ما الفارق بين الغريب، الذي انتقل من مكان يعرفه إلى آخر غير أليف، والإنسان المغترب الذي يشعر بالنقص في مكان يعرفه تماماً؟ يقوم الجواب البديهي في علاقة الإنسان بالمكان، ذلك أن عدم الرضا الذي يشعر به إنسان لم يغادر بلده يختلف كلياً عن تمزّق إنسان فقد مكانه الأليف واصطدم بمكان لا يحسن الحوار معه. كأن الغريب لا يملك ترف الاغتراب، بعد أن أُقصي عن مكان لا يسمح له بتقاسم تجارب العاديين من البشر. ولهذا يبدو تعبير: «كلنا غرباء»، الذي يقول به بعض الأدباء والفلاسفة، بطراً لغوياً، لأن الغربة في بلاد الآخرين تجربة خاصة لا يدرك معناها إلا الغريب الكامل، الذي كان له مكان يشعره بالأمان وفقده. ومع أن في تجربة الغربة ما يحيل على الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وشيء من مواد التاريخ، إذ كل فرع من فروع هذه المعارف يضيء وجهاً من وجوه الغريب، فإن في التجربة ما يمتنع عن الإيضاح الكلي، بسبب سؤال قديم يراوح مكانه: هل يشعر الغريب بالغربة لأن الآخرين يرون فيه غريباً، أم أنه يرى الآخرين غرباء عنه ويلتصق بذاته محاذراً تهديداً يلوح في الهواء؟ يأتي الجواب، على رغم اجتهاد محتمل، ناقصاً، لا لشيء لأن الغريب يحنّ إلى المكان الذي كان فيه، قبل أن يعالج مواقف الآخرين وتصوراتهم، كما لو كان لا يتعرّف على معنى «الآخر» إلا إذا امتلك شروط وجوده. ولعلّ الحنين إلى مكان أو الحوار المضطرب مع «الأرض المضيفة»، هو الذي يوحّد بين الغريب وتجربته، ويعين التجربة عالماً معتماً، محدود الإضاءة. ينفتح الحنين إلى ما كان، الذي لا يكون الغريب غريباً إلا به، على موضوع عادي وموجع هو، السيرة الذاتية للإنسان الغريب: كيف يستأنف الغريب، الذي ارتبطت حياته بمكان وزمان محددين، سيرته الذاتية في شرط عار جديد أقصيت عنه التجارب الحميمية السابقة؟ وما مآل خبرة، كان لها وطنها المألوف، في مكان غريب يحتاج إلى خبرة أخرى؟ ليست تجربة الغريب إلا حصار خبرته الأولى، ودفعه، محاصراً، إلى امتلاك خبرة جديدة في عالم فَقَد إلفة الرموز والأمان، وافتقد ممارسات كان لها شكل العادة والبداهة. وما تلك الخبرة إلا علاقة الإنسان بمكانه وعائلته وأجداده وطقوس متوارثة، وعلاقته بغموض لا يمكن القبض عليه يتوزّع على مرابع الطفولة والحنان الأمومي. في إدراك السيرة الذاتية إعادة اكتشاف للزمن، ما تكوّن فيه وما انهدم وما انتظره الإنسان ولم يأتِ، واستعادة لماض جاء من زمن مستقر سبقه وانتهى إلى حاضر مستقر، يصبح ماضياً بدوره. تعيد السيرة الذاتية للغريب صوغ هذه العناصر جميعها، معطية «ما انهدم» مساحة طاغية، ذلك أن الغريب يعيش انقطاع الزمن قبل أن يلتفت إلى تبدّده، ويعيش رحيل الماضي النهائي وهو يتأمل حاضراً هجيناً لا ينتمي إليه. إنه الانقسام الموجع الذي يوزّع زمن الغريب على زمنين غير متجانسين، ويفرض حاضراً لا أبوّة له، ويوزّع تلك السيرة الذاتية الحزينة على سيرتين غير متكافئتين، تتبادلان همساً مضطرباً ولا تتبادلان الكلام. ولهذا يعيش «الغريب الجوهري» على تخوم عالم يعرفه وفقده، وعلى أطراف عالم جديد لا يستطيع امتلاكه. والمفترض، من أجل طمأنينة تأتي ولا تأتي، إعادة التأسيس، أو تأسيس ما لا يمكن