الكتابة في التصوف عامة وفي التصوف الإسلامي خصوصاً، ليست سهلة ولا ميسورة والحكم على سِفر ثمين يقع في نحو سبعمائة صفحة ويتناول العديد من النصوص الصوفية عبر التاريخ والتي تعكس التجليات الروحية في الاسلام سواء له او عليه، أمر بالغ الصعوبة اذا ما أريدَ لهذا الحكم ان يأتي ثمرة لنظر دقيق في تراث التصوف من ناحية، وفي مقاصد الأديان وآفاقها المتعالية من ناحية اخرى. هكذا يُقر رئيس جامعة الازهر الشريف الاستاذ الدكتور احمد الطيب في تصديره هذا المؤلف الثمين الصادر حديثاً عن الهيئة العامة للكتاب في مصر. ولعل السبب في ذلك هو ان التجربة الصوفية في جوهرها تجربة ذاتية متفردة غير قابلة للتكرار أو الاشتراك وان اللغة على اتساعها كثيراً ما تعجز عن الإفصاح عن مكنونات هذه التجارب وأسرارها المعقدة حتى ان عدداً من أئمة التصوف انفسهم وجدوا صعوبة في تعريف التصوف وقرروا انه لا مطمع في تحديد معناه تحديداً جامعاً مانعاً لتبدل أحوال الصوفي وتغير ارادته وتعدد اذواقه ومواجده. ما الذي يقدمه هذا الكتاب المميز للغاية وما الذي يضفي عليه ميزة صافية ضافية على نحو خاص؟ واقع الحال ان هذا العمل الأدبي التراثي الجليل يقدم خدمة كبرى للقارئ العربي ذلك انه يكاد يجمع في اسلوبه بين السرد والعرض وبين الاكاديمي والشعبي، في خلطة بديعة من الامانة العلمية الدقيقة لمظاهر التجليات الروحية في الاسلام ومن الحديث عن التصوف الاسلامي نشأة وتطوراً وازدهاراً وعرضاً للكثير من المفاهيم والقضايا الانسانية. ذلك من خلال نصوص شيوخ التصوف انفسهم آخذاً من كتبهم وأقوالهم بدءاً من القرن الاول وانتهاء بالقرن السابع الهجريين. عليه، فقد جاء الكتاب كسفر تاريخي حافل بأقوال كبار الصوفيين المسلمين في تلك الفترة التاريخية الثرية بالمعرفة وإنتاجها بمأثورات كبار الشيوخ والعارفين بالله. لهذا لم يكن غريباً ان يضم بين دفتيه درراً غوالي من عيون قصائد الحب الالهي واسراره ويحتشد فيه من اقوال الصوفية قدر كبير قل ان يجتمع في سفر آخر قبل هذا الكتاب. أما عن الميزة الاضافية فهي ان المُصَنِّف الخصب لهذا العمل الفريد ليس عربياً ولكنه ليس غريباً عن الناطقين بلغة الضاد والأب الدكتور «جوزيبي سكاتوليني» من رهبنة الآباء البيض في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والمولود في ايطاليا عام 1942، وقد عشق اللغة العربية وآدابها فدرسها لمدة عامين في بيروت ثم حصل على الليسانس في آدابها من جامعة القاهرة فرع الخرطوم. ولاحقاً حصل من المعهد البابوي للدراسات العربية على درجة الدكتوراه في «تائية ابن الفارض» عام 1987 ليصبح أستاذاً للتصوف الإسلامي في المعهد ذاته، وأحد كبار المغردين في دوحة الشاعر الصوفي المصري سلطان العاشقين كما يطلق عليه «ابن الفارض» وله أيادٍ بيضاء في تحقيق ديوانه وإخراجه لاول مرة في نشرة علمية نقدية وذلك على رغم عسر اللغة الشعرية في قصائد «سلطان العاشقين»، على رغم الغموض الشديد الذي يجلل مفرداته العذبة والقوية في الآن نفسه. والتقى منذ بضعة اشهر كاتب هذه السطور الاب الدكتور سكاتوليني وكان التساؤل عن السر وراء عشقه الخاص التصوف الإسلامي ويومها قال : لست غريباً او بعيداً من دائرة العشق الصوفي الالهي فكوني دارساً للاديان والثقافات الاخرى كان لا بد لي من المقارنة بينها، عندما قصدت لبنان لدراسة اللغة العربية، هناك وجدت كنوزاً من الانتاج الفكري