كانت مزارع شبعا حتى 25 أيار مايو عام 2000، عند انسحاب قوات الاحتلال الاسرائيلي، غائبة عن القاموس اللبناني المقاوم في نسخاته المختلفة ولا تندرج في مفرداته، باعتبار ان التركيز كان منصباً على منطقة الشريط الحدودي المحتل منذ عام 1978، والذي توسعت حدوده بعد عام 1982، اذ كان القرار الدولي الرقم 425 يلحظ حدود الخط الأزرق الممتد من الناقورة وصولاً الى تلال كفرشوبا في العرقوب بمساحة تقارب الألف كيلومتر مربع. ولأن مزارع شبعا لبنانية تاريخياً، كما يؤكد عليها تاريخ المنطقة وروايات أهالي العرقوب ومرتفعات جبل الشيخ، لم يكن يتذكرها سوى اللبنانيين المعنيين مباشرة بها بفعل علاقتهم بأرضها والمساحات المثمرة من الأراضي التي يملكونها فيها بحجج غير مسجلة رسمياً في الدوائر العقارية اللبنانية. اذ ان أراضي هذه المنطقة غير ممسوحة من قبل الدوائر العقارية اللبنانية وهو ما شكل ثغرة في الخرائط الرسمية الموجودة بحوزة لبنان، والنسخ المختلفة الموجودة في دوائر الأممالمتحدة المختصة وبعض الدول الكبرى، خصوصاً في الخارجية الفرنسية. بدأت قضية مزارع شبعا تظهر الى العلن وتبرز بقوة الى الواجهة بعد تحرير المنطقة المحتلة من الجنوب وتحديد الخط الأزرق طبقاً لوثائق اتفاق الهدنة عام 1949. فتركز نشاط"المقاومة الاسلامية"الذراع العسكرية ل"حزب الله" في منطقة المزارع وتلال كفرشوبا، تحت عنوان ان هذه الأراضي لبنانية وينبغي تحريرها من الاحتلال الاسرائيلي، وان القرار 425 لم يكتمل تطبيقه طالما ان مزارع شبعا محتلة، وهو ما يعطي مشروعية لاستمرار المقاومة. وتناغمت الدولة اللبنانية والحكومات المتعاقبة منذ عام 2000 مع هذا التوجه، ورفض لبنان نشر جيشه على الحدود طالما ان هناك أراضي لبنانية لا تزال تحت الاحتلال. وبمعزل عن النقاش الدائر حول وظيفة المقاومة ودورها، واستطرداً وضع منطقة مزارع شبعا في مشروع"حزب الله"الداخلي والاقليمي، وبصرف النظر عن أحقية طرح الأسئلة حول ابقاء المنطقة على هذا النحو، وحسابات الجدوى والمصالح الوطنية اللبنانية، والنقاش في ما اذا كان ممكناً العودة الى نوع من الهدنة لا تعرض البلاد لاهتزازات كبرى، اضافة الى موضوع الاجماع حول استمرار السخونة والتوتر على الحدود وجعله منطقة تماس، وما اذا كان ذلك مرتبطاً بملفات اقليمية، فإن الأمر يستدعي التوقف فعلاً أمام خصوصية مزارع شبعا، في ضوء التأكيد اللبناني على استمرار العمل بمختلف الوسائل لتحرير ما تبقى من أراض محتلة في الجنوب اللبناني، خصوصاً منطقة المزارع. ملحقة بالقرار 242 احتل معظم مزارع شبعا عام 1967، عندما كانت المنطقة خاضعة للسيطرة السورية بموافقة لبنانية. وقد وضعت سورية مخافر في المزارع بطلب لبناني بعد عام 1958 لمنع التهريب، علماً أنها كانت تقر بلبنانيتها. ودفع احتلال الجولان السوري المحاذي للمزارع بالأممالمتحدة الى الحسم بادراجها تحت القرار 242 من دون بروز اي موقف لبناني يسمح بإبقاء منطقة المزارع في الخريطة اللبنانية، اذ كانت هناك