لا يمكن لعاقلين أن يختلفا على أن التعصب آفة، لأنه يأكل عقل الفرد وروحه، ويشتت جهد الجماعة الوطنية في معارك فرعية، بعضها قد يتسع ويستفحل ليهدد مصير الوطن. لهذا علينا أن نتعلم كيف نتسامح مع الآخرين، وندرك أن هذه فضيلة لا يمكن التفريط فيها، وأنها كعادة كل الفضائل تقع في منزلة بين المنزلتين، أي في منتصف المسافة بين التعصب واللامبالاة. إن التسامح هو صورة التكيف التي بمقتضاها تميل الجماعات المتعارضة إلى الانسجام المتبادل، وتحاشي الصراع من أجل التوصل إلى حل عملي، في ظل مبدأ عدم التدخل في معتقدات وتصرفات الآخرين التي لا يحبذها المرء، ولا تروق له. ومن ثم فإن عبارة «عِش واترك الآخرين يعيشون» تعتبر مثالاً مبسطاً وجلياً على التسامح. وتوجد درجات متنوعة لمبدأ عدم التدخل، أولها أن يتجاهل المرء الآراء والأفعال التي لا تُناسب طبيعته، وثانيها أن يعبر عن عدم تحبيذه لها، وثالثها أن يحاول دحض الآراء والأفكار التي لا يستسيغها. والتسامح، الذي كرس الديبلوماسي والكاتب الإيطالي مايكل أنغلو ياكوبوتشي كتابه «أعداء الحوار: أسباب اللاتسامح ومظاهره»، لمدحه وتعظيمه، هو من القيم الأصيلة في ثقافة الديموقراطية، إذ إن الحريات الثلاث المرتبطة بالتفكير والتعبير والتدبير، تنطوي على تسامح مع المعارضة السياسية، أو مع الآخر المختلف معنا في الاتجاهات والتوجهات. ويوصم بالتعصب والاستبداد كل من يحاول أن يحرم المعارضين من التعبير اللفظي والحركي عن أنفسهم، ما دام قولهم وفعلهم لا يخالفان القانون، ولا يشكلان اعتداء على حريات ومصالح الآخرين. وكتاب ياكوبوتشي هو نتاج خبرته العريضة التي استقاها من أعمال ومناصب متعددة شغلها في مسيرته الطويلة، فهو درس القانون والعلوم السياسية، وعمل في مطلع حياته ضابطاً في سلاح الجو الإيطالي، ثم قنصلاً في ملبورن وممثلاً دائماً لإيطاليا لدى الوكالة الدوية للطاقة الذرية في فيينا، ثم مستشاراً سياسياً لسفارات إيطاليا في دبلن وبكين وواشنطن، وسفيراً لبلاده في الجزائر واليونان والبرازيل، وبعدها متحدثاً رسمياً باسم الرئيس الإيطالي الأسبق ساندرو بريتني، فعضو المجلس التنفيذي ل «يونيسكو»، ورئيساً للمجلس التنفيذي للاتحاد اللاتيني. ولو عدنا إلى الوراء قليلاً، نجد أن جون لوك وهو من كبار الفلاسفة المدافعين عن التسامح الديني في وجه تعصب الكنيسة وتجبرها، وضع في كتابه الصغير المهم «رسالة في التسامح»، مجموعة من الضوابط، التي لا يمكن تعديها حتى يصبح التسامح قيمة إيجابية، ولا ينزلق إلى التساهل أو اللامبالاة أو حتى ما هو دون ذلك بكثير. ومن هذه الضوابط رفض الترويج لمعتقدات وأصول تهدد بتدمير المجتمع، وإشاعة الإلحاد والفوضى، وتدمير بنية الدولة وتعريض مصالحها الوطنية للخطر، والتعدي على أموال الآخرين وحرماتهم، وإبداء الولاء لحكام أجانب، ما يعني خيانة الوطن، والخيانة ليست وجهة نظر، بل جريمة بشعة، لا يجب التساهل أبداً في عقاب مقترفيها. وأقر الإسلام في نصه ثقافة التسامح بتأكيده على مبادئ الإخاء الإنساني، والاعتراف بالآخر واحترامه، والمساواة بين الناس جميعاً، والعدل في التعامل مع الناس بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية واللسانية، وإقرار الحرية المنظمة. وهناك عشرات الآيات القرآنية التي ترسخ هذه المبادئ. أما على مستوى الفلسفة الإسلامية، فربما يكون الكِندي