في زمن قد يبدو اليوم بعيداً، كان هناك بلد صغير مرمي بين البحر والجبل يعاني من حرب دامية. وفي انحاء العالم كلها لم يكن الناس يتحدثون عن هذا البلد الا لكي يحكوا عن حربه. وفي انحاء العالم كافة كانت التلفزات لا تكف عن صور تلك الحرب. صور مدن تموت مقتولة، وشعب يحتضر. في ذلك الزمن كان هناك في بيروت، في تلك المدينة ذات الجمال القاسي، شبان متحمسون وملتزمون رغبوا في ان يمتلكوا بأنفسهم صورة مدينتهم لكي يستطيعوا ان يقولوا بأنفسهم حكياً حول موقعهم في تلك الحرب، موقعهم في مواجهة تلك الحرب وفي مواجهة العالم. لذلك امتشقوا الكاميرا سلاحاً، وذرعوا انحاء الوطن يبحثون عن حكاية بدت لهم وكأنهم تقول اسباب تلك الحرب وسيرورتها. كانوا في معظمهم يبحثون عن فهم الأمور اكثر مما يبحثون عن شرحها. وهم في طريقهم نجحوا احياناً في فرض هويتهم، هويتهم المغدورة والمغتصبة، لكنها تلك التي بقيت على الدوام حاضرة عبر الأفلام التي عرفت كيف تعثر لنفسها على مكان في مسار سينما العالم. وعلى ذلك النحو ظهر في لبنان خلال تلك المرحلة سينمائيون حملوا اسماء مارون بغدادي وبرهان علوية وجان شمعون ورندة الشهال وجوسلين صعب ثم جان كلود قدسي وغيره، سينمائيون اطلقوا مغامرة جديدة في مسار سينما لبنانية ولدت رغم الحرب، وربما حتى بفضل الحرب التي مكّنتها من ان تتمتع بالكثير من الحرية وبالكثير من الجرأة. وذلك لأن السينما اللبنانية كانت، حتى بداية سنوات السبعين، مجرد سينما تجارية تملؤها افلام تركّب تبعاً لنمط واحد وهدفها الوحيد ان تجتذب الى الصالات جمهوراً يبحث عن ترفيه ساذج. بعد ذلك أتت تلك الحرب التي غرق لبنان فيها، وكان من نتائجها غير المتوقعة ان زرعت في عقول السينمائيين اللبنانيين الشبان - آنذاك - الرغبة في صنع افلام مختلفة، افلام تكون اكثر تماشياً مع الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة التي يعيشها لبنان. والحال ان ذلك الجيل من السينمائيين الذين اتوا، جميعاً عالم السينما قادمين من عوالم انتماءاتهم السياسية والثقافية، عرف كيف يعطي السينما اللبنانية، اذن، انطلاقة جديدة. وكان من نتيجة هذا الواقع ان راح كل فيلم من الأفلام التي يصنعها ابناء هذا الجيل، يطرح اسئلته على الواقع، ويبدي رأيه فيه، بل وصل الأمر في بعض الاحيان بالعديد من الأفلام ان اتخذت، من الحرب ومن الأوضاع اللبنانية عموماً، مواقف قاطعة واضحة. التزام شامل كامل فبالنسبة الى معظم اولئك السينمائيين، الآتين اصلاً من احضان عالم الثقافة اليساري المنتمي الى الثورات الطلابية التي عرفتها اوروبا - ولا سيما فرنسا - خلال سنوات الستين، كانت السينما تمثل اولاً، وسيلة للتعبير عن التزام، وعن انتماء معين. ولم يكن ذلك الالتزام مقتصراً على السينمائي بوصفه مواطناً لبنانياً، بل ايضاً بوصفه عربياً تعنيه قضايا الأمة العربية، وتشغله المسائل الكبرى التي كانت تحرك العالم العربي والشرق الأوسط، مثل القضية الفلسطينية. ومن هنا اتت أفلام مثل "كفرقاسم" لبرهان علوية و"بيروت يا بيروت" و"حروب صغيرة" لمارون بغدادي، وتسجيليات جان شمعون والشهال وصعب لتقول على الساحة العالمية ان ثمة في لبنان، وخلف المتاريس تحديداً، سينما يصنعها مؤلفون سينمائيون جديرون بهذا الاسم، سينما يحققها ويفكرها سينمائيون مهتمون