والثقافي الهائل للحضارة الاسلامية العربية وعليه فقد عملت على دراستها لا سيما انها عاشت اكثر من اربعة عشر قرناً على الارض وستظل. على ان أهم ما يلفت النظر في مسكونية سكاتوليني هو انه وهو الكاهن ورجل الدين الكاثوليكي يجد ان البعد الروحي هو الجوهر في كل دين وفي كل تجربة انسانية وان هذا البعد يصلح لان يكون قاسماً اعظم للاتفاق لا للافتراق... ولهذا يضيف... لقد استفدت كثيراً من التصوف الاسلامي ومنذ سنوات طويلة وانا احاضر وأدرِّسُ فيه، وترجمت منه الى الإيطالية وفي نيتي ان اؤلف كتاباً يتضمن مختارات من الأدب الصوفي بترتيب تاريخي: الحسن البصري ورابعة العدوية ومروراً بالجنيد والحلاج والغزالي، وصولاً الى ابن عربي، لأعرّف الناطقين بلغتي والغربيين عموماً ما لهذا التراث الادبي والفكري والروحي من فائدة عظيمة الشأن، وها هو الرجل يوفي بوعده عبر هذا الكتاب العمدة. والمقطوع به ان المسطح المتاح للكتابة يضيق طولاً وعرضاً شكلاً وموضوعاً للإحاطة بأجزاء الكتاب الثلاثة عبر نحو سبعمئة صفحة. ففي الجزء الاول يتناول نشأة وتطور التصوف من القرن الاول الهجري حتى الثالث ويعرض للأحوال السياسية والاجتماعية في المجتمع الاسلامي ويعرج على نشأة حركة الزهد وتطورها ويدلل على احاديثه بشخوص من المتصوفة، مثل ابو الدرداء وسلمان الفارسي والحسن البصري ورابعة العدوية، ثم يتناول ارتقاء التصوف وازدهاره ما بين القرن الثالث وبداية القرن الرابع، ويقص على القارئ بعضاً من سير ذوالنون المصري، يحيى بن معاذ، ابوزيد البسطامي، وصولاً الى الحسين بن منصور الحلاج. يتناول الجزء الثاني تطور التصوف الإسلامي في القرنين الرابع والخامس الهجريين وشهوده على تلك الفترة رجالات من عينة الحكيم الترمذي وابو بكر الشبلي وابو الحسن الديلمي وابو حامد الغزالي، وغيرهم، ويفرد مساحات واسعة لكتب وكتابات كل منهم. أما الجزء الثالث والاخير فيعرض للفترة الواقعة ما بين القرنين السادس والسابع الهجريين، ومعاصرو تلك الفترة من امثال شهاب الدين السهروري وجلال الدين الرومي ومحيي الدين بن عربي وابن عطا الله السكندري وأخيراً عمر بن الفارض. وللأب جوزيبي سكاتوليني مع ابن الفارض وصل وعشق كبيران اذ يقول: لقد درست ديوان ابن الفارض اثناء إعدادي أطروحة الدكتوراه، فحللت معاني الالفاظ في السياق النصي ودرست التائية الكبرى التي هي عامود الديوان، فهي ثلث الديوان، وعبر فيها ابن الفارض عن أبعاد وعمق معاناته الصوفية. وفي مقاربته بين الاندماج التام بين الذات والكل عند ابن الفارض وبين مبدأ وحدة الوجود عند ابن عربي يرى البروفيسور سكاتوليني ان ابن الفارض يعبر في الاساس عن تجربة معاناة صوفية ذوقية شعرية، لا يتفلسف، وهناك اختلاف لغوي واضح بينه وبين ابن عربي، فلفظ وجود بكل مشتقاته يعني عند ابن عربي الوجود الذي يوجد به الموجود، الوجود المطلق، الحق، اما ابن الفارض فعنده في لغته الوجود مقترن بالكثرة، معنى الوجود يقترن بلغة الكثرة وهو يتخطى الوجود الى مرحلة الشهود، فيرى الوحدة بين الكل ويتخطى الوجود الى الشهود والمشاهد. ويثير الكتاب في مجمله جملة من التساؤلات الجوهرية: ما التصوف؟ وما مكانته في الاسلام ؟ وهل هو اسلامي الطابع ام هو اجنبي ودخيل في الفكر الاسلامي؟ ما اهم مراحله التاريخية؟ وهل له اهمية للانسان المعاصر ام قد صار من بقايا موروث قديم لا محل له في عصرنا العلمي التكنولوجي. هذه بعض التساؤلات التي تطرأ في حديثنا عندما يجري فيه ذكر عن التصوف الاسلامي، او التصوف في الاسلام، وقد تختلف الاجوبة عليها اشد الاختلاف فهناك من يؤيد ومن يدافع عن فكرة التصوف حتى جعله الدين كله. وهناك من يعارض ويدين فكرة التصوف حتى التكفير بحجة انه خارج عن دين الاسلام بل مفسد له من اساسه. وازاء تلك الآراء المختلفة المتضاربة، لا بد للمرء العاقل من اتخاذ موقف حكيم بعيد عن الاحكام المسبقة والاهواء الفردية، ولذلك يرى المؤلف ان اصوب واعقل طريق ازاء هذه الاشكاليات هو اللجوء الى الواقع التاريخي الاكثر موضوعية وثقة مع اعادة قراءة مصادره الاصلية على ضوء المناهج العلمية المقبولة عامة في المراكز العلمية المعاصرة. والمقطوع به ان القارئ المحقق والمدقق الكتاب يخرج بخلاصة مؤداها ان التصوف الاسلامي قد لعب دوراً كبيراً في تكوين روحانيات الامة الاسلامية عبر العصور وان تعقدت قضية البحث في مصدر التصوف الاسلامي نفسه، وهي قضية تحتاج الى معالجة علمية حكيمة بعيدة عن المواقف الأيديولوجية المسبقة، والى بحث جاد عن الوقائع التاريخية الصحيحة كما ترد في المصادر الموثوق بها. ومن الملاحظ ان الأكثرية العظمى من المستشرقين المتأخرين ابتداء من المستشرق الفرنسي الكبير لويس ماسينيون وخصوصاً بعد نشره كتابه المشهور «دراسة في مصادر القاموس التقني للتصوف الإسلامي»، قد اجمعوا على ان المصدر الاول والاصلي للتصوف الاسلامي يرجع الى منبع اسلامي وعلى رأسه القرآن الكريم. ومن امثال هولاء نيكلسون خصوصاً في مرحلته الاخيرة وجون ارثر آربري، وآنا ماري شيمل صاحبة الدراسة العميقة في التصوف الاسلامي وعنوانها «الأبعاد الصوفية في الإسلام»، والكسندر كنيش صاحب إحدى اجود دراسة في تاريخ التصوف. هذه القراءات المعمقة جعلت الاب سكاتوليني يقول «هذا ما يجعلنا نتعجب كل العجب عندما نقرأ في الكثير من الكتب العربية هجوماً شرساً واسع النطاق وشديد اللهجة ضد المستشرقين عموماً وكأنهم في رأي هولاء المعارضين ليسوا الا جملة من المتعصبين العمي لا غَرَضَ لهم الا التآمر ضد العالم الاسلامي والدين الإسلامي خصوصاً. وخلاصة القول ان ثمة إجماع واسع بين المستشرقين المحدثين على ان التصوف الاسلامي له اصالة واضحة في الدين الاسلامي أولاً، من دون إنكار بعض التأثيرات من مختلف الثقافات التي عاصرت التاريخ الاسلامي. هذا ما يقره ايضاً الدارس المصري المعروف ابو الوفا التفتازاني الذي تتلمذ على يد المستشرق الفرنسي الكبير ماسينيون في دراسته عن التصوف الاسلامي، حيث يتخذ موقفاً متوازناً من هذه القضية بين الاصالة والتأثر. ولذلك فمن من الإنصاف العلمي القول إن مذاهب الصوفية في العلم ورياضاتهم العملية ترد الى مصدر اسلامي الا انه بمرور الوقت وبحكم التقاء الامم واحتكاك الحضارات تسرب اليها شيء من المؤثرات المسيحية او غير المسيحية، فظن بعض المستشرقين خطأ ان الصوفيين اخذوا اول ما اخذوا عن المسيحية. وعلى هذا الاساس يذكر التفتازاني في دراسته القيمة عن التصوف الاسلامي عدداً كبيراً من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تمثل المصدر الاولي والدافع الاساس لحركة التصوف منذ نشأتها الأولى. ولعله ايضاً من القضايا عالية القيمة التي يشير اليها الكتاب تلك التي تربط بين التصوف الاسلامي والحوار الديني، اذ يعتبر التصوف الاسلامي ثروة حقيقية عظمى ليس فقط على مستوى