من أكثر من أقروا ثقافة التسامح حين دعا إلى خمسة منطلقات هي: ضرورة البحث عن الحقيقة لذاتها، وعدم إحاطة رجل واحد بالحقيقة بل قد لا يحيط بها الجميع، وتعرض الكل للخطأ، كما أن الوصول إلى الحقيقة يتطلب مشاركة الناس جميعاً، وأن التسامح ضرورة من أجل تحصيل التقدم. لكن كثيراً من الممارسات التي قام بها أغلب حكام المسلمين، ومن تحلق حولهم من الولاة والأتباع، افتقدت إلى روح التسامح، وخالفت الكثير مما جاء في النص القرآني الكريم. واختلف مفهوم التسامح في الماضي عما هو عليه الآن. فمن قبل اكتسى هذا المفهوم بطابع أبوي، ولم يكن ناجماً عن تطبيق مبدأ أو فكرة عظيمة وعميقة إنما مجرد سلوك فاضل، ما يعني أن هناك طرفاً لديه اليد الطولى على طرف آخر، وأنه يتسامح معه من قبيل العطف والشفقة أو فعل الخير. من هنا تبدو فكرة التسامح مرتبطة بالتعالي والازدراء بل والطغيان، إذ إننا حين نقول لشخص إننا نتسامح مع ما يفكر فيه، فهذا معناه أن تفكيره لا قيمة له، لكننا سنغض الطرف عن ذلك من قبيل المجاملة. أما اليوم فتغيرت النظرة إلى المفهوم منذ أن ارتبط بشعار «الحرية والمساواة والإخاء» الذي رفعته الثورة الفرنسية، حيث تخلى عن الطابع الأبوي، وأصبح يقوم على «الحق» الذي لا تفريط فيه، ويرتبط بالمواطنة، التي تعني عدم التمييز بين الناس على خلفيات تتعلق بالدين والمذهب والعرق واللغة والوضع الطبقي، ولا يرتبط بالمزاج الشخصي ويجعل منه أساساً لإقرار التسامح وكفالته. وفي دورته الثامنة والعشرين التي استضافتها باريس في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1995 اعتمد المؤتمر العام لمنظمة ال «يونيسكو» تعريفاً شاملاً للتسامح يرى فيه ما يلي: 1 - التسامح هو الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا، ولأشكال التعبير، وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال، وحرية الفكر والضمير والمعتقد. وإنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجباً أخلاقياً فحسب، إنما هو واجب سياسي وقانوني أيضاً. والتسامح هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام، يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب. 2 - لا يعني التسامح المساواة أو التنازل أو التساهل، بل هو قبل كل شيء اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته المعترف بها عالمياً. ولا يجوز بأي حال الاحتجاج بالتسامح لتبرير القيام بهذه القيم الأساسية. والتسامح هو ممارسة يجب أن يأخذ بها الأفراد والجماعات والدول. 3 - إن التسامح مسؤولية تُشكل عماد حقوق الإنسان والتعددية، بما في ذلك التعددية الثقافية، والديموقراطية وحكم القانون، وهو ينطوي على نبذ الدوغماتية والاستبدادية، ويثبت المعايير التي تنص عليها الصكوك الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. 