بوضع كل شيء داخل صور باتوا يأتمنونها على أفكارهم. غير ان الحرب، حتى وإن كانت في الأصل هاجس اولئك السينمائيين وجوهر افلامهم ومصدر الهامهم، فإنها انتهت لأن تطردهم خارج تاريخها. وهكذا نفى معظمهم نفسه الى اوروبا، هناك في البعيد حيث من الطبيعي لإلهامهم ألا يعطي الثمار القديمة نفسها. ان هؤلاء السينمائيين اذ انقطعوا كلياً عن الحرب، انقطعوا في الوقت نفسه عن سينماها، وربما عن السينما ككل أيضاً. وهكذا اخلد الكثيرون منهم الى نوع من الصمت، ولم يعد في امكان الواحد منهم ان يفرض نفسه على العالم الغربي بوصفه سينمائياً بالمعنى الحرفي للكلمة، اي ابن مهنة قادر على الخوض في مواضيع غير تلك المرتبطة بالحرب في الوطن. وحده مارون بغدادي عرف كيف يعثر لنفسه على مكان واضح في الغرب، عبر انتاجات فرنسية مثل "خارج الحياة" و"فتاة الهواء" أتاحت له ان يعمل بشكل منتظم وأن يسمى لجائزة "سيزار" وأن يفوز بنصف جائزة هامة في مهرجان كان. وحده بغدادي، اذن، اعتبر سينمائياً لبنانياً في المنفى عرف كيف يفرض حضوره كسينمائي بالمعنى الحصري للكلمة. عندما حلت نهاية الحرب، حمل الأمر بالنسبة الى هؤلاء السينمائيين بارقة أمل، ووضع حداً لصمت من كان صامتاً منهم. وبدا واضحاً انهم، جميعاً، يرغبون في استعادة عملهم السينمائي في لبنان. وهكذا راحوا يعودون واحدا بعد الآخر محاولين اعادة اطلاق الآلية السينمائية، بنجاح كبير أو صغير. في هذا الاطار لا بد من التذكير بأن مارون بغدادي، من بينهم، كان على وشك تصوير فيلم روائي طويل تدور احداثه في بيروت، حين قضى عليه حادث غامض قاتل معلناً نهاية حياته ومشاريعه. والحال ان مقتله على تلك الشاكلة جعل منه سينمائي الحرب، اي السينمائي الذي اكتملت مسيرته تماماً. وبعض الآخرين، من امثال جوسلين صعب وجان - كلود قدسي، تمكنوا من تحقيق مشاريعهم في افلام مثل "آن الأوان" و"كان ياما كان.. بيروت"، افلام حكت موضوع العودة وحملت عطر الحنين الى أزمان ماضية. وصولاً الى جيل الصورة ولكن عند تلك العودة في بداية سنوات التسعين بدا واضحاً ان هؤلاء السينمائيين الذين ظهروا بوصفهم اعمدة السينما اللبنانية الجديدة وصدى للبنان الجديد، لم يعودوا وحدهم في الساحة. وذلك لأن ورثتهم المباشرين، اي اولئك الذين كانوا بدورهم قد سافروا خلال الحرب لدراسة السينما في أوروبا او في غيرها، عادوا بدورهم تحركهم الحاجة الى الحكي عن مرحلة ما - بعد - الحرب تلك، والحاجة الى الحكي عن التجربة التي عاشوها بين بلدين وعالمين. وعلى ذلك النحو رأت النور افلام مثل "بيني وبينك بيروت" لديمة الجندي و"الشيخة" لليلى عساف و"الاعصار" لسمير حبشي و"لبنان قطعة قطعة" لأولغا نقاش، لكنها رأته بفضل تمويل اجنبي جعلها تباع بسرعة لتعرض في تلفزات اوروبية وفي العديد من المهرجانات. فلبنان، الذي كان شديد الانشغال بتضميد جراحه، وشديد الغرق في دوامته ورعبه - حيث كان كل شيء قيد اعادة الانشاء: المجتمع، الاقتصاد، السياسة... كل شيء -، لبنان هذا اهمل السينما بعض الشيء، فكان ان ظلت في حالة جمود رغم التجارب والمغامرات التي حققها بعض أولئك السينمائيين. لذلك كله راحت الابداعات السينمائية تبدو شديدة الهشاشة وعاجزة عن العثور على صدى لها. كان من الواضح ان الانتاج غير قادر على الانطلاق. وكان على