تأسيسه، القاضي بالقبول بمكان يشبه الوطن ولا يشبهه، والتعويض عن الانقسام بإقامة موقتة يحرسها زمن موقت غريب عن الزمن المفقود. بيد أن للزمن الموقت شقاء، لأن الأحلام لا تستقيم إلا في مهاد إقامة ثابتة. ولهذا تستقر سطوة الحنين، التي تعد الأحلام بعودة المكان القديم، ولا يهتز أفق التوقع، الذي يقنع الغريب بأن مستقبله استئناف لزمن سبق تجربة الغربة. تستأنس السيرة الذاتية للغريب اللغة، تسألها الكرم وعدم المحاسبة، وتسألها التسامح في انتقاء المفردات. غير أن هذا التسامح لا يجدي كثيراً لحظة الاقتراب من صورة الغريب لدى «الآخر» الذي يرى في الغريب وجوداً مؤذياً يستحق العقاب. يبدأ الأمر بفرضية عابثة ومقبولة معاً تقول: إن الغريب إنسان لا تاريخ له. ما هو مقبول في الفرضية هو براءتها الظاهرية، فالغريب مجهول الماضي والنسب والسلوك، والمعلوم فيه شكله واسمه العلم، الذي لا فائدة له غالباً، فالآخرون جميعاً يكتفون بتسمية وحيدة: الغريب. بيد أن البراءة الظاهرية تتساقط سريعاً، حين تساوي بين غياب تاريخ الغريب وعدم الانتساب إلى التاريخ، أي حين يرى «الآخر» في الغريب «الآخر المطلق»، الذي لا يعامل بمقولة الاختلاف بل بتصور: الإلغاء. يترجم هذا الإلغاء معناه بكلمة: الأقل. فالغريب إنسان قليل أو إنسان أقل، يفهم أقل ويشعر أقل ويحتاج أقل، وقد تصل هذه «الكلمة» إلى روحه، لتكون له روحاً «أقل». ولعل هذه «الأقل» هي التي تقيم مسافة شاسعة بين «الآخر» والغريب - تتسع، أحياناً، لتتضمن الطرد والإقصاء والاقتلاع. تقود الفرضية القائلة ب «إن الغريب لا تاريخ له» إلى الاتهام المسبق. ولأنه اتهام يحتاج إلى برهان عياني فهو يتوزّع، لزوماً، على صفات مسلطة على حركة الغريب ومقاصده ولغته: فوجوده يحمل التهديد، لأنه من أفق آخر وهو ضيف ثقيل جاء من غير دعوة، يعاقب إن أخطأ ويعاقب كي لا يخطئ ويعاقب أكثر كي يعرف دائماً أنه موقت الإقامة. ولأنه ضيف بلا دعوة فهو ناكر، لزوماً، للجميل، لا يعي فضائل «الآخر» الذي قبل به. بل إنه الجاحد الكلي، لا يتخلّى عن موروثه الثقافي ولا يعتنق النموذج الثقافي للمكان الذي وصل إليه، ويحمل معه لغته القديمة التي تعوّقه عن لفظ لغة البلد المضيف لفظاً سليماً، وعن التعامل الصحيح مع قيم هذا المجتمع ومعاييره. والأكثر من ذلك أنه ينظر إلى «مجتمعه الجديد» من وجهة نظر المجتمع الذي جاء منه المختلف، «كيفياً»، عن مجتمع يتمتع ب «الأكثر» لا ب «الأقل». تتقاطع في الغريب مآسٍ مختلفة: فهو مرفوض إن حاكى «الآخر»، لأن في محاكاته تطاولاً على أعراف لا تخصه، وهو مرفوض إن رفض المحاكاة وتمسك بتقاليد يرى «الآخر» فيها بضاعة تسيء إلى مجتمعه. وفي هذا الرفض المزدوج يبدو الغريب «عدواً بالقوة» يحقق مصالحه من طريق الإساءة إلى مصالح غيره، ذلك أن «عدو الإنسان هو الذي يلحق الضرر بمصالح غيره»، كما يقول كارل شمت. تقترح المحاكاة الشاقة للغريب حيّزاً يدور فيه، يحاذر «الآخر» بسبب عائق الثقافة واللغة، وبدافع خوف يلازمه من الاكتشاف والاختبار، ذلك أن في قيوده الذاتية ما يدفعه إلى المراوحة والتعطيل الذاتي. ولهذا لا يكون «مكان الآخر» موقعاً للضيافة، ولا تكون الإقامة في «أرض الآخر» ملجأ، فشروط