4 - لا تتعارض ممارسة التسامح مع احترام حقوق الإنسان، ولذلك فهي لا تعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تخلي الفرد عن معتقداته أو التهاون بشأنها، بل تعني أن المرء حرّ في التمسك بمعتقداته، وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم. والتسامح يعني الإقرار بأن البشر المختلفين بطبعهم وفي مظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهم الحق في العيش بسلام، وفي أن يطابق مظهرهم مخبرهم، وهو يعني أيضاً أن آراء الفرد لا ينبغي أن تفرض على الغير. وعلى رغم الإيجابية التي ينطوي عليها مصطلح «التسامح» فإن الناقد الإيطالي أمبرتو إيكو له فيه رأي سلبي لافت حيث يقول في معرض تقديمه لكتاب ياكوبوتشي: «هو مصطلح مبهم، وهو بإيحاز، مصطلح لا متسامح، حيث إنه يفترض بالفعل، وفقاً لرافضيه، بأنه يمكن لنا الاعتقاد بأن شخصاً ما غير مقبول بشكل أساسي، أو أنه أدنى منا مرتبة، ولذا فمن الأفضل تحاشيه، بيد أننا نتسامح معه من باب الأدب، أو إيثاراً لمبدأ السلامة». لكن إيكو يمقت العنصرية البدائية أو «اللاتسامح الحيواني» الذي يُعزى إلى أسباب بيولوجية، ويراه الأخطر بين ألوان التعصب قاطبة. إذ يمكن مواجهة «العنصرية العلمية» بإبداء الحجج العقلية المقنعة. ويعود جانب كبير من اللاتسامح في رأي ياكوبوتشي إلى غريزة العنف لدى الإنسان، التي بدأت معه منذ بدء الخليقة، وهو عنف ذو طابع فلسفي وأخلاقي يتصل بالطبيعة البشرية، وبقدر الإنسان على الأرض، لكنه من الناحية العملية يأتي في صيغة مأزق سياسي في الغالب الأعم، وهو يتوزع على أربعة اتجاهات، تتعلق باللاتسامح الديني، المرتبط باليقين المطلق في تصور حقيقة تأتي من الله تعالى، واللاتسامح الثقافي وهو اليقين المطلق لحقيقة واحدة تنحدر من الآباء، واللاتسامح السياسي وهو اليقين المطلق لحقيقة واحدة تأتي من عند الرئيس، وأخيراً اللاتسامح الأيديولوجي وهو اليقين المطلق أيضاً لكن لحقيقة تأتي من العقل. وينطلق ياكوبوتشي من هذا ليتتبع استمرار قيم اللاتسامح وأعراضه في الأديان والمذاهب والفلسفات والممارسات البشرية، في مشارق الأرض ومغاربها. وهو بحث عريض ومطول وعميق يصفه هو قائلاً: «بحثي هذا لا يسعى وراء عرض صنائع السوء، والنفس السوداء لهذا الدين أو ذاك، أو لأيديولوجية أو لأخرى، أو لعرق أو لآخر، أو لحركة سياسية أو لأخرى، بل إنه يسعى للتأكيد على أننا كلما مددنا أعيننا في الزمان والمكان، أدركنا أنه لا يوجد بشر أو شعوب، فقط من حيث الجوهر، أخيار أو أشرار، وأنه لا توجد عقائد أو أيديولوجيات حسنة تماماً أو سيئة تماماً، بل يوجد فقط أناس على قناعة راسخة بأن بعض الأفكار تمثل الخير المطلق، والأفكار المعارضة تمثل الشر...». ويعود اللاتسامح الذي تنتجه الممارسات الدينية المجافية لمقاصد الأديان وغاياتها، في نظر ياكوبوتشي إلى ثلاثة أسباب رئيسة، أولها: تسييس الدين، وهو بدأ في اتحاد مهام الحاكم والكاهن في شخص واحد أو التحالف بينهما، الذي استمر قروناً عانت فيها شعوب الغرب من تبادل المنافع بين السلطتين الكنسية والزمنية، وتسخير مختلف السلطات للدين بتحويله إلى أيديولوجيا واستغلاله في كسب الشرعية، والتلاعب بالجماهير، ورفع الغطاء عن المعارضين باتهامهم بالرفض أو الهرطقة أو الردة. وثانيها: هو قيام بعض رجال الدين في المسيحية واليهودية، بالحيلولة دون العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه، عبر الكهنوت. وقيام بعض علماء الدين ورموزه في الإسلام بمحاولة لعب الدور نفسه. أما السبب الثالث، فهو قيام أتباع كل دين برفض «الأغيار» أو أتباع الديانات الأخرى، فاليهودية رفضت المسيحية، والأخيرة ترفض الإسلام، والأخير لا يرفض الاثنين لكنه يعتمد مساراً معيناً لهما، انطوى عليها القرآن الكريم، الذي يقول: «لا نفرق بين أحد من رسله». كما أن أتباع الديانات السماوية