السينما اللبنانية ان تنتظر، بالتالي، أواسط عقد التسعينات قبل ان تعرف انطلاقتها الجديدة. وكان ذلك حين برزت جمهرة من سينمائيين اكثر شباباً تخرجوا لتوهم من معاهد وجامعات بيروت، حيث صارت السينما والصورة بشكل عام موضوعاً للدراسة يزداد الاقبال عليه. وهؤلاء الشبان راحت تحركهم طاقة مجنونة تدفعهم الى الاشتغال على الصورة، خالقين افلامهم الخاصة كيفما اتفق. وكانت النتيجة، كما نعرف الآن، أفلاماً شديدة الاختلاف، منفصلة تماماً عن تلك التي كان يصنعها الجيل الأكبر والأسبق، افلاماً اكثر ذاتية او بالأحرى اكثر "فردية" بمعنى انها راحت تعكس اهتمامات وهموم مبدعيها ليس فقط بوصفهم شباناً لبنانيين خارجين من اتون الحرب، بل كذلك بوصفهم شباناً ينتمون الى العصر ويطرحون اسئلة جوهرية مثل "كيف حال العالم؟" و"ما الذي يخبئه المستقبل؟". ان ما يدهش لدى ابناء هذا الجيل الجديد من السينمائيين، انما هو حبهم للسينما، وتآلفهم المطلق مع الصورة. فهم، في نهاية الأمر، سينمائيون صنعتهم الصورة، ترعرعوا في عالم تلاعبت به الصورة سواء أكانت صورة سينمائية، تلفزيونية أو معلوماتية. انهم شبان ينتمون الى الزمن الراهن اي يدركون او أواليات الصورة، ويبدون قادرين في الوقت نفسه على السيطرة عليها. انهم آتون من السينما الى السينما، ويحققون افلاماً حديثة ومعاصرة تتنفس هواء الزمن الراهن، سواء تعلق الأمر بالمواضيع التي يدنون منها، او بالاشكال التي تصاغ بها افلامهم. ولقد كان معظم هؤلاء اشبه بالمفاجأة، عند نهاية هذا القرن، اذ أتوا من لبنان ذلك البلد الذي عرف حرباً طالت 17 سنة وها هو الآن، بفضلهم، يبدو مهيئاً لدخول مسرح الكبار، سينمائياً على الأقل. اي المسرح الذي تشغله بلدان تصنع صوراً قيّمة. وهذا بشهادة العديد من المراقبين الذين قالوا ان هؤلاء الشبان انما يبرهنون عن مواهب اكيدة لديهم وعن حرفية متميزة عبر التلاعب، في كل مهارة، بين مختلف وسائل التعبير البصرية ومختلف الأنواع التي يطلقونها في ابداعات اصيلة. الغائب الأكبر معظم هؤلاء الشبان لم يحقق حتى الآن سوى افلام قصيرة.. لكنها نجحت بفضل عنادهم الشديد الذي يدفعهم في اغلب الاحيان الى تدبير امور انتاج وتوليف وعرض افلامهم بأنفسهم. وهذا ما يفسر بالطبع كون العدد الأكبر منهم لم يتمكن حتى الآن من تحقيق اي شيء آخر سوى الأفلام القصيرة. ومع هذا مكنهم عنادهم من عرض افلامهم في العديد من المهرجانات العربية والأوروبية في باريس، كما في مونبلييه ولوكارنو وقرطاجة، حيث برمجت هذه الأفلام، فردياً او جماعياً بنجاح كبير ولفتت الأنظار. واليوم سواء أحمل المخرجون اسماء اكرم زعتري في أفلام "كولاج" عديدة، ولكن خاصة في فيلم "مجنونك" الذي طاول بجرأة مواضيع شائكة مثل الجنس والغزل والعلاقة بين الرجل والمرأة او ميشال كمون الذي تميز بتهكمية سوداء في افلامه القصيرة "ظلال" و"كاتوديك" وأخيراً "الحمام" او عامر غندور في فيلمه التجريبي "امرأة" او ايلي خليفة في فيلميه المميزين "تاكسي، سرفيس" و"شكراً نينكس" او شيلا بركات في "رسالة من نبيل" او رانيا اسطفان او فيليب عرقتنجي او دانيال عربيد او وليد رعد وغيرهم... فانهم جميعاً يحلمون الآن بخلق مركز استقطاب سينمائي او خاص بالصورة عموماً في بيروت، وكل منهم يحلم بتحقيق فيلمه الروائي الطويل