ويلوي عنقها. من هنا مثلاً خشية المراقبين من ان اولمرت المدني بحاجة الى"إثبات"صلابته أو حاجة السيد نصر الله الى البرهنة على صموده. ولا ريب في ان ثمن مثل هذه الصلابة باهظ، بضعة بلايين من الدمار، ومئات الأرواح. كما ان المؤسسة العسكرية تنمّي مصالح وقواعد خاصة بها. فالسياسي مثلاً، يضع لنفسه هدف"إقصاء"حزب الله من الجنوب، والعسكري يترجمها تدميراً لجسور طرابلس في الشمال، والمصنع في الغرب، ومرافئ جونيه في الشرق. نحن لم ندرس الدور السياسي للجيش الإسرائيلي دراسة معقولة، لربما من منطلق الاعتقاد بأنه خاضع كلياً للمؤسسة السياسية. خشيتي ان المؤسسة السياسية خاضعة للخوذة العسكرية، فمعظم رؤساء الوزارات في العقدين الماضيين جنرالات مخضرمون، أو جدد. ويحصل هذا الأمر في اكثر الديموقراطيات رسوخاً. ألم يترشح ايزنهاور ويفوز برئاسة الولاياتالمتحدة؟ حتى المتطرف الجنرال ماك آرثر دعي الى ترشيح نفسه للرئاسة مرتين من جانب الحزب الجمهوري. وهذا ملمح ثابت في ظروف الحرب. وهو روتين في المجتمعات الحربية، وإسرائيل واحدة منها. فهل تتصرف الميليشيات على الغرار ذاته، ربما، ولعلها اكثر ميلاً للتمايز، او حتى الانقسام، في ظروف الانتقال الى العمل السلمي.