الثلاث يرفضون الأديان والمذاهب الوضعية، ويطلقون على أتباعها اسم «الوثنيين». وقد بلغ هذا الرفض ذروته في مصر القديمة، حيث تم هدم معابد المعرفة الكلاسيكية، وتحويلها عنوة إلى كنائس، علاوة على قتل العلماء والفلاسفة، وفي مقدمتهم هياباتيا. وهنا يقول ياكوبوتشي: «بداية من عام 609 م، ومع تكريس البانثيون في روما أثناء بابوية بونيفاتشو الرابع بدأ افتتاح كنائس عديدة فوق المعابد، كنيسة تلو أخرى». ثم يسرد موجات أخرى من التعصب باسم المسيحية، مثل الصراع بين المسيحيين أنفسهم حول الثوابت العقدية، وموضوعات الهرطقة الكبرى، ثم حرب الفرنجة التي رفعت شعار «الصليب»، وبعدها محاكم التفتيش في القرون الوسطى، والتي تعد أكثر النقاط سواداً في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وتلاها مطاردة الساحرات، ثم ظهور البروتسانتية التي أدت إلى أن تصير أوروبا مسرحاً لحرب دينية طويلة، أظهر فيها الطرفان أدلة متساوية على البشاعة والغلظة، لم تنته الفصل الأكثر دموية فيها إلا مع صلح وستقاليا عام 1648 الذي أنشأ مجتمعاً دولياً جديداً يقوم على أساس الدولة القومية. لكن قيام الدولة القومية وانتشار التحديث والحداثة لم يقضيا على الأصولية المسيحية، التي ولدت في الولاياتالمتحدة، وظلت تترعرع فيها حتى أوصلت أحد رجالها وهو جورج بوش إلى سدة السلطة، والذي سعى إلى تنفيذ أكثر أطروحات الإنجليين تعصباً، باحتلال العراق وأفغانستان، لتعبيد الطريق أمام الحرب الأخيرة التي تشهد عودة المسيح، كما يعتقد هؤلاء. وجاءت الأصولية الإسلامية لتجنح بعيداً عن تعاليم الإسلام التي تحض على الرحمة، وتؤمن بحرية الاعتقاد، وتمنع الواسطة بين الإنسان وخالقه. وأخذت هذه الأصولية، لاسيما في شقها السياسي، تنتج خطاباً معادياً للآخر، سواء من بين المسلمين الآخرين، الذين يشكلون التيار العريض والعام من بين شعوب العالم الإسلامي، أو أتباع الجماعات والتنظيمات الإسلامية الأخرى، دعوية كانت أم مسيسة، أو أتباع الديانات الأخرى. أما التعصب المبني على الثقافة، فيتعلق بالإجابة على تساؤلات محورية من قبيل: كيف يمكن قتل شخص ما لمجرد أنه مختلف عنا؟ وما هو الشيء الذي يعطي كلمة ثقافة القوة نفسها التي يتصف بها التعصب الديني؟ ويدور حول اتجاهين رئيسيين أولها يطرحه عالم الأنثربولوجيا جيمس لوفلوك ويرى أن الإنسان سفاحاً بطبعه، وأن غريزة الصراع ولدت معه وتظل مدفونة في جيناته الوراثية. وثانيها يبديه جان جاك روسو الذي ينظر إلى الإنسان بوصفه «المفترس الطيب» الذي صار عنيفاً بالتدريج بسبب تأثير المجتمع. وينحصر اللاتسامح الثقافي في متقابلات ومفاهيم وتصوات من قبيل الأنا والآخر، والرغبات المتعاظمة في إثبات الذات، والدفاع الأعمى عن الهوية، والتمركز حول الجماعة، والتخوف من الأيديولوجيات المضادة، مثل الهواجس المتبادلة التي كانت بين الشيوعية والرأسمالية، والتي طالما صبت مزيداً من الزيت على نيران صراعات عديدة في العالم، ثم فكرة صدام الحضارات التي صاغها صمويل هنتنجتون ليبرر بها سياسات المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة الأميركية. وهناك أيضاً فكرة «خلق العدو» أو تفصيله على المقاس، المتوارثة منذ قديم الزمان. فالإغريق الأقدمون تحدثوا عن التهديد الفارسي، والرومان تكلموا عن خطر أهل قرطاجنة، وتناول الأوروبيون في زمن نهضتهم