الأول، لكي يبرهن للعالم اجمع ان السينما اللبنانية ليست يتيمة. مهما يكن في الأمر، اذا كان هذا كله يقول لنا ان ثمة في لبنان اليوم عدداً كبيراً من السينمائيين المبدعين الطموحين، فإنه لا يعني ابداً - وللأسف - ان ثمة مؤسسات وهيئات في المقابل قادرة على مساندة انتاج هؤلاء ودعمه. ففي هذا المجال تبقى السلطات العامة، من سياسية وثقافية، غائبة تماماً. اذ حتى الآن، لم يتخذ اي اجراء جدي، ولم يوطد اي نظام دعم حقيقي، من اجل تسهيل عمل هؤلاء المبدعين. ومحطات التلفزة تبدو شديدة الانشغال بانتاج مسلسلاتها المحلية التي تزداد قبحاً وتفاهة، بحيث لا يمكنها ان تدعم السينمائيين الحقيقيين او تدخل في شراكة معهم. باختصار: ليس ثمة من دعم. وليس ثمة من تسهيلات للانتاج المشترك، وليس ثمة اي مساندة للتوزيع. وحتى لئن كانت هناك بعض المبادرات الملفتة مثل مبادرة تلفزيون المستقبل الى مكافأة الافلام التي يصنعها طلاب معاهد السينما عند تخرجهم، وعرضها، فإن مثل هذه المبادرات تظل خجولة وغير كافية على الاطلاق. وهذه الوضعية هي التي تجعل السينمائيين، مثل سابقيهم بغدادي، علوية، شمعون... مضطرين الى البحث عن تمويل لأفلامهم في الخارج، في فرنسا وفي غيرها من البلدان الأوروبية التي تبدو مهتمة بالانطلاقة الجديدة التي تعيشها السينما اللبنانية. وهذا الاهتمام اثارته في الحقيقة عروض ثلاثة افلام لبنانية روائية طويلة، خلال المرحلة الاخيرة في باريس وفي مدن فرنسية وأميركية وأوروبية عديدة. وهي افلام نالت تقريظاً نقدياً لا بأس به، ولا سيما منها فيلم "بيروت الغربية" لزياد دويري. وهذا الفيلم الأخير لم يحقق نجاحاً في باريس وحدها، بل ايضاً في لندن وفي العديد من المدن الأميركية، وكذلك في بيروت ويا لغرابة الأمر! حيث تمكن من اجتذاب اعداد كبيرة من المتفرجين، ناهيك بأن عرضه من على شاشة "آرتي" الفرنسية/ الألمانية مكنه من ان يلتقي بجمهور حقيقي. الفيلم الثاني كان "اشباح بيروت" لغسان سلهب، وهو بدوره انتج بفضل تمويل فرنسي، وحين عرض في فرنسا نال نجاحاً نقدياً لا بأس به. ومن بعده اتى فيلم "المنزل الوردي" للثنائي خليل جريج وجوانا حاجي توما، الذي نال بدوره تقريظاً من النقاد. هذه الأفلام، التي تخطت الحدود وفرضت حضورها اعلنت بوضوح ان السينما اللبنانية موجودة، وأدت الى عودة العديد من المشاريع المطمورة الى الحياة. وليس هذا فقط، اذ الأهم انه امام عناد وصلابة هذا الجيل الأجد من السينمائيين، وأمام الطاقة التي يبدونها للوصول الى تحقيق افلامهم، لم يعد من الممكن لأبناء الجيل السابق عليهم ان يبقوا على صمتهم المريح.. لذلك ها هم الآن يحاولون، كل على طريقته، ان يعيدوا الحياة الى وجودهم كسينمائيين، بدءاً من جان شمعون الذي صوّر اخيراً فيلماً روائياً طويلاً بعدما اكتفى طوال عشرين سنة بتحقيق افلام تسجيلية، وصولاً الى برهان علوية الذي يشتغل الآن على سيناريو جديد مروراً برندة الشهال التي انجزت مؤخراً فيلمها الجديد "متحضرات"، الذي ناله من الرقابة ما ناله ولا يزال حتى اللحظة وضع اخذ وردّ، رغم عرضه في مناسبات عديدة. اذن، اذا سأل سائل اليوم عما اذا كانت السينما اللبنانية على ما يرام، صار في الامكان ان يكون الجواب السريع والبديهي ان السينما اللبنانية ستكون على ما يرام اكثر وأكثر.