خشية منان تضع أي مطالبة بذلك لبنان أمام انعكاسات الصراع العربي ? الاسرائيلي. ولكن بعد عام 2000 اعتبرت الحكومة اللبنانية ان المزارع مشمولة بالقرار 425 من دون أن تعطي الوجه القانوني لذلك، ما أدى الى تعارض حقيقي وحاد بين النظرتين. ومنذ تحرير القسم الأكبر من الجنوب اللبناني أو معظم الشريط الحدودي باستثناء مزارع شبعا وبعض تلال كفرشوبا، لم يقدم لبنان ولا يملك، لسوء الحظ، حتى الآن العدة اللازمة والوثائق القانونية الكافية لتغيير نظرة الأممالمتحدة واستطراداً المجتمع الدولي من قضية المزارع، بصرف النظر عن النقاش حول مشروعية المقاومة، وهو أمر لم يكن بارزاً عند التدقيق بخط الانسحاب الاسرائيلي على طول الحدود الجنوبية، اذ يملك لبنان الاثباتات الضرورية والخرائط حول خط"بوليه ? نيوكامب"لعام 1923، وحول خط الهدنة لعام 1949، ما مكنه من استعادة ملايين الأمتار المربعة عند وضع الخط الأزرق عام 2000، على رغم تحفظه عن عدد من النقاط الحدودية. الوضع الاستثنائي والحجة الضعيفة واذا كانت قضية الحدود المرتبطة بالخط الأزرق تبقي ملف الحدود مفتوحاً باعتبار ان هناك أراضي لبنانية لا تزال وراءه، وبينها أراضي في قاطع كفرشوبا، فإن للحديث عن مزارع شبعا معنى مختلفاً، ما يقتضي مصارحة من مختلف الأطراف والاتجاهات اللبنانية تعترف بضعف الحجة التي يملكها لبنان في مواجهة هذه القضية من أجل التحضير لاجراءات قانونية وديبلوماسية بالتنسيق مع سورية تقوي الموقف اللبناني وتشرعن مطالبه تحت قبة المجتمع الدولي وهيئة الأمم وتحمي مقاومته وسيادته وتصون قضيته الوطنية. وفي حين أنه لا يوجد خلاف داخلي حول لبنانية المزارع، وان هذا الخلاف يظهر في الشق المتعلق بالخيارات المتاحة، وما اذا كانت تحظى بإجماع اللبنانيين بعد انجاز التحرير، ومعها حسابات الكلفة والفاعلية في اطار ما تبقى من الصراع مع اسرائيل على المستوى العربي، فإن استكمال الملف اللبناني حول المزارع تجاه المجتمع الدولي، وربما تجاه الداخل اللبناني، يعيد نسب المزارع الى القضية الوطنية اللبنانية، ويمنع أو يخفف من تداعيات التدخل الاسرائيلي المحتمل في الشأن اللبناني بنسخته الجديدة من ثغرة شبعا. يحق للبنان التأكيد على لبنانية مزارع شبعا، ويحق له اعتبار ان القرار 425 الذي صدر في آذار عام 1978 نص على الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي اللبنانيةالمحتلة كافة، كما يحق له أن ينظر الى أي قطعة أرض محتلة مهما صغر حجمها من منطلق سيادي، لكن منطقة المزارع التي لها وضع خاص منذ عام 1967 والتطورات التي حصلت فيها، تفرض على لبنان اعادة النظر بطريقة تعاطيه مع هذه المسألة نحو تصويب الخلل القانوني المرتبط بملفها. اتفاق الفصل وقوات"اندوف" واذا كان اللبنانيون يشاهدون من وقت الى آخر دوريات قوات"اندوف"الدولية تجوب منطقة المزارع اللبنانية امتداداً من الجولان السوري المحتل، كونهما تابعين لمسؤوليتها انطلاقاً من القرار 242، فإن ذلك لم يكن مستغرباً على المستويين