أحاديث مسهبة عن العدو التركي، ثم شهدنا الخطر الأصفر، ومن بعده الأحمر، وأخيراً «الخطر الإسلامي»، الذي لم يقتصر على تبشيع تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات السياسية المتطرفة ذات الإسناد الإسلامي، بل امتد إلى غيرهم من المسلمين. ويأتي اللاتسامح العرقي ليريق دماء غزيرة في تاريخ الإنسانية، بدءاً بما جرى للهنود الحمر لدى اكتشاف أميركا في 1492 على أيدي الإنكليز والفرنسيين والأسبان والبرتغاليين، وانتهاء بما وقع للمسلمين في البوسنة والهرسك على أيدي الصرب، مروراً بالصراعات العديدة في القارة الأفريقية مثل ما جرى لليهود على يد النازي، وما وقع بين الهوتو والتوتسي في رواندا وبورندي، وما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين. وإذا أمعنا النظر في الجانب الثالث المتعلق باللاتسامح المستمد من اليقين العقلي، فنجد أنه على الرغم من أن العقل يبدو للوهلة الأولى مناصراً للحوار ومرادفاً للحكمة والاعتدال والانفتاح ومؤمناً بالشك الذي هو توأم التسامح، فإنه لا يخلو من إنتاج التعصب. ويظهر هذا في لا تسامح الأنظمة الشمولية المستمدة من الإيديولوجيات مع ادعاء العقلية أو حتى العلمية، ولا تسامح العنصرية التي تتوهم أن لون البشرة أو شكل الجمجمة هو سر التميز أو الانحطاط، وتسعى إلى البرهنة على ذلك بقياسات علمية مزعومة، ترمي بها إلى التحايل على مبدأ المساواة، والاستمرار في عمليات التمييز والقهر. وفي ظل هذا يقوم بعض الأيديولوجيين والسياسيين بالضغط على علماء لتوفير معطيات حسب الطلب تخدم الرؤى والمسالك التمييزية، وقد يحدث العكس حين يشعر الأيديولوجيون والسياسيون بالرعب من تبعات الاضطهاد العنصري، ويلجؤون إلى العلماء ليوفروا أدلة على المساواة بين البشر. أما اللاتسامح السياسي فتنتجه الأنظمة المستبدة والشمولية، التي يميز بعضها بين المواطنين على أساس النوع أو العرق أو الدين أو اللغة أو الجهة أو اللون، ويقوم بعضها بممارسة أقصى وأقسى درجات التعصب ضد قطاعات من الجماهير باستبعادها وتهميشها. ولا يبدو أن هناك من سبيل لإنهاء اللاتسامح السياسي سوى التعمق في الديموقراطية، على مستوى المفاهيم والتطبيقات، لأن الديموقراطية، مثل التسامح، هي وسيلة وحل وسط لتحقيق أقصى خير ممكن لأكبر عدد ممكن من الناس، من زاوية احترامها للمختلفين في الرأي والموقف. وما ورد في الكتاب يجعلنا نقول بصراحة ووضوح جليين إن ترسيخ قيمة «التسامح» باتت ضرورة في العالم العربي، الذي يواجه استراتيجيات «الفوضى الخلاقة» وتتعرض بعض بلدانه للتجزئة والتقسيم جراء التعصب المذهبي والعرقي واللغوي، ويستشري العنف الاجتماعي في بعض أقطاره حتى صار مرضاً مزمناً. كما أنه ضروري لنزع الأوهام والحمولات الزائفة والافتراءات التي لصقتها قوى معينة في الغرب بالإسلام، إما لوقف تمدده في القارة الأوروبية، أو لتبرير الموجة الجديدة من الاستعمار. لكن في المقابل فإن العرب بحجة ماسة إلى التخلص من أي مسرب ولو ضيق يودي بهم إلى الوقوع في «التساهل»، الذي طالما أضاع حقوقهم ابتداء من «سايكس بيكو» وحتى «أوسلو»، ولا يبدو في الأفق طريق لاستردادها إلا بالإيمان القاطع والجازم بأن التفريط بدعوى «التسامح» و «قبول الآخر» فكراً وجسداً وقوة، رذيلة يجب أن تدفن إلى الأبد، وأن «التطبيع» مع العدو الصهيوني هو أقصى درجات هذا التفريط.