أمس الخميس في الثالث عشر من نيسان ابريل حلت الذكرى الخامسة والعشرون لاندلاع الحرب اللبنانية. ولئن كانت هذه الحرب التي دامت عقدين من الزمن تقريباً ويقول البعض انها بالكاد انتهت لكن هذه حكاية أخرى، دمرت الوطن وأفسدت أجيالاً عدة من ابنائه، فإنها من ناحية ثانية ساعدت على ولادة بعض فنونه وآدابه وإعطائها دفقاً جديداً. وكانت السينما، كما سنرى هنا، واحداً من الفنون التي لولا الحرب لما كان لها أن تقوم على الشاكلة التي قامت عليها. أواسط العام 1975 عندما امتشق مارون بغدادي الكاميرا وراح يصور أفلاماً قصيرة، للسينما كما للتلفزة، عن يوميات الناس والأحداث خلال الحرب التي كانت اندلعت لتوها، لم يكن ليخطر في بال ذلك السينمائي الشاب في حينه أنه سيمضي السنوات التالية، وربما بقية سنوات حياته القصيرة، وهو يصور الحرب ويعيد تصويرها، أولاً في تلك الشرائط التي كان يحققها، كأنه يمزح، ثم في أفلام طويلة حقق معظمها في الخارج فرنسا. في تلك الأوقات المبكرة لم يكن في وسع أحد أن يتوقع لتلك الحرب المندلعة أن تتواصل نحو عقدين من الزمن. وكذلك لم يكن أي سينمائي يتوقع أن يكون ذلك العام بالذات، عام التأسيس لتيار سينمائي أوجد للبنان، من ناحية، سينما حقيقية، وأوجد من ناحية ثانية ما يمكننا اليوم أن نطلق عليه اسم سينما الحرب. وهي سينما لم تنته فصولاً حتى يومنا هذا. ومن المهم اليوم أن نشير، مع شيء من التراجع الزمني الى أن السينما والصورة في شكل عام كانت من أوائل الفنون تحسساً لما يحدث وتفاعلاً معه. بل لنقل أن السينما، حتى من قبل اندلاع الحرب، هجست بها، وعن طريق مارون بغدادي نفسه الذي كان العرض الأول لفيلمه الروائي الطويل الأول "بيروت يا بيروت"، بعد أيام قليلة من رصاصات الثالث عشر من نيسان ابريل المفجّرة. ونحن نعرف اليوم أن فيلم بغدادي الأول ذاك، كان أشبه بالنبوءة: "تنبأ" بالحرب مستقرئاً مسبباتها ومقدماتها وأنهى مشهده الأخير بعلامة استفهام ذات دلالة. و"بيروت يا بيروت"، كان على أي حال واحداً من فيلمين يعتبران اليوم المؤسسين الحقيقيين للسينما اللبنانية الجديدة، شكلاً ومضموناً. الثاني هو "كفر قاسم" الذي وإن كان انتاجه سورياً ويتحدث عن فصل مرّ من فصول القضية الفلسطينية، فإنه - بسبب لبنانية مخرجه برهان علوية الذي كان الهمّ اللبناني رئيسياً لديه حتى وهو يحقق فيلمه الأول شمال سورية - يعتبر فيلماً لبنانياً مؤسساً. العصر والمجتمع مارون بغدادي 1950 - 1993 وبرهان علوية، سيظلان، طويلاً، المؤسسين الحقيقيين لما عرفناه بعد ذلك من نهضة سينمائية لبنانية خلاقة، برزت بفضل الحرب وعلى أنقاض كل ما كان تحقق من سينما في لبنان قبل ذلك. وكان الأساس في ريادتهما تعامل فني وسياسي مع الفن السابع، يضعه في اطار شديد المعاصرة، وشديد التفاعل مع المجتمع ومع الدور المتوخى للبنان، عربياً ومحلياً أيضاً. فحين اهتم برهان علوية بالقضية الفلسطينية في "كفرقاسم"، كان يسير في ذلك على الدرب التي سيسلكها بعده سينمائيون لبنانيون آخرون، وضعوا كاميراتهم في خدمة القضايا العربية ودائماً من موقع التقدم: هيني سرور، وجوسلين صعب. ولكن خصوصاً أيضاً، جان شمعون الذي التحق مبكراً بالسينما الفلسطينية محققاً لها بعض أبرز أفلامها التسجيلية، قبل أن يمزج في أفلامه بين فلسطينولبنان، ويصل لاحقاً الى ذروة ابداعه الفني في فيلم "رهينة الانتظار". بالنسبة الى السينمائيين كان ذلك الدور طبيعياً. ولم يكن هناك فصل بين القضية اللبنانية والقضايا العربية. وبرهان علوية نفسه سيكرس ذلك لاحقاً من خلال اهتمامه مرة بالعمارة المصرية "لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء" ومرة بالسد العالي... في مصر أيضاً. أما مارون بغدادي فإنه، وإن اضطر بعد دزينة من الأفلام المناضلة التسجيلية، وبعدما حقق فيلمه الروائي الطويل الثاني "حروب صغيرة"، الى الهجرة الى فرنسا، حيث عاش بقية أيامه، فإنه في منفاه الطوعي لم يتوقف عن تحقيق أفلام، طويلة أو متوسطة، للسينما أو للتلفزة، تقول هاجس الحرب كما رآه. وحتى الأفلام ذات المواضيع الفرنسية الخالصة مثل "مارا" و"فتاة الهواء" لم تخل لدى مارون بغدادي من تعاطٍ فني مع مسألة الحرب اللبنانية والهاجس اللبناني عموماً. وسيكون من المصادفات ذات الدلالة أن يقتل مارون بغدادي في حادث سقوط من الطبقة الرابعة لمبنى منزله العائلي في بيروت، في وقت كان عاد موقتاً الى لبنان لتحقيق فيلم عن منفي يعود اليه بعد الحرب. الى جان شمعون وبرهان علوية ومارون بغدادي، حفلت سينما الحرب اللبنانية بأسماء أخرى، منها رنده الشهال التي حققت، في البداية، فيلماً سياسياً شديد الخطيّة بعنوان "خطوة خطوة" قبل أن تتوجه بدورها الى الخارج لتحقيق أفلام روائية ظلت حرب لبنان هاجسها ومحورها - الواضح أو الخفي - حتى تمكنت من أن تصفي حسابها، كلياً، مع حرب كانت ذات يوم حربها هي الأخرى في فيلم "حروبنا الطائشة" الذي قدمت فيه صورة للحرب، من خلال حوار مع عائلتها، تتنافى مع صور الحرب كما صورتها بنفسها سابقاً. ومن تصفية الحساب مع حرب الذات، الى تصفية الحساب مع مجتمع الذات، كانت هناك خطوة عرفت رنده الشهال كيف تخطوها في فيلمها الأخير "متحضرات" الذي أثار ولا يزال يثير الكثير من المشكلات مع الرقابة. جوسلين صعب، سينمائية أخرى من جيل الحرب وما قبلها. وهي اختارت في البداية أن تقول الحرب، عبر أفلام طغى عليها الجانب التأثيري والأسلوب الصحافي، حتى كانت اللحظة التي قررت فيها أن تخطو خطوة أخرى، فحققت فيلماً قالت فيه الحرب من خلال حكاية صباها وتربيتها، هي المسيحية في حي مسلم، ثم قالت الحرب مرة أخرى في فيلم "كان ياما كان بيروت"، فروت حاضر المدينة وماضيها من خلال مقاطع من أفلام، محلية وعربية وعالمية، كانت صوّرت في بيروت - ولبنان - قبل الحرب. في الوقت نفسه كان برهان علوية يقدم ، هو الآخر، شهادته