اذا ساقت الأحداث لبنان الى اشعال الحرب الاهلية فيه مجدداً، فإن المسؤول الأول عن مثل هذا التطور سيكون"حزب الله"لأنه اتخذ قرار قيادة الانقلاب ضد الاجماع الشعبي اللبناني على اخراج لبنان من الهيمنة السورية وعلى انهاء تسلط الحكم الأمني فيه. لكن الحرب الاهلية لن تقع مجدداً في لبنان لأن"حزب الله"يتمتع بحكمة كتلك التي لدى الايرانيين الذين يحسنون قراءة الأوضاع والحسابات، ولذلك، فإن مسؤولية عدم وقوع الحرب الاهلية في لبنان تقع ايضاً على عاتق"حزب الله". فهو الذي راهن ضد المعارضة. وهو الذي اختار اعادة الأمور الى الوضع الراهن السائد قبل الانتفاضة اللبنانية. وهو الذي يرفع عبء الضغوط الدولية عن سورية ليتلقاها بصدره اللبناني... وهو الذي كسر روح الوحدة الوطنية اللبنانية بخروجه في تظاهرات ضدها، مهما اعطاها وجهاً آخر. وبالتالي فإن"حزب الله"هو المسؤول الأول عن استدعاء أو إبعاد الحرب الاهلية عن لبنان. المسؤول الثاني هو الحكومة اللبنانية والرئاسة اللبنانية والأمن العام اللبناني. فإذا أرادت القيادات السياسية والأمنية والاستخباراتية توريط لبنان في حرب أهلية، عبر حادث أو حادثة، فإن لديها الوسائل والقدرات. لكن النتيجة، في نهاية المطاف، لن تكون على نسق ماضي التجربة اللبنانية. فلن تقع حرب اهلية لفترة 15 سنة في لبنان كما حدث سابقاً لأن العالم اليوم بتأهبه اميركياً وأوروبياً، وحتى عربياً ودولياً، لن يسمح لنوابغ فكر الأمس بأن يفرضوا خططهم التوريطية على واقع اليوم. هذا باستثناء واحد فقط، وهو استثناء استدعاء الارهاب الأعمى الى لبنان، بقرار من كبار الفاعلين فيه، الأجهزة الأمنية والقيادات السياسية والحزبية. عندئذ، يمكن توريطه بحرب أهلية من نوع آخر. إذا طاوع قلب القيادات اللبنانية فتح أبواب لبنان للاتجار بإرهاب مستورد ليفتك باللبنانيين وطموحات الشباب اللبناني لغايات سلطوية، فلن تنجو هذه القيادات من المحاكمات في نهاية المطاف. اما اذا كانت تنوي استخدام عناصر محلية، لبنانية أو فلسطينية أو سورية، لتفجير الأوضاع، فإن هذا ايضاً سيرتد عليها بمحاكمات واكثر. حصيلة الأمر، انها ستكون المسؤولة. الفاعلان الخارجيان الاساسيان المسؤولان عن توريط لبنان بحرب أهلية، بقرار مسبق، سيكونان القيادة السورية والادارة الاميركية التي اذا ما استمعت الى المتطرفين من الصقور والمحافظين الجدد والاعتذاريين لاسرائيل الذين لا يهمهم ما يحدث للبنان، فيما يتظاهرون بالاهتمام بعنجهية وغباء. فكما يجب ايقاف دمشق عن فكرة استخدام أوراق تعتقد بأنها تمتلكها مهما كلف ذلك لبنان، يجب أيضاً ايقاف واشنطن عن استخدام لبنان إما لاعلان انتصار فكر ونهج جورج بوش في حرب العراق وحملة"الدمقرطة"و"الليبرتي"الاميركية، أو لزجه في الحرب الاميركية على الارهاب. من الضروري لادارة جورج بوش اذا كانت حقاً تحترم انتفاضة الاستقلال اللبنانية، أو"ثورة الأرز"كما تسميها، ان تلجم أولئك الذين باتوا يتحدثون وكأنهم وجه السياسة الخارجية الاميركية. حتى عندما تزن الخارجية الاميركية ما تقوله بكل عناية، تأتي المقالات والبرامج التلفزيونية بحملات تحريضية تافهة وخطيرة من أفراد ومؤسسات وتيارات محسوبة على الجمهوريين والرئيس الأميركي. فإذا كان بوش يطالب المنطقة العربية تكراراً بوقف التحريض ولجمه لهجةً ولغةً، فإن عليه ايضاً ان يفعل بالمثل. فليس صحيحاً الادعاء بأن هؤلاء يعملون في قنوات تلفزيونية مستقلة أو في مؤسسات فكرية لا علاقة للادارة الحاكمة فيها. هؤلاء يشكلون القاعدة الشعبية التي تعلن الولاء لنهج بوش وفكره وتأخذ على عاتقها تسويق ما تدعي انه يمثل الرئاسة الاميركية. هؤلاء يهددون مستقبل الانتفاضة اللبنانية برمتها من خلال مواقفهم الجاهلة احياناً انما المضللة عمداً، أكثر الأحيان، والتي تنطلق أولاً وأخيراً من الكراهية للعرب