الإقامة تجعل منها متاهة، يخفّف ثقلها أفق التوقع الذي لا يراهن عليه. تقوم هذه المتاهة بتعطيل التفكير العفوي، وبتحويل ما كان يبدو عادياً إلى شيء غير عادي، يحتاج إلى معادلات تفكير جديدة، بل إنها تقوم بزعزعة المعرفة الأكيدة، التي تحتاجها حياة أضاعت اتجاهها الأول ولم تعثر على اتجاه جديد. وبسبب ذلك تتعطّل السيرة الذاتية، تقف عند الزمن الذي سبق الغربة، بقدر ما تختل سيطرة الإنسان على ذاته. فإذا كان امتلاك الذات لذاتها يقضي بانفتاح مريح على الماضي، فإن في تجربة الغربة ما يربك هذا الانفتاح ويضع الإنسان خارج ذاته. فلا الطفولة تبدو كما كانت قائمة فعلاً، ولا صورة الآباء تعود كما هي. ولهذا لا تشكّل السيرة الذاتية، في طور الغربة، امتداداً للسيرة الأولى، ولا تحتفظ هذه الأخيرة بملامحها الحقيقية، كما لو كانت للغريب سيرة ذاتية معلّقة في الهواء، أو مؤجلة التكوين، فيها شيء مما كان وانهدم، وفيها أشياء لم تعثر على مسمياتها بعد. ومع أن للثقافات دورها في إعادة خلق الغريب بأشكال مختلفة، كما أيديولوجيا الانتصار التي تهندس «قامة المهزوم»، فإن لمفهوم الحاجة دوره في تشكيل العالم المعنوي للغريب و «الآخر» معاً. فالإنسان السوي، من وجهة نظر «الآخر»، إنسان يحتاجه غيره ولا يحتاج إلى غيره. يسمح الفارق بين الطرفين بتأبيد صورة الغريب، ذلك أن الذي لا يحتاج لا يستطيع استبطان حالة المحتاج، على رغم كلام كثير عن كونية المعايير الإنسانية. تظل هذه القاعدة صحيحة، من دون النظر إلى الأمكنة، فمراتب الجوع والبطر لا تعترف بالخصوصيات الجغرافية والتاريخية. فالجياع يتعلمون أبجدية الغربة في بلادهم، قبل أن يتقنوها في بلاد «الآخر»، الذي يعتقد أنهم هبطوا عليه من لا مكان. تبدو الغربة، كما الغريب، معطى ساكناً، من دون أن يكون الأمر كذلك، فتشكّل الغربة سيرورة، والغريب كائن يتعلّم غربته، وقد يدمنها، أو يدرج فيها أبعاداً من المقاومة والغضب، محتجاً على «الآخر» ومسائلاً، بكثير من الأسى، دلالة الأصول. فإذا كان ما قبل الغربة هو المكان - الأصل، أو الجماعة الأولى التي أشبعته بالحكايات، فما جدوى الأصل، إن رمى ب «ابن الأصل» إلى أكثر من طريق ومتاهة، وما الذي يتبقى من الجماعة الأولى إلا رماد الذكريات؟ لا غرابة في ألا يكتشف «الآخر» أصله إلاّ في لحظة «انبثاق الغريب»، الذي يبدو لا أصل له، أو أن له أصلاً جديراً بالمطاردة. يستمد الغريب معناه من جملة من الصفات السلبية: المتطفّل المهدِّد، اللامرغوب به، ناكر الجميل، غير المألوف،... وغيرها من الصفات التي توهم أن الغريب «لغز»، غير قابل للفهم تماماً. والقياس صحيح وغير صحيح في آن، لسبب يقول: تصبح معرفة الغريب ممكنة حين تبدأ منه ولا تضيف إليه أحكاماً مسبقة. ولكن لا أحد يستطيع الجمع بين خارج الغريب وداخله، ولا أحد يعرف من أين تأتي أحزان الغريب، ولا أحد يعرف الطريقة التي يحزن بها الإنسان الغريب، غريباً عادياً كان، أو «غريباً أصلياً»، حُرِمَ من حاجاته، ومنع عنه حق الاحتجاج على حياة لا تحتمل. هذه أفكار أوحى بها كتاب «طوبوغرافيا الغريب» لبرنارد فالدينغيلز الصادر أخيراً في باريس، وهو يميل إلى قراءة التعاسة الإنسانية بمفاهيم فلسفية.