سواء ثبت اتهام "حزب الله" اللبناني بتشكيل "خلية إرهابية" في سنغافورة هدفها ضرب مصالح إسرائيلية وسفن اميركية، أم لم يثبت، فالأكيد ان فشل "حزب الله" في استكمال اندماجه في الحياة السياسية اللبنانية الداخلية هو الذي يجعل موضوع مستقبله مفتوحاً للبحث بهذه الحدة في الدوائر السياسية الدولية، خصوصاً لدى القوة العظمى في العالم المتولية الحملة على الإرهاب والناشطين عسكرياً ضدها. وهو الفشل نفسه الذي يمنع الحزب من التمتع بمناعة لبنانية شاملة تغلِّب اولوية الدفاع عن انجازاته التحريرية السابقة وترد عنه سهام الاستهداف الحالي. لم يصل "حزب الله" الى وضعه الحالي صدفة. فهذا الحزب الحائر بين محلية تجعل الانتماء إليه مذهبياً صرفاً وبين اقليمية يحاول اعطاءها بعداً عربياً وإسلامياً، اختار منذ تحرير الجنوب اللبناني قبل عامين طريقاً يناقض سعيه منذ العام 1990 اثر اتفاق الطائف الى الاندراج في العمل السياسي الداخلي عبر الفوز بكتلة برلمانية محترمة. وهذا الطريق لا يعرضه فقط للمخاطر والاتهامات بل يمهد السبيل لإفقاده الدعم والحماية من المجتمع اللبناني. فالحزب، مدعوماً من السلطة اللبنانية ودمشق وطهران، قرر ان مزارع شبعا لا يمكن تحريرها إلا حرباً، وأن الخط الأزرق الذي رسمته الأممالمتحدة إثر انسحاب إسرائيل ليس خطاً احمر للعمليات العسكرية، وأن القرار 425 الذي قاتل الحزب ودعمه اللبنانيون من اجل تنفيذه، لم يطبق كاملاً. وكل ذلك خلافاً لقناعات الأسرة الدولية وجزء كبير من اللبنانيين وبينهم قوى اطلقت المقاومة الوطنية ضد الاحتلال قبل ان يتم احتكار الحزب لها. والحزب بهذا القرار انحاز بقوة الى إقليميته مضحياً بمساعيه للبننة لم تخلُ من نجاح. من السذاجة الاعتقاد أن الاتهامات الموجهة الى "حزب الله" في سنغافورة مسألة قضائية عادية، أو ذات علاقة بموضوع مكافحة الإرهاب عموماً. فهي غير منفصلة عن قرار الحزب استمراره في حمل السلاح على حدود لبنان الجنوبية وعن الموقف الذي وقفه إبان الهجوم الشاروني على السلطة الفلسطينية. وهي جزء من الردود على تحريكه المدروس، ولكن غير المجدي، للجبهة الجنوبية عبر مزارع شبعا. والمؤسف ان "حزب الله" الذي عجز عن التدخل بفاعلية تمنع تدمير السلطة الفلسطينية او تحول دون مجازر جنين، استطاع إحداث ضجة إعلامية كانت كافية لجعل الأميركيين يتهمونه بالوقوف في صف القوى الناشطة ضدهم، وشكلت مبرراً لاستمرارهم في الضغط الاقتصادي على لبنان، وذريعة لحمل بوش على تخييب امل شيراك اثناء لقاء الرئيسين الأخير في باريس، وتمثل ذلك في تجاهل الرئيس الأميركي الدعوة الى مساعدة حكومة لبنان، على رغم وضع الرئيس الفرنسي هذا التمني في سياق "إعادة تأهيل" الحزب أو تقليص نفوذه. ضيّع "حزب الله" الفرصة تلو الأخرى وأفسح بالتالي المجال لفتح ملفات كانت تنتمي الى الماضي أو لإطلاق اتهامات ضده بلا إثبات. فهو، إضافة الى اعتباره اجماع اللبنانيين غير ضروري لمتابعته المقاومة المسلحة، وقف عملياً، في المحطات الرئيسية من الأحداث الداخلية التي جرت في لبنان، الى جانب اخطاء السلطة، وشكل احتياطياً لها تحت شعار حياد يتطلبه منطق المقاومة والتضامن مع الانتفاضة. فنأى بنفسه عن حوادث 7 آب اغسطس من العام الماضي حين تم الاعتداء على الحريات، مع ان إعلامه لم يتردد في تبريرها. لكن دفنه رأسه في الرمال حالياً في معمعة انتخابات المتن الفرعية وضعه فعلياً في موقع المتنكر لتضامن المعارضة معه حين استهدفه الأميركيون بعد 11 ايلول وشنوا عليه حملة الاتهام بالإرهاب. ويبدو ان الحزب لم يدرك معنى هذا التضامن الحامل معاني وطنية كونه لم يأتِ بضغط ولا بمحاباة، فلم يصدر عنه "رد جميل" سياسي في مفترق انتخابات اعتبرتها المعارضة مفصلية. فهل يعيد "حزب الله" تقويم مواقفه فيندمج في الحياة السياسية الداخلية بطريقة سليمة تجعله يتظلل مجدداً بإجماع اللبنانيين لمواجهة اتهامات تتعلق ب"خلية سنغافورة" أو بنشاطات مراحل سابقة؟ أم يتحول نهائياً حزباً ذا وظيفة اقليمية بحتة تبطل الحاجة إليها او يُضحّى بها على مذبح تسويات تبدو الآن بعيدة، ولكن لا احد يدري متى تقترب؟