هي مدينة لا تشبه أي مدينة. هي مدينة لا تشبه إلا وطناً. وطنٌ على شاكلة حديقة تتعانق في جنباته زهور الفل والقرنفل والريحان وشقائق النعمان. هي مدينة تختصر تاريخاً زاخراً بالحضارات. باريس الصغرى كان يناديها سكانها في الخمسينات، شوارعها المستقيمة المعبدة كانت ترسم قبلاً للكنائس والجوامع والكنس المستلقية بهدوء على الأرصفة، هي القامشلي أو قامشلو، تلك المدينة التي فتحت صدرها لكل النازحين الهاربين من موت أسود محمل في براميل الحقد. هي المدينة التي ذاقت ويلات وعذابات هجرة أبنائها نتيجة الفقر الذي جلبه البعث لمنطقة تعد مهد وموئل كل الخيرات التي تتمتع بها البلاد. هجرها سكانها بعد أن حاصرتهم سياسات القمع لعقود طويلة، فأصبحوا في ما بعد غجر الجزيرة، هؤلاء الذين كانوا سباقين إلى زرع بذور الحب والوئام والتآلف مع مختلف شرائح الشعب السوري. اليوم ومع النيران التي يحاول البعض إشعالها في شوارع المدينة وحاراتها، تعيش قامشلو خوفاً شديداً على أبنائها، لا سيما بعد سلسلة من التفجيرات التي وعلى رغم استهدافها مقرات أمنية إلا إن أهالي المدينة البسطاء يعتبرون ذلك رسالة تحذير وإنذار لهم ولدورهم السلمي في الثورة السورية وإصراراً من البعض على جر الكرد إلى أتون الصراع المسلح في البلاد. الإشاعات التي تنتشر بين السكان، والتي تتحدث عن قرب دخول «الجيش الحر» إلى المدينة، أو عن «هدايا» يحضرها البعض، من تفجير للمدارس والأماكن السكنية، أدخلت الرعب والهلع إلى كل القلوب، وبات الكثيرون يجهزون حاجياتهم وأمتعتهم للهروب فيما لو تحولت المدينة إلى وضع شبيه بمدن الداخل السوري. إن الكرد باتوا مقتنعين بأن هناك من لا يعجبه حال الهدوء التي تتمتع بها المدن الكردية، ودليلهم التصريحات التي تخرج بين الفينة والأخرى من أفواه العديد من المعارضين في الخارج، من أن الكرد يجب أن يدفعوا ضريبة الثورة من الشهداء والقرابين حتى يقطفوا ثمارها، والانفجار الأخير وما تلاه من حواجز إسمنتية أقامها النظام في مختلف الشوارع والطرقات يثبت بما لا يقبل الشك أن هناك من يحاول أن يستدعي الجيش للدخول إلى قلب المدن الكردية ويبدأ حملة من الاعتقالات وربما جولة من القتل والقتل المضاد لتضاف مدن منكوبة أخرى إلى أشلاء المدن المتبقية في داخل الوطن السوري. إن دخول «الجيش الحر» إلى داخل منطقة الشيخ مقصود ذات الغالبية الكردية في حلب، وقصف النظام لها والضحايا الذين سقطوا جراء القصف، والتفجير الأخير في قامشلو، والدعايات التي تروج لها الصحف التركية، من توجيه زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان التعليمات لأنصاره لضرورة وقف القتال في تركيا والتوجه نحو الجبهة السورية، هذه المؤشرات وغيرها تدل على أن المنطقة الكردية مقبلة على أيام شديدة الصعوبة، على رغم نأي الكرد بأنفسهم منذ البداية عن الدخول في مجاهل الصراع المسلح الدائر بين النظام والمعارضة، واتباعهم الأسلوب اللاعنفي عبر التظاهر السلمي والعمل على إقامة إدارة ذاتية لمناطقهم، وذلك للقناعة التامة بأن الغطاء لم يرفع بعد عن النظام السوري، وفقدان الثقة بأطراف المعارضة التي لم تخرج بعد من عباءة مفاهيم الأمة الواحدة والشعب الواحد، إضافة إلى اليقين الذي ترسخ لدى الكرد من تحول الثورة السلمية إلى صراع بين قوى داخلية تتبع سياسة لعبة المحاور الإقليمية والدولية، والكرد بعددهم وعديدهم غير قادرين على تحمل تبعات حروب كهذه. سابقاً كان يقال لا أصدقاء للكرد إلا الجبال، وفي كردستان سورية لا جبال يحتمي بها الكرد إذا ما أرادوا الدخول في معمعة الصراع، كما أن الحرب تحتاج حتماً إلى سلاح وتمويل وليس هناك من جهة ربما ترضى بتمويل الكرد وتسليحهم، فتركيا ما زالت تراهم خطراً على أمنها القومي وهي غير مضطرة إلى توفير سلاح قد يتم توجيهه مستقبلاً باتجاه الحدود الشمالية، كما أن دول الخليج غير مستعدة لتقديم المال إلى جماعات قد تشكلن مستقبلاً خطراً على وحدة سورية عبر إمكانية قيام كيان شبيه بإسرائيل، مثلما كان ينظر بعض العرب إلى كردستان العراق ويصفونها بإسرائيل الثانية، أما من يفترض بهم أن يكونوا أصدقاء وأخوة في النضال من المعارضة العربية فما زالوا ينطلقون في أدبياتهم وبياناتهم من مفاهيم إما قومية عروبية ضيقة أو إسلامية فضفاضة بشكل كبير بحيث باتوا يشكلون خناقاً حتى للكثير من الأقليات. «ما الذي تريدونه منّا، أن تنتهك أعراضنا وتغتصب نساؤنا، أن يقتل أطفالنا وتمثل بجثثهم وتفنى بيوتنا مثلما حدث لحمص وحماة ودرعا؟ من سيمدنا بالسلاح حتى نقاوم من لا زالت تسكت عن أفعاله كل دول العالم، ثم من يضمن لنا سقوطه حين نثور بعشرات الآلاف، أم أننا سنترك وحيدين تقطف صواريخ الموت ضحكة أطفالنا، لتعيد إلينا آلام وعذابات انتفاضة آذار (مارس) 2004 ومجازر حلبجة والحولة»؟ هذا هو لسان حال الكردي السوري الذي لن ترضى عنه الفضائيات العروبية والإسلاموية حتى يسقط في مستنقع القتال الأهلي والطائفي البغيض. الكرد في قامشلو ما زالوا مصرين على المضي في ثورتهم السلمية لتحقيق مطالبهم في الحرية والديموقراطية واللامركزية وهم متآلفون ومتضامنون مع إخوانهم الثائرين من الشعب السوري الذين ينظرون إليهم بعين الإخوة والمساواة والرغبة في إقامة وطن لجميع أبنائه من مختلف الأعراق والإثنيات والطوائف، ومن ينكر على الكردي حقه القومي المشروع ضمن الوطن الديموقراطي فلن يفوز إلا بدولة ممزقة تتناحرها العصبيات والحروب الأهلية لعشرات السنين.