الغريب أو"الأجنبي" هو اشبه بمحل لا يحله او يشغله احد. فنحن نعرف إلى ما ننتسب، ولكننا نجهل من هم الآخرون حيث يقيمون، وحيث هم. ونشعر نحن أننا غرباء في ضوء قياس معكوس على غرابة الغريب. وإدراك الأمر يمهد الطريق الى تعارف متبادل، وإلى الضيافة على وجهيها، السياسي والأخلاقي. وهذا قد يتيح تناول الكثرة والتعدد الإنسانيين تناولاً ايجابياً، والإقرار باستحالة تخطيهما وطيّهما. وإذ ذاك، يجوز التساؤل عن محل تصوف يذهب إلى ان المرء هو نفسه على قدر ما يستقبل غيره او الآخر. وقد يكون مستهجناً ان أتحفظ عن هذا التصوف. فمقدار ما قد اميل الى فكرة أبوة ترعى بنوتنا وأخوتنا التوحيديتين، وإلى فكرة مصالحة تختم تاريخ البشر وتتوجه، مقدار ما احمل العلاقات بين البشر، من وجههما الأخلاقي ووجهها السياسي، على المنازعة والخلاف. وإنني لأذهب الى ان داء الأديان كان سعيها في المكافئ السياسي لما يسميه بعضهم حنيناً الى الوحدة او نداء الى الذوبان الصوفي. ... وفي اختصار، مصدر العنف الديني هو اعتقاد اركان ايمان يتخطاه موضوعه من فوق او من اعلى. فالاعتقاد يزعم"احتواء"موضوعه، والقيام محل وعائه. وزَعَم علم الكلام اننا نستقبل الله مقدار طاقتنا وسعتنا على الاستيعاب. وينبغي تطبيق القول على الديانات: فهي طاقة محدودة على استيعاب او استقبال ما يتخطاها. والمعنى الآخر للاحتواء هو رفع الجدران والحواجز الجانبية. وهذا الضرب من التحوط والتطويق هو السبب في ادخال الحرب دائرة الدين ونطاقه، وهو السبب في استيلاء السياسة على الدائرة هذه. ولا شك في ان شرط مبدأ الضيافة او اصلها ان تكون سبقته حالُ الغربة. فعلى قول سفر اللاويين:"لما كنتم غرباء بمصر، احبوا بعضكم بعضاً"... والحق انه لا وجود للإنسان إلا في كثرة الثقافات واللغات والديانات. ولعل اللغة خير تمثيل على ذلك. فكون الإنسان متكلماً حال كونية عامة، ولكن اللغة، على عمومها، لا تحل في لسان واحد. فهناك ألسنة كثيرة كأنها انفراط اول او اصلي. ولعل التنبه الى كثرة اللغات هو مصدر تناول مسألة الغريب: فتبدو لي لغتي لغة بين لغات اخرى كثيرة. ... وعلى واحدنا ان يكتشف مصْر بلد غربته، اذا لم يختبر الغربة، فعلاً وحقيقة، أي عليه ان يكون غريباً على نحو رمزي، وأول الأمر هو المقارنة. فمن طريق الفضول، أي من طريق اختلال التوازن جراء المقارنة، يسافر المرء سفراً طويلاً في خلال نفسه، ويسألها: ماذا لو لم أولد هنا، وماذا لم أكن كذا... فيتوهم هويته توهماً يقوده الى القلق، ويجعلها مبعث غرابة مقلقة. فهل في وسعنا تعدي جرح الهوية هذا والنزوع الى هوية واحدة تذوب فيها الهويات الكثيرة؟ يتملكني الحذر بإزاء مثل هذه النزعة. فالكثرة الإنسانية حقيقة يستحيل تجاوزها. فإلى حقيقة الدولة - الأمة، ثمة اللغات والثقافات والحضارات. ... ولا ريب في قوة النازع الى المبالغة في تقويم الفروق الدقيقة. فكلما يممنا شطر الفروق المجهرية أثقلت القيمُ الرمزية الفروق هذه، وعرانا الاضطراب. وقد يكون مرد الأمر الى ان ما تخسره الأقلية القلة التي تعيش وسط اقليات قلات هو الاطمئنان الراسخ الى الانتساب والانتماء. وحين تتضاءل جماعة الانتساب يقترب افرادها من بلوغ الحد الذي يقوم الواحد عنده برأسه، ولا يحل محله احد، وينقلب الفرق الدقيق فرقاً مطلقاً، ولسان حاله:"إنني انا ولستُ انت". فيحاذى ما لا بديل منه ولا قرين له. ... إذا لم يكن المرء، ابتداء، بؤرة إثبات وإيجاب، امتنع وجود ارض ضيافة واستقبال، ولما جاز او امكن صدور"دعوة الى المسؤولية"، على قول ليفيناس الفيلسوف الفرنسي ... وكان يحير كلود ليفي ستروس الباحث في علم الأجناس والأقوام ويقلقه ان ما يدمر الثقافات الضعيفة والضئيلة هو عين المراقب التي تنتبه إليها وتلاحظها. وبعبارة اخرى، فإن الانتباه إليها هو الإيذان بتدميرها. وتقود الضيافة الى المساواة. وعلى خلافها، ترتب السيطرة الناس على مراتب وطبقات. والحق اننا لا نعرف هيئة تتولى نظم علاقات وروابط انسانية خلت من علاقة السيطرة. فنحن نجر ثقل السلطة. واليوم تتحول علاقات السيطرة السياسية، وكانت الحرب ترجمتها المرجحة، الى بث السجال والاحتراب في العلاقات الاقتصادية والثقافية. وعلى هذا، تغدو السيطرة اشد مراوغة وخفاء وغلبة. وفي حال الطبيعة، تقود السيطرة الى المحق. فينبغي تقييد المفاعيل الخبيثة للسيطرة، اكانت هذه منزلية ام اهلية طائفية، او سياسية، او داخل جماعة وطنية او قوم إثنية. ... وتقود الإيديولوجية الأمنية الى إلغاء الغرابة او الأجنبية، ونفيها من احساس الانتماء ووجدانه. وقد يبدو هذا مشروعاً. فتاريخياً، انتهى التطور السياسي الى الدولة - الأمة، وجمد عندها. وأقرت الأممالمتحدة بالحال هذه. وهو إقرار بتولي مبدأ السيادة الغلق الثقافي الحضاري، والقيام به. وعلى هذا، نسأل: أي مقدار من الغرابة في المستطاع تحمله؟ وألاحظ ان مخالطة الثقافات الأجنبية تؤدي الى التحلي بمقدار كبير منها. وعلى خلافهم، لا يتحلى من يعانون من مواطنينا الفرنسيين التهديد في حياتهم اليومية، وسكنهم وعملهم، إلا بقسط ضئيل من تحمل الغرابة. وعلينا الإقرار بأن شطراً من المواطنين يحسبون انهم اقصوا عن الحياة العامة الى هامشها. عن بول ريكور فيلسوف فرنسي رحل في 20/5/2005، وكتب في موضوعات السياسة والأخلاق كتباً كثيرة، لونوفيل اوبسرفاتور الفرنسية، 30/6 -6/7/2005.