وحماية اسرائيل من أي محاسبة ودمج كل شيء تحت راية مكافحة الارهاب والارهاب في نظرهم دائماً عربي حصراً. باختصار، ان جورج بوش شخصياً مطالب بأن يتحدث الى قاعدته الشعبية الأميركية ليقول بوضوح: ارفعوا اياديكم عن لبنان، فهو ليس في حاجة الى مزايداتكم عليه. كفوا عن الحديث عن لبنان من منظور اسرائيلي ومصلحة اسرائيل، لأن مثل هذا الحديث أولاً خاطئ تماماً وثانياً لأنه يؤذي كثيراً الحركة اللبنانية المحلية في لبنان التي تتطلع الى الحرية والديموقراطية. بوش يساعد حقاً التطلعات اللبنانية الى الخلاص من الهيمنة السورية ومن حكم الأمن في الدولة اللبنانية. وضوح مواقفه مهم جداً وتنسيقه مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك ضروري لأنه يبعث رسالة يؤخذ بها. اعلانه اعطاء الفرصة عبر الأممالمتحدة موقف واعٍ لأنه ينتزع من الآخرين ورقة التذكير بالقفز ضد القرار الدولي وبانفرادية كما فعل بالنسبة الى حرب العراق. واصراره على برنامج زمني لانسحاب كامل لسورية جيشاً واستخبارات، قبل الانتخابات البرلمانية في ايار مايو، يوحي بجدية الالتزام الاميركي. مشكلة الادارة الاميركية ليست مع ناحية سورية في القرار 1559 وانما هي مع ناحية تجريد الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية من السلاح. وكما تعمد الرئيس السوري بشار الأسد في خطابه التهديد والانذار بأن المشكلة هي في"المقاومة"وفي"التوطين"وهو بذلك أخطأ جداً لأنه ظهر وكأنه يستعد للعب الورقتين لعبة سيئة جداً. المشكلة ليست مع الناحية السورية لأن سورية ستنسحب من لبنان في نهاية المطاف، اضطراراً أو اقراراً بواقع لا مناص منه. ستنسحب جيشاً وستقاوم الانسحاب كمخابرات وكقوى أمنية وعبر قوى الأمن اللبناني، لكنها ستضطر للانسحاب. ورقتها الأكبر، حسب رهانها، ليست ورقة"التوطين"الفلسطينية التي رماها الرئيس السوري في خطابه وانما هي الورقة اللبنانية بمعنى"حزب الله"وليس بمعنى الرئاسة والأمن العام. معضلة الادارة الاميركية أنها صنفت"حزب الله"منظمة"ارهابية"وهي اليوم في وضع يتطلب انخراط"حزب الله"حزباً سياسياً فاعلاً في العملية السياسية اللبنانية. في هذا التصنيف، فإن واشنطن معزولة عالمياً وهي في حاجة الى مخرج اذا كانت حقاً مستعدة ان تساعد لبنان. انها في حاجة الى مخرج من تصنيف الارهاب اذا كانت تريد تجنب لبنان حرباً أهلية. بكلام آخر، ان تجنيب لبنان حرباً أهلية يتطلب من واشنطن اخراج"حزب الله"من خانة"الارهاب"والكف عن التعامل معه على نسق التعامل مع"القاعدة"وأمثالها. على واشنطن ان تتعامل مع"حزب الله"على نسق تعاملها مع ايران، اي برزمة من الجزر وليس برزمة من العصي، ولكن بكل حزم وانذار واستعداد. ف"حزب الله"يفهم لغة الاستراتيجية والوعي والحكمة. ومن الضروري وضعه أمام الاستحقاق: فإما أنه حزب لبناني، عمقه ووسعه وهمه وتطلعاته تصب في مصلحة لبنان، واما انه مدّ وبعد لايران ولسورية، على حساب لبنان. انها لحظة امتحان"حزب الله"لبنانياً واقليمياً ودولياً. وأول الاسئلة هو: من أنت وماذا تريد الآن؟ فهناك تقدير كبير لما فعله"حزب الله"سابقاً من زاوية المقاومة لإجبار اسرائيل على الجلاء من لبنان. لكن لا اجماع لبنانياً الآن، ناهيك عن الرفض الدولي لما يزعمه من حق في المقاومة من خلال مزارع شبعا. وللوضوح، ليس هناك اجماع شعبي على بقاء سورية في لبنان، جيشاً وهيمنة ونفوذاً، ليس هناك اجماع على ادعاء"حزب الله"بأن لبنان ساحة للمقاومة ضد اسرائيل. وبالتالي أقل ما على دمشق و"حزب الله"اخذه في الاعتبار ان لا اجماع على دعوتهما المستمرة لإبقاء لبنان فوهة لبندقية"المقاومة"السورية عبر لبنان. فإذا شاءت سورية المقاومة فهذا حقها. لتفعل ذلك بنفسها عبر الأراضي السورية، أو عبر مزارع شبعا لأن هذه المزارع ذات الملكية اللبنانية ما زالت رسمياً وفي