"خلص"! صرخة وجع ملؤها الدهشة يطلقها السينمائي اللبناني "المؤسس" برهان علوية لتحمل عنوان فيلمه الأخير الذي لم يبصر النور بعد على رغم مرور ما يقارب السنة ونصف السنة على بدء تصويره والأسباب طبعاً كالعادة "عقبات انتاجية مادية". "خلص" ايضاً شاهد على زمن انتهى، زمن يتصف بالخداع والأكاذيب والهذيان... هذه العناصر التي منذ السنوات الأولى للحرب اللبنانية وبرهان يريد ان يلخصها في فيلم يعلن فيه اشمئزازه من تلك الحرب. واليوم يعلن اشمئزازه من إفرازات تلك الحرب إذ فات أوان التعامل المباشر مع حرب يرى كثر انها صارت من التاريخ. "مؤسس" برهان علوية، لأن كل الذين أرّخوا ويؤرخون للسينما اللبنانية يرون في فيلمه "كفر قاسم" على رغم "لا لبنانيته" المدماك الأول في انطلاق ذلك الجيل الأفضل والأقوى الذي صنع للبنان تياراً سينمائياً حقيقياً منذ اوائل سبعينات القرن الفائت. في تلك الفترة برهان علوية لم يكن وحده، كان معه مارون بغدادي وجان شمعون وآخرون ايضاً لكن برهان تميز بتنوع في عمله وصلابة في مواقفه كما تميز للأسف بتلك المسافات الطويلة الفارغة التي باتت تفصل بين فيلم له وآخر. وفي هذا السياق يقول: "السيناريوات التي لم تتطور الى افلام اكثر بكثير من السيناريوات التي نُفذت. وهذه حال اكثرية السينمائيين". مشاريع يطويها الزمن ومشاريع لا تصل الى مكان، "والسبب الدائم غياب الإنتاج". فأين صار مشروع "جبران" الذي تحدثت عنه الصحافة كثيراً؟ "ينضوي هذا المشروع في الخانة نفسها، إذ لم يحالفه الحظ ويجد الإنتاج اللازم له كي يبصر النور. والمشكلة نفسها تتكرر اليوم في "خلص" الذي بعد ما يقارب السنتين من تصويره لم يخرج الى الضوء، إذ تقعين احياناً مع منتجين مفلسين كما حصل معي فكانت الأزمة مع المنتج الفرنسي والمنتج البلجيكي اللذين لم يتمكنا من تأمين اللازم علماً ان هذه المشكلة حُلّت اليوم". تباشير الحرب في مسار برهان علوية مجموعة لا بأس بها من الأفلام نذكر منها: "كفر قاسم"، "بيروت اللقاء"، "رسالة من زمن الحرب"، "رسالة من زمن المنفى"، "لا يكفي ان يكون الله مع الفقراء"، "إليك اينما تكون"... افلام ما كان لها ان تكتمل إلا مع "خلص"، "هذا الفيلم الذي هو النتيجة الطبيعية لأفلام مثل "رسالة من زمن الحرب" او "رسالة من زمن المنفى" او "اليك اينما تكون"، افلام صرخت في نهاية الأمر خلص". ويقول علوية: "كل شيء "خلص"، الزمن "خلص"، الناس خلصت... في مرحلة ماضية كنا متوهمين اننا نعيش بداية زمن وجاءت النتيجة اننا نعيش النهاية. في تلك المرحلة ارتدينا ملابس النهاية واستعرنا مفرداتها وكلنا ثقة اننا في البداية... وهنا أتكلم عن كل اجيال الاستقلال في العالم العربي، عن جيل النهضة... هذه اللعبة مع الزمن "خلصت"، "خلص" ما كنا عليه من زمن الخراب والتدمير الذاتي والخارجي". ... كله "خلص". فما الذي اوصل برهان علوية الى هذه القناعة؟ إذا كانت الحرب قد اثارت اشمئزاز علوية فإنها في الوقت نفسه كانت شرارة التفكير الكبيرة في فهمه الكثير من الأمور التي غابت عنه سابقاً. ويقول علوية: "في البداية عيّدنا الكثير من الأعياد... جاء الاستعمار والاستقلال والناصرية... كل هذه الأعياد كانت بروفات. لماذا؟ كانت كلها بروفة للأصولية. فعندما ترجعين الى حرب 1958 في بيروت وكيف انقسمت العاصمة الى شرقية وغربية تدركين عندها انها كانت بروفة للأصولية. ونحن كنا ببراءة تامة في نشوة كبيرة متصورين ان هذه هي اعياد المستقبل". والسؤال: ما هي صورة العالم العربي اليوم بين هجمة الصورة الفضائية وهجمة الأحداث السياسية وهجمة التطرف من كل جانب؟ "انه الخراب الذي أتكلم عنه هنا"، يجيب برهان، ويتابع: "أعادونا الى طوائفنا وقبائلنا وبذلك انتصر النموذج الإسرائيلي، حتى لو خسرت اسرائيل فنموذجها لا شك ربح، بمعنى انه لو ربحت الأصولية في المستقبل على اسرائيل فهل سيفرضون نظاماً علمانياً؟... أدركت ان كل شيء "خلص" مع فيلم "لا يكفي ان يكون الله مع الفقراء" عن المعماري المصري حسن فتحي وفساد العمارة في مصر. في هذا الفيلم لم أتطرق الى الحرب اللبنانية انما ابتعدت الى اجواء اخرى. وأنا من الأشخاص الذين نعتوا بأبشع الصفات لأنني هربت من الحرب... عندما اختزلت بالطائفية. في البداية ظننا ان المسألة بسيطة وكأن سيارة ماشية على الطريق ثقب إطارها فلا يلزمها إلا تصليح الإطار كي تسير من جديد إلا ان الواقع لم يكن كذلك...". والسؤال: هل من سبيل الى الخلاص؟ "الحلم"، يجيب برهان علوية ويتابع: "الحلم هو الزمن الآتي، هو هذا الجنين الذي يبصر النور، هو هذه البذرة التي تنبت في الأرض. كل شيء "خلص" ويبقى الحلم. السينما هي حلم، المقاومة حلم، الشعب الفلسطيني حلم". وإذا كان حقيقياً ما يقال دائماً من انه يوجد نوعان من المثقفين: المثقفون الذين يحلمون بالمستقبل والمثقفون الذين يتعاملون مع الواقع، فأين برهان علوية في هذين التصنيفين؟ "أنا الإنسان الذي الحلم عنده اهم من الواقع. انني اعمل في الزمن وأستطيع ان اعمل Fiction لذلك انا ممنوع، لأنني استطيع ان اعطي للحلم شكلاً من هنا لا محل لي في الخراب حيث لا مكان للبناء". كيف ذلك وهو اليوم في طور إنجاز فيلم جديد؟ يجيب برهان: "السينما صناعة، السينما رقابة. ولا تظني ان المرئيات سمح لها عرض ما تعرض إنما بكل بساطة الصورة هي التي فرضت نفسها وأكثر، تصوري مجتمعاً مثل مجتمعنا غير قادر على الاعتراف بخرابه او رؤية صورته في المرآة. فالسينما هي معبد الصورة، هي الصورة من الداخل، هي النظرة الذاتية. وفي الأساس لا يمكن للصورة ان تقوم إلا اذا كان المجتمع يدعمها. وهذه حال اوروبا حيث اصبحت الصورة اكثر ديموقراطية منذ سبعينات القرن الفائت. قبلها كانت هناك محاولات فردية لا اكثر، والحال انه بعد ايار مايو 1968 اضحى هناك ثقافة ودعم وسيناريو، وأضحت السينما مؤسسة". سفر وابتعاد... بل تطرف يعترف برهان علوية بذلك التطور الذي نجم عن نظرته الى السينما ويقول: "كانت السينما بالنسبة إليّ شيئاً وأضحت شيئاً آخر علماً انها في كلا الحالين منبثقة من الخيال. اليوم هي بيت ثان، هي وطن ثان وسفر دائم. هي عزلة وابتعاد. وأكثر السينما تطرف لكنه تطرف صادق وعارف وفي رأيي لا يوجد سينما بلا تطرف. والسينما خيال والخيال اصدق الأمور فهو حقيقي اكثر من الحقيقة وصادق اكثر من الواقع. من جهة ثانية، ليست السينما طبيباً كما يعتقد البعض فهي بالكاد تضع الاصبع على الجرح". وفي نهاية الأمر، لا يخلو كلام برهان علوية من نزعة تفاؤلية، فهو يثق بالحلم ويثق بتجدده المستمر، ويقول: "عندما يفرغ الحاكمون من كلامهم حينها يتكلم المحكومون، هكذا يقول بريخت، والظاهر ان حكامنا فرغوا من كلامهم والسلطة في خراب". والحال ان برهان علوية كان من اوائل اللبنانيين الذين اهتموا في سينماهم بقضايا غير محلية، بل عربية. واليوم، نلاحظ غياب هذا الاهتمام المتبادل بين سينمائيين من اقطار عربية وأقطار اخرى. وعن هذا يقول علوية: "اكثر أفلامي من الموضوع اللبناني... صنعت فيلماً عن فلسطين "كفر قاسم" وفيلمين عن مصر. الأول تحت عنوان "لا يكفي ان يكون الله مع الفقراء"، والثاني "سد اسوان"، اما الأفلام الباقية فكلها في اجواء لبنانية "رسالة من زمن المنفى" رسالة من بيروت الى باريس، وإليك اينما تكون"، الذي حصل اخيراً على جائزة بعد ان صنّف الأول في SCAM، هو رد على رسالة المنفى". وفي النهاية نسأل: "ما رأي برهان علوية في مسار السينما اللبنانية خلال ربع قرن حتى الآن... اجيالها؟ حاضرها؟ مستقبلها؟ يجيب علوية قائلاً: "لا يوجد سينما لبنانية، إنما يوجد سينمائيون لبنانيون، وهؤلاء بدأوا مشوارهم باكراً لكنهم لم يصلوا جميعاً وهنا لا يقع الخطأ عليهم. وفي رأيي عندما تكون السينما في بداياتها، الفيلم الفاشل مثله مثل الفيلم الناجح يغيّر السينمائي إذ يدله الى معرفة ما يجب فعله وما يجب الابتعاد عنه كما الحرب اللبنانية التي قالت للعرب ما يجب ألا يقوموا به إلا انهم كما يبدو لم يسمعوا. من هنا في إمكانك أخذ العبر من الفيلم الفاشل وهنا تبرز اهميته". ويختتم برهان علوية كلامه بتحية كل سينمائي شاب ويقول: "انا شخصياً احيي كل تلميذ سينما وليس فقط كل مخرج إنما كل شخص يهتم لأن يكون كاتباً سينمائياً فيكتب بالضوء واللون واللغة السينمائية ليعيش الحلم".