الدولي والاقليمي، ذلك ان قوة"اندوف"التي ترابط على الخط الفاصل بين القوات السورية والقوات الاسرائيلية في الجولان تقوم بمهمتها الطبيعية، انطلاقاً من ان اتفاقية فصل القوات التي وقّعت عام 1974 بعد حرب الاستنزاف السورية في الجولان، لحظت حدودها منطقة المزارع باستثناء مزرعة بسطرة وهي آخر مزرعة احتلتها اسرائيل عام 1972. على هذا، فإن احتلال مزارع شبعا بدأ عام 1967، بدءاً بمزرعة"المفر"التي تتداخل بين الحدود اللبنانيةوالفلسطينية والسورية، والتي تفصل منطقة المزارع عن وادي العسل السوري، وهي المزرعة الأولى التي احتلت في 10 حزيران يونيو 1967، ثم استولت اسرائيل في 15 حزيران على مزارع"خلة غزالة"و"ظهر البيادر"و"رويسة القرن"و"جورة العقارب"و"فشكول"هجرت معظم سكانها. وفي 20 حزيران من العام 1967، استكملت اسرائيل اجتياحها لمزارع"قفوه"و"زبدين"و"بيت البراق"و"الربعة"و"برختا التحتا"و"برختا الفوقا"و"كفردورة"و"مراح الملالي". وفي آب أغسطس من العام نفسه احتلت مزرعة"رمثا"وهجرت كامل سكان المزارع وفجرت منازلهم. واكتمل احتلال المزارع عام 1972 باجتياح مزرعة بسطرة، فضمت مساحاتها المتبقية وسيّجت المنطقة بأسلاك شائكة ومكهربة. احتلال المزارع والموقف اللبناني لم يحدث احتلال مزارع شبعا ردود فعل رسمية لبنانية طوال تلك الفترة، ولم يظهر في وثائق الأممالمتحدة أي شكوى رسمية لبنانية بين عامي 1967 و1974، على رغم صدور قرارات للمنظمة الدولية تطالب اسرائيل باحترام أراضي لبنان وسيادته وتدعوها الى الانسحاب من أراض كانت اجتاحتها على طول الحدود الدولية من الناقورة الى كفرشوبا في فترتي الستينات والسبعينات، أما الاشارة الوحيدة التي ظهرت رسمياً فهي من قبل عدد من النواب خلال مناقشات البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة في لبنان بين عامين 1968 و1974، والتي اقتصرت على المطالبة بإثارة موضوع احتلال اسرائيل للمزارع ومساعدة مهجريها والمهجرين من منطقتي القنيطرة والحولا في الجولان المحتل وشمال فلسطين الذين لجأوا الى بلدة شبعا، ومطالبة مجلس الجنوب آنذاك بالتعويض عن الأهالي الذين لم يكن قانون التعويض يلحظ ممتلكاتهم في المزارع، بعكس أهالي منطقة كفرشوبا وكفرحمام وراشيا والهبارية وشبعا. لم يتوقف احتلال اسرائيل للمناطق المتاخمة للمزارع في تلك الفترة في العرقوب على المزارع وحدها، بل امتد الى غير منطقة، خصوصاً في قاطع كفرشوبا، ولا تزال حتى الآن تحتل أجزاء منه، خصوصاً جبل الروس الذي يعرف ب"رويسة العلم"، وهو عبارة عن تلة دارت معارك طاحنة حولها بين الفدائيين الفلسطينين وجيش الاحتلال الاسرائيلي عام 1970، و"رويسة السماقة"و"مشهد الطير"وخراجات أخرى تمتد من كفرشوبا في اتجاه القنيطرة السورية. ويملك لبنان خرائط مفصلة لهذه الأراضي التي وردت في خرائط الحدود لعام 1943 باستثناء مزارع شبعا. على ان هناك نقطة أخرى تتمسك بها الأممالمتحدة وتملك وثائق كافية حولها، وهي أن خط انتشار قوات الطوارئ الدولية"اليونيفيل"الحالية في المنطقة الجبلية، المحاذية للمزارع وعلى الخط الأزرق، هو الخط نفسه الذي اتفق عليه عام 1978 بين لبنان والمنظمة الدولية، وهو الأمر الذي جعل الأممالمتحدة تتمسك به وتصرّ عليه عند وضع الخط الأزرق بعد التحرير، من دون أن تفضي الاعتراضات اللبنانية المتحفظة الى نتيجة ملموسة. انطلاقاً من ذلك، تكون اسرائيل بدأت باحتلال المزارع عام 1967، واقتطعتها بشكل تام عام 1972، بعدما سوّرتها وأحكمت السيطرة عليها بطرد جميع من فيها، ثم عادت وثبتت قرار الضمّ مع صدور قرار عن القيادة الاسرائيلية عام 1989، على رغم أن اسرائيل كانت لا تزال تحتل الشريط الحدودي بكامله حتى منطقة جزين، والقرار يلحق المزارع بقيادة الجولان وجبل الشيخ. ولم تنفع في رد ذلك تحركات وزارة الخارجية اللبنانية التي أرسلت تعليماتها الى مندوب لبنان الدائم في الأممالمتحدة بضرورة اجراء اتصالات لتأمين ضغط دولي من أجل وقف الضم الذي حصل منذ عام 1967 وأوجد واقعاً مختلفاً على الأرض عن واقع مناطق الشريط الحدودي الأخرى. الالتباسات والطريق الصعب لم ينف احتلال اسرائيل لمزارع شبعا وضمها واندراجها في اتفاقية فصل القوات عام 1972 بين سورية واسرائيل، لبنانية المزارع بالنسبة للبنانيين عموماً، خصوصاً الجنوبيين منهم. والمعمرون الذين لا يزالون على قيد الحياة يروون ان سورية طلبت من لبنان منتصف الخمسينات من القرن الماضي العمل على وقف التهريب من هذه المنطقة الجبلية في اتجاه فلسطينالمحتلة، عبر مثلث مغرسبكا اللبنانية ? بانياس السورية - الحولة الفلسطينية. ولما لم تكن للبنان قدرة على ذلك، وضعت سورية مخافر أمنية في المنطقة بموافقة لبنانية، في حين اقتصر التدخل اللبناني على دوريات للجمارك اللبنانية كانت تحصي أعداد الماشية وتدقق في ما اذا كانت حصلت عمليات تهريب أم لا. ولذلك حين اجتاحت اسرائيل المنطقة لم تكن توجد في المزارع سوى قوات سورية، فنسبت الأممالمتحدة المزارع المحتلة الى القرار 242. حاول لبنان في الفترة الأخيرة التحرك من أجل اثبات لبنانية مزارع شبعا، وقدم خرائط محلية تثبت ملكية اللبنانيين لأراضي المزارع مع حجج ملكية لعدد من اللبنانيين. وتبين أن الأممالمتحدة تملك خرائط عدة لا تشير الى لبنانية المزارع وتنسبها الى سورية ملحقة اياها بالجولان السوري المحتل. لكن تاريخ المنطقة يؤكد لبنانية المزارع التي كان يعيش فيها لبنانيون، وهي لا تتعدى بمجملها مساحة 40 كيلومتراً مربعاً، وهو ما يفترض تحركاً لبنانياً على غير مستوى واتفاقاً مع سورية يعيد تثبيت لبنانية المزارع بوثيقة ترفع الى الأممالمتحدة تعترف بلبنانية المزارع وتعطي الأممالمتحدة دفعاً لاعادة النظر في خرائطها واعادة ترسيم حدود المنطقة في الوقت المناسب، وربما يستدعي ذلك طلباً من الأممالمتحدة لاستصدار قرار يساهم في اخراج اسرائيل من المنطقة، وهذا وحده يحل المشكلة ويشرعن المطالبة اللبنانية باستعادة المزارع، بما يتجاوز الكلام الانشائي المتبادل حول لبنانيتها. كاتب لبناني