الوثائق الدولية تحت السلطة السورية وهي أراض سورية تحتلها اسرائيل. عندما يجتمع مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة المكلف مراقبة تنفيذ القرار 1556، تيري رود لارسن، مع القيادة السورية في الأيام القليلة المقبلة، ستخطر على باله فكرة تطبيق"الخط الأزرق"كميكانيزم لتنفيذ القرار 1559 ولحل النزاع السوري - الاسرائيلي، وكوسيلة لاخراج الوضع الراهن من المواجهة. الخط الأزرق هو آلية تنفيذ القرار 425. قد تخطر في باله فكرة الشرح الوافي لكل من القيادة السورية وقيادة"حزب الله"والقيادة اللبنانية ان المقاومة عبر مزارع شبعا لم تعد مقبولة على الصعيد الشعبي اللبناني الذي بات يفهم المعادلة وسئم من دفع ثمنها. ثم ان الأسرة الدولية ليست ابداً في وارد الاستمرار في غض النظر عن تركيبة شبعا في هذه الظروف، وهذا ما قد يبلغه لارسن الى جميع المعنيين في سورية ولبنان. والهدف من ذلك ليس ابداً اعفاء اسرائيل من كونها الدولة القائمة باحتلال مزارع شبعا. فالأممالمتحدة تعتبر شبعا رسمياً اراضي سورية تحتلها اسرائيل، وتقع في منطقة فك الاشتباك بموجب ولاية القوة الدولية لفك الاشتباك بين سورية واسرائيل اندوف. الهدف هو ابلاغ كل من القيادة السورية وقيادة"حزب الله"ان الكلام عن المقاومة عبر لبنان هو استنزاف للبنان، وهو كلام لا اجماع عليه لبنانياً. الهدف هو ايضاح الاجماع والعزم الدولي على تنفيذ القرار 1559، ولتقديم المساعدة لايجاد الآليات، لأن رود لارسن يذهب الى المنطقة الآن للاستماع جيداً الى كل مؤشر ورسالة، لذلك يتعين على القيادات اللبنانية ان تستمع الى الرسائل السورية، انما مع صوغ مواقف لبنانية نحو لبنان. فدمشق راغبة في استخدام زيارة لارسن لأكثر من رسالة اقليمية، وهي مستعدة للاخذ والعطاء عبر لبنان وعلى حسابه اذا برزت الحاجة، وهذا حقها. فمسؤوليتها أولاً وأخيراً هي مصلحة سورية وليست مصلحة لبنان. المصلحة اللبنانية تقتضي تنفيذ القرار 1559 بغض النظر ان كان القرار يعجب"حزب الله"أو لا يعجبه. فإذا أراد حزب الله ان يكون لبنة رئيسية في بناء لبنان المستقل المتخرج عن كونه مقر خدمة لسورية وايران، فها هي ذي فرصته لاثبات هويته اللبنانية. فإذا اتخذ هذا الخيار سيقف جميع اللبنانيين معه في صوت واحد يتحدى ويقهر وصفه بالارهاب. سيضرب جميع اللبنانيين له سلاماً ليس لمساهمته في إنهاء الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان فحسب، وانما لاختياره لبنان فوق استخدامه اقليمياً ولاصطفافه مع اللبنانيين وليس ضدهم. سيصرخ اللبنانيون في وجه المتطرفين في واشنطن: الأمر أمرنا إياكم استخدامنا في حرب الارهاب. اما إذا اختار"حزب الله"الهيمنة على"الوطنية"و"العروبة"من خلال تنصيب نفسه داعياً لها وحاميها، سيغامر بأكثر من انهيار هيبته لبنانياً وعربياً، سيراهن بأكثر من انحسار المواجهة اللبنانية والعربية والاوروبية لوصفه اميركياً منظمة"ارهابية". سيكون الحزب داعية الحرب الاهلية وسينسف سيرته التاريخية التي لم تشهد البقعة العربية مثيلاً لها، اذا ساء الحساب. وهذا مستبعد، لأنه ليس من نمطه. ولكن، ولأن الوضع في غاية الدقة ولأن مصير لبنان في المعادلة على"حزب الله"ان يفهم الآتي: انه مسؤول عن اي توريط للبنان في حرب اهلية، اذا حدثت، وعليه الآن وبعد تظاهراته المنظمة الضخمة مسؤولية تجنيب لبنان الحرب الاهلية بعدما كاد ان يطلقها. الرهان الآن على حكمة"حزب الله"وفكره وذكائه وولائه للبنان. فإذا اختار الحذاقة والتلاعب على المعادلات الجديدة، فسيكون حسابه مع الاجيال اللبنانية اكثر مما هو مع الادارة الاميركية. فلقد عبر"حزب الله"للأسف خطاً أحمر عندما حشد اللبنانيين واستدعى السوريين الى تظاهرات هدفها ليس استدعاء استمرار الهيمنة السورية فحسب وانما احباط الانقلاب على سيرة الطائفية اللبنانية.