الوضع السوري المعقد راهناً، يدفع الساسة الأكراد إلى التردد والتحفظ، مما يؤجل انخراطهم الكامل في تغيير الأوضاع في سورية لمصلحة المعارضة، المنقسمة والمتباينة مواقفها إزاء المطالب الكردية، والتي ترى في إسقاط النظام هدفاً أولياً مشتركاً، يليه ما قد يليه...! هذا خطاب يردده سوريون غير قليلين حين تقويمهم لتموضع الكرد ودورهم في الحدث السوري الحالي. تعود خبرة الأكراد السياسية في سورية إلى ذاكرة مأسوية أكثر من عودتها إلى مناخ ثقة أهلية. فقدان الثقة إرثٌ مؤسف، فحريٌ بهم النظر في مستقبلٍ يتشاركون في صنعه، لا في ماضٍ أُهينوا خلاله. عانى الأكراد الإقصاء والتهميش، وغالى حكام سورية الفعليون في اضطهادهم. فمجزرة 12 آذار (مارس) 2004 القريبة العهد خلّفت ذاكرة مؤلمة، وتُرك الأكراد وحيدين حينها في وجه شراسة القمع الأمني. ثم أعقبتها جرائم قتل واغتيال على يد استخبارات النظام غداة الاحتفال بأعياد النوروز، عدا مقتل مجندين من الكرد في حوادث غامضة. تلك أفعال حديثة العهد، لماض غير سوي عومل به أكراد سورية باضطهاد بشع منذ عهد الوحدة السورية - المصرية وما تلاها من شوفينية الحكم البعثي. الكثير من الأكراد سُجن وعُذّب، أكثرهم حرم من الوظيفة وحق التملك، ولا تزال مناطقهم هي الأسوأ لجهة البطالة وتراجع التعليم واهتراء البنية التحتية وحدّة الفقر وقسوة التعامل الأمني، ناهيك عن حرمانهم التعليم بلغتهم الأم. من رأى الاعتراض الكردي على مُسمّى الجمهورية العربية السورية بدل الجمهورية السورية، في غير أوانه، يغبن الأكراد ويستكثر طموحَهم في وطن يعكس حقيقة تعدّد السوريين. وينبغي ألا يفهم من اعتراضهم هذا تثبيت التميز القومي وحسب، فهم لم يكونوا يوماً ضد أحد في سورية. وإذا ما قارنّا حالهم بحال مناطق سورية أخرى هالنا الفارق الكبير في مستوى المعيشة والخدمات العامة، على رغم أن المناطق الكردية تشكل الخزان الاقتصادي الأكثر ثباتاً وسخاء لدعم الاقتصاد السوري، إن من جهة النفط والغاز أو زراعة الحبوب الأساسية إضافة إلى القطن. ويرى الأكراد أن الشعب العربي في سورية جزء من الأمة العربية، عوض اعتبار سورية جزءاً من الوطن العربي، وينسحب هذا على انتماء مضمر مفاده أن الاكراد السوريين جزء من الأمة الكردية، وأن مكمن الفارق له علاقة بالأرض والتاريخ المقموع، ويمكن تلمس الفروق السياسية الثقافية من خلال اعتماد اللغة. فاسم مدينة أساسية كالقامشلي يبدأ بأل التعريف العربية، في حين أن الأكراد يلفظونها «قامشلو»، ومدار هذا الفارق اللغوي الثقافي يختزل الكثير من أوجه الصراع. فالحكم البعثي كتم الوجود الكردي بشراً ولغة وثقافة، وأبدل أسماء القرى الكردية وأحلّ العربية محلها، عدا جريمة التغيير الديموغرافي القسرية المستمرة، حيث أنشئ أكثر من 45 قرية على مقربة من الحدود السورية - التركية، في المناطق الخصبة، ثم تم تحويلها إلى بلديات بمراسيم رئاسية. وتعرف هذه القرى ب «الحزام العربي»، والهدف منه إقامة حاجز عرقي عنصري يفصل المدن الكردية - السورية عن بعضها بعضاً، وتفريغ المنطقة من سكانها الأصليين، واستقدمت عوائل عربية من حوض الفرات بداعي غمرها بمياه السد «العظيم»، وأراضي هذه القرى تعود الى مالكين أكراد. وكما تم تجريد عشرات الألوف من الجنسية السورية، جرى تجريدهم من حق الملكية أيضاً، وفي الآن نفسه حرموا من عائدات النفط الذي يستخرج منذ عقود من مناطقهم. وعليه، فالصراع السوري - الكردي تتجاذبه أبعاد قومية واقتصادية وثقافية، وإذا ما كانت «الجمهورية السورية» المستقبلية حاضنة مدنية تعددية، تترسخ فيها قيم التداول السلمي للسلطة، وتستوعب الكردي وغير الكردي على قدم المساواة، فإن الغلوّ في «عروبة» سورية يفضي إلى غلوّ مقابل في الحساسية القومية الكردية. ويحسن بالأكراد السوريين و «إخوتهم» العرب تجاوز خلافاتهم المضمرة لمصلحة وطنية سورية جامعة، وألا ينسوا كون الخلافات المتراكمة جزءاً ثقيلاً من صناعة نظام قاسوا جميعاً ويلاته. ويطاول الشك مفاعيل تطبيق القوانين في بيئة يتناهبها القلق السياسي والعنف وفقدان الثقة وشحّ الحكمة في التعامل المرن مع الأقليات. وحال الجار العراقي الفيدرالي، سليل البعث الصدامي، إزاء أزمة كركوك واضحة للعيان، فالمادة 140 من الدستور العراقي لم تطبّق، والمالكي حليف الأمس، عدو اليوم، يريد إعادة العراق إلى بطش دولة المركز العسكرية. والإيرانيون والأتراك المتنافسون على نهب التركة السورية، يتماثلون في سياساتهم تجاه الكرد، فهم يقصفون القرى الكردية في إقليم كردستان، ويتسبب ذلك في قتل مدنيين وتشريد الأهالي. وهذه عوامل تدفع أكراد سورية إلى الشك في قدرة الحكم في سورية على سلوك طريق مختلفة. وتتداول أحزاب الحركة الوطنية الكردية شكل الدولة المقبل ومضمون الدستور الجديد، وما إذا كانت المعارضة جادة في حل عادل للقضية الكردية - السورية. ويرى كثير من الأكراد أن غالبية المعارضين السوريين يحرضونهم على ضرورة إسقاط النظام عندما يكون دافع التحريض مصلحة المعارضة ما عدا الأكراد، وهذه المصلحة التحريضية موقتة، إذ إن الأكراد السوريين شركاء في أكلاف الضرر وتحمل المعاناة، لكنهم يُقصون عن المكاسب السياسية، ويعاملون كغرباء في بلدهم. وغالبية الجيل الشاب في الوسط الكردي تجاوزت آلام الماضي، وتبدي حماسة وطنية فريدة تتخطى بكثير خصوصية الشأن الكردي. وينتاب الجيلَ الكردي القديم الشكُ في مصير الحركة الاحتجاجية وفي نيات المعارضة: فالذين اعتادوا الخوفَ فقدوا الجرأة. * كاتب كردي سوري