الحضارة الاسلامية بل على مستوى الحضارات العالمية جمعاء لذلك فهو مؤهل لكي يكون مجالاً مفتوحاً للتلاقي بين الحضارات والاديان العالمية. والواقع ان الحركة الروحية في الإسلام أي التصوف تجد موازيات عديدة في حركات روحية مماثلة في سائر الأديان العالمية وهذا لأن كل دين يحتوي في داخله على بعد روحي أو صوفي، وقد أشار الكثير من الباحثين الى ان هناك عدداً وافراً من الموازيات المدهشة بين التيارات الروحية العالمية المختلفة. اذن، فالتصوف الإسلامي لا يأتي يتيماً في تاريخ البشر، إنما يأتي في انسجام واسع وتناغم عجيب مع التيارات الروحية العالمية ولذلك يعمل الكتاب على ان يوضح ولو قليلاً المصدر والماهية لذلك البعد الصوفي أو الروحي الذي يبدو متأصلاً في صميم الكائن البشري بقدر ما هو كذلك، عبر الزمان والمكان. على ان البروفيسور سكاتوليني يلفت كذلك الى وجه سلبي في بعض الفهم المعاصر للظاهرة الصوفية ذلك ان المصطح mystics مع كل مشتقاته قد تم ابتذاله على نطاق واسع في الثقافة التسويقية المتداولة حالياً والمفروضة على الجماهير عبر شتى الوسائل الإعلامية فقد تم اختزال هذا المصطلح في اغلب الأحيان كعبارة عن كل ما هو شاذ وغريب، غير منطقي وتافه على مستوى العرض السوقي للاستهلاك في عالمنا المعولم، ويضيف : لقد وصلنا الى حد اننا كثيراً ما نسمع الحديث بصفاقة مدهشة عن تصوف mysticism يخص بعض الأشياء السطحية كالعطور والسيارات وكرة القدم وهلم جرا من المنتجات التسويقية المعروضة عبر الوسائل الإعلامية العامة، كذلك بات مصطلح صوفي يستخدم في التلميح الى أي نوع من الظواهر الغيبية الغريبة وغير الطبيعية أو غير المنطقية من أمثال الرؤى والأحلام والأحداث الخارقة للعادة. والثابت علميا ان لفظ صوفي مشتق من اللفظ اليوناني myo بمعنى صمت لا سيما بصدد خفايا الأسرار الدينية mysteria الممارسة وقتذاك في بعض الجماعات الدينية اليونانية اما فيما بعد فقد استخدم هذا اللفظ في اللغة الدينية للإشارة الى الحقيقة الأكثر عمقاً في صميم سر الإنسان، وهي أيضاً الأكثر سرية وخفاء فيه، وغير معروضة ولا متاحة للفضول المتطفل والاهتمامات السطحية لعامة الجماهير. وكذلك استخدام هذا اللفظ للإشارة الى الحقيقة العالية، أي السر الإلهي mystey divine المطلق الذي يفوق كل إدراك بشري، فلا أحد يستطيع الاطلاع عليه. اذن فاللفظ صوفي يشير الى ما هو اكثر حقيقية وسراً في صميم قلب الانسان، حيث يتقابل هذا مع المطلق ومعه يحتفي بلقاء فوقاني يحوله من صميم كيانه. ان الاهتمام بهذا البعد العميق للكائن البشري والرغبة الصارمة في تحقيقه حتى في الحياة اليومية، بل المراهنة عليه بالحياة نفسها كلياً، كل هذا يعني الدخول في البعد الصوفي. ويبقى القول ان الخبرة الصوفية تمثل قلب الخبرة الدينية وبالتالي ايضاً صميم الخبرة الانسانية ذاتها فالتصوف ليس حديثاً كلامياً مثقفاً مجرداً حول الله وقضاياه النظرية كما الامر في العلوم الدينية الاخرى مثل علم الكلام والفقه واللاهوت... إنما التصوف لقاء حي وخبرة ملموسة مع من هو الاساس الاول والغاية القصوى بل والهدف الاخير للوجود البشري ووجود الكون كله، ومن ثم فهو المعنى الحقيقي للوجود بكليته، هو المطلق، الله، وازاء هذا السر المطلق يكتشف الانسان هويته الاعمق كما يكتشف ويخبر ان هويته هذه يشاركه فيها غيره من البشر وهي جذور الاخوة الانسانية الأصلية. * كاتب مصري.