عن الحرب ثم عن المنفى في فيلمين / شهادتين، أوصله اليهما، وفي شكل منطقي فيلمه الكبير الذي حققه عن الحرب نفسها "بيروت.. اللقاء". غير أن سينما علوية، ولأنه كان يعيش في الخارج، ظلت على الدوام سينما ننظر الى الحرب من خارجها، ما أعطاه قدرة على انتقادها واعلان وجوده خارجها. لكن مشكلة برهان علوية تكمن في ان هذا الوجود الخارجي لم يعطه المادة التي تمكنه من تحقيق فيلم هذيان عن الحرب كان يحلم بتحقيقه. موقع الحيرة مشروع برهان علوية هذا لم يكن المشروع الوحيد المجهض. فالحرب وأدت الكثير من الأفكار، مثلما أيقظت وولدت أفكاراً أخرى. واذا كان سينمائيون مثل جورج شمشوم واندريه جدعون قالوا بدورهم شهادتهم عن الحرب، وقد قالاها من موقع الحيرة، إذ بَدَوَا أقل يقيناً وأكثر أسئلة من زملائهما الذين كانوا يشغلون "الضفة الأخرى"، فإن السينما الأكثر طرحاً للأسئلة والأكثر قسوة جاءت من الخارج: جاءت من لدن سينمائيين كان أهم ما قالوه استحالة قول الحرب. ونخص منهم بالذكر الجزائري فاروق بلوفة الذي حقق عبر فيلمه "نهلة" واحداً من أفضل الأفلام التي تعاطت والحرب اللبنانية. في هذا الفيلم قال بلوفة، من خلال شخصية "بطله"، الصحافي الجزائري المسمى ب"العربي"، استحالة قول الحرب. فالحرب الدائرة لم يكن من الممكن لا اعطاؤها اسماء ولا الحكم عليها. وفي المقابل استخدم الألماني فولكر شلوندورف الحرب ذريعة لكشف ازمة بطله الوجودية. في "المزيف" استخدم شلوندورف حربنا، وكان يمكن بطله أن يوجد في أتون أي حرب أخرى من دون أن يغير ذلك من أزمته أو من مساره شيئاً. درس "نهلة" كان هو الدرس الذي يفترض بالسينمائيين استيعابه. لكن هؤلاء كانوا إما يعيشون الحرب وهم داخلها تماماً، وإما يعيشونها من خارجها تماماً. وفي الحالين كان يجدر بسينماهم أن تكون تبريرية في حدها الأقصى، محايدة في حدها الأدنى، لكي تعكس مواقفهم تماماً. من هنا، يصعب العثور اليوم على أي ادانة حقيقية للحرب في أي من الأفلام التي حققت قبل أواسط الثمانينات. بل، حتى مارون بغدادي الذي حقق أفلامه الكبيرة خارج لبنان، حين قرر أن يدين، دان أطرافاً وأفراداً، وظلت الحرب بالنسبة اليه أمراً فوق الشبهات. ظلت شيئاً فاتناً سحره وإن كان حيره أمر التعامل معه. إدانة الحرب كان عليها أن تنتظر جيلاً تالياً، جيلاً يمثله سمير حبشي الذي حين حقق فيلمه "الاعصار" قال - من ناحيته - العبث الذي كان يحلم به كثيرون، ومن ناحية ثانية قال موقفاً ليس فقط خارج الحرب، وانما أيضاً: ضد الحرب. هذه ال"ضد" كانت واضحة لديه: ليست هناك حرب عادلة. الحرب هي القتل والدمار. وحتى البريء لا يمكنه أن يبقى بريئاً... اذا كان كل ما حوله ومن حوله مذنباً. ذلك هو الدرس الذي يقوله لنا "الاعصار". وحبشي مهد في ذلك القول لتيار من السينمائيين أتى بعده، ليس ليقول رفضه لهذا الطرف أو ذاك من أطراف الحرب، بل للحرب ككل. فالحرب اذا كانت تنزع عن البريء براءته "الاعصار"، فإنها في الوقت نفسه تشرخ الذاكرة وتجعل العودة عبثاً وعبئاً على صاحبها "آن الأوان" لجان كلود قدسي، وتفكك العلاقات العائلية ناسفة حتى الحنين "بيني وبينك بيروت" لديمة الجندي، وتوصل الاسئلة الى طرح خاطئ "بيروت قطعة قطعة" لأولغا نقاش أو تنسف براءة الأطفال "الشيخة" لليلى عساف. جيل البراءة؟ الجيل الذي صنع هذه الأفلام، كان لا يزال - على أي حال - من أبناء الجيل الذي يعتبر نفسه مسؤولاً عن الحرب، لذلك اتخذت الادانة طابعاً ميتافيزيقياً: الحرب كمطلق مسؤولة عما يحدث. الحرب كقوة تتجاوزنا ولا نملك لها دفعاً. وهكذا في مقابل جيل مجَّد الحرب ودان "الطرف الآخر" وجد هنا جيل يدين الحرب. وكان لا بد من أن يطلع جيل ثالث لا يكتفي بإدانة الحرب، بل يتجاوزها لإدانة كل الذين حاربوا، ليعتبر أن الحرب لم تكن قدراً منزلاً. كانت جريمة من صنع بشر من لحم ودم. وهكذا، في الوقت الذي أتت أفلام مثل "أشباح بيروت" لغسان سلهب و"بيروت الغربية" لزياد دويري، حاملة شيئاً من الحنين الى زمن الحرب طفولة أبطال زياد دويري التي عاشت الحرب لاهية من دون انتباه لما فيها من قتل وعنف، وبأس ابطال غسان سلهب من واقع ما بعد الحرب المزري، كان من الواضح في مثل هذه الأفلام أن اصحابها يعلنون تماماً وجودهم خارجها. قد يقبلون زمنها، لكنهم يرفضونها، وليس من موقع الادانة أو النقد الذاتي، بل من موقع اللاعلاقة: انها حرب الآباء لا حربنا. نحن خارجها تماماً، ولا نحتاج حتى الى تبرير أنفسنا عبر ادانتها. وفي هذا، يبدو غسان سلهب وزياد دويري، رائدين لجيل يماثلهما - أو يقل عنهما عمراً - يريد، هو، أن يقطع تماماً، ليس فقط مع الحرب وقذارتها، بل أيضاً مع الجيل الذي صنعها. إذاً، جيل ما بعد الحرب يريد أن يقول بكل بساطة، ان الحرب شيء خارج عنه تماماً، لذلك لا يملك حتى أن يدينها: فليدنها الذين خاضوها. وهذا بالضبط ما تريد قوله مجموعة كبيرة من أفلام قصيرة أو متوسطة، سينمائية أو تلفزيونية، حققها عشرات الشبان الذين ولد معظمهم خلال الحرب أو بعدها. أفلام تعلن الطلاق مع حرب الآباء. ولكن تماماً كما أن بطل "بيروت الغربية" الشاب، بعد لهو وعبث مع الحرب وموقف محايد منها، يكتشف فجأة أن الحرب هي المسؤولة عن مقتل أمه، ها هو بطل فيلم "ظلال" لميشال كمون يكتشف عبثية محاولته الوقوف خارج الحرب، أي خارج الحدث: إذ أنه وهو يقود سيارته متنقلاً بلا مبالاة بين "الشرقية" و"الغربية" ما أن تنتهي الحرب، يلمح شخصاً ينظر اليه بغرابة. في البداية يثير هذا الشخص فضوله، ثم رعبه، وحين يقرر أخيراً أن يلحق نظرته ويطارده حاملاً مسدسه، يكتشف انه ليس أكثر من صورة شهيد معلقة على جدار مهدم في المدينة المدمرة. ترى هل يقول هذا الفيلم القصير، والمهدى الى ذكرى مارون بغدادي شيئاً آخر غير عبثية مؤكدة: هي عبثية الفرار من ماض لا يزال قريباً، ولا يزال ربما داخلنا وداخل الأجيال التالية لنا؟