إذا سلّمنا بدأب كل الأيديولوجيّات العقيديّة الشموليّة على تدمير الفرد، وصهره في الجمع، فإن شريحة من يمكن تسميتهم بالليبراليين العرب السوريين، الآتين من الخنادق القوميّة العروبيّة، واليساريّة العروبيّة، والإسلاميّة العروبيّة، وعلى رغم زعمهم تبنّي قيم الحداثة والديموقراطيّة ومفاهيم المواطنة الحرّة الكاملة، ما زالت على صلة خفيّة بخنادقها الأيديولوجيّة السابقة. مناسبة هذا الكلام، حالة الهيجان، والهرج والمرج، التي شابت الحراك الثقافي والسياسي السوري، حين أعلن بعض الكرد رفضهم أن تكون سورية المستقبل، جمهوريّة عربيّة سوريّة، كما فرضها حزب البعث، بالضدّ من حقائق ومطعيات ومبررات الواقع الاجتماعي المتنوّع في سورية، وذلك أثناء انسحابهم من مؤتمر المعارضة «للانقاذ» في إسطنبول. فسورية، لم تكن يوماً عربيّة خالصة، وهي كذلك الآن. فالنسيج الاجتماعي مكوّن من العرب والكرد والسريان والآشوريين والتركمان والارمن والشركس والشيشان والروم...، ولا يمكن أبداً الاخذ بمبرر كون العرب هم الغالبيّة، لتكون سورية عربيّة، وإلاّ، لكانت سويسرا ألمانيّة، لكون 75 في المئة من سكانها ألماناً، ولكانت بلجيكا فلامانيّة - هولنديّة. وعليه، فوجود أيّ تكوين اجتماعي، قومي او اثني مختلف (حتّى لو كان أغلبيّة)، وفق مبدأ الدولة الوطنيّة الديموقراطيّة الناجزة والناضجة، يفرض عدم إسباغ لونها القومي على الدولة، وإحالة هويّة الأخيرة الى انتماء قومي معيّن دون غيره. وبالتالي، فالإصرار على مسعى كهذا في سورية، بشكل أو آخر، يلغي التنوّع في هذا البلد. وهو فعل بعثي، بامتياز. حالة الهيجان التي انتابت بعض المثقفين العرب، حول الاعتراض الكردي، استعانت بذلك الخزين الشعاراتي إيّاه، والغرف بمغرفة الأيديولوجيّة البعثيّة والناصريّة والأخوانيّة، اثناء الحديث عن هويّة الأمّة، والمخاطر والمؤامرات التي تستهدفها... وإلى آخر هذا النسق من الكلام الاعتباطي، تعبيراً عن رفضهم واستهجانهم للموقف الكردي المذكور. فكأنّ ديمومة الأمّة العربيّة وتطوّرها، ليسا في وجود أنظمة ديموقراطيّة وطنيّة عادلة، تدفع بشعوبها وبلدانها نحو العصر والمستقبل، بل كأن كيان الأمّة سيبقى في خطر، إذا لم يكن اسم سوريّة مقروناً بالعروبة!. وهذا يشي بمدى بؤس الوعي لدى طبقة من المثقفين العرب، وبمدى انتمائهم الأصيل لحملات التعريب التي قام بها هواري بومدين بحق الأمازيع، عبر الاستعانة بالمدرّسين المصريين والفلسطينيين الذين استجلبهم الى الجزائر، وحملات تعريب الأقباط التي قام بها عبد الناصر، وحملات التعريب التي قام بها حافظ الاسد ضد الكرد والسريان والاشوريين والتركمان والشركس...، وحملات التعريب التي قام بها صدام حسين ضد الكرد، وكل حملات التعريب تلك فشلت في البلدان الآنفة الذكر، كونها مضادة لمنطق التاريخ والمجتمع. وثمة من يقول بترك هذه المسألة إلى ما بعد إسقاط النظام. لكن الانتقال من دولة الحزب الواحد، والعائلة والطائفة، الى دولة المواطنة الحرّة، يُلزم بالوصول الى شكل مبدئي لطبيعة هذا النظام والاتفاق عليه، وتوثيق ذلك، لحظة بلحظة، في محاضر جلسات المعارضة ومؤتمراتها. وما دام الاقرار قائماً بفشل دولة البعث، فلماذا الإصرار على عدم التخلّي عن موروثها في جزئيّة هويّة الدولة، وعدم اعتراف الدستور المرتقب بالكرد كشعب، وبباقي الأقليّات القوميّة، وتضمين وصون حقوقهم في دستور المستقبل؟. ذلك أن الكرد السوريين، يريديون الثقة والطمأنة، وليس العكس، لكون العرب من حكم هذه البلاد، وقد لحق بالكرد ما لحق بهم من إنكار وصهر وطمس وإلغاء وتهميش وتعريب. والحقّ أنه لا ولن يستقيم الكلام عن عروبة سورية، والاصرار على تسمية «الجمهوريّة العربيّة السوريّة»، مع وجود شعب آخر، مختلف في العرق واللغة، الى جانب وجود أقليّات قوميّة أخرى في هذا البلد. ومن جهة اخرى، فإن رفض الاعتراف بالكرد كشعب في سورية، وتحقيق المطالب الكرديّة، ضمن دولة المواطنة الحرّة، لا يمكن تفسيره أو إيجاد مبرر له، سوى ان المعارضة تريد المكاسرة على النظام، والمزايدة عليه، في مسألة العروبة، كما لو أنّ الأخيرة لن تقوم لها قائمة ما لم تكن على حساب إنكار وجود الكرد كشعب وقوميّة ثانيّة في البلاد. فمن يرفض الاعتراف بالكرد وحقوقهم ومطالبهم وهو في المعارضة، لن يعترف بهم وهو في السلطة. والإطاحة بنظام استبدادي في دمشق، لن يكون له ايّ معنى، مع بقاء الذهنيّة الاستبداديّة معشّشة في وعي النخب الجديدة التي ستتسلم الحكم!. لذا، فالثورة على النظام الاستبدادي في دمشق، تستوجب ثورة على الذهنيّة الاستبداديّة، والاستعلائيّة، الكامنة في وعي وسلوك معارضة نظام البعث. ولن تتكلل الثورة السوريّة بالظفر، ولن تكون ناجزة، ما لم تحقق الشرط الثاني، إلى جانب تحقيق الشرط الأول. ذلك أنه لن تطوى صفحة نظام البعث مع سقوط النظام فقط، وبقاء ذهنيّته تحكم البلاد. وهذا جلّ ما يخشاه الكرد السوريون. * كاتب كردي سوري