أصعب تحديات المهزوم أن يواجه الهزيمة ويقبل بها، خاصة إن لم يكن قد فكّر باحتمالها. الأمثلة كثيرة على ذلك عند الشعوب كما عند الأفراد. وشرقنا زاخر بالحروب وأحلام الانتصار وصواعق الهزيمة غير المنتظرة. هكذا يلجأ المرء إلى التفسيرات التي تقلل من وطأة الهزيمة وعواقبها ليجد الدواء والراحة في تفسيرات المؤامرة والخيانة. ولا بد له أيضا أن يجد كبش فداء يسهل عليه مرارة الواقع. ومن أسهل اتهاما ممن يعيش بيننا ولا يشبهنا؟ ممن لا يكفّ مجرد وجوده عن الإشارة إلى أخطائنا، سيما وأننا نستطيع حرمانه فرصة الدفاع عن نفسه؟ ما نراه ونسمعه ونقرأه هذه الأيام في وسائل الإعلام العربية من هجمات على الأكراد وتحميلهم أسباب خراب العراق وتجزئته واحتلال الأميركان له وللمنطقة، يأتي بعد هزيمة لا يخطىء الإنسان كثيرا إذا قارنها بهزيمة حزيران يونيو 1967. والمهزومون هم أولا دعاة العروبة، أي كل من وقفوا مع نظام صدام واستفادوا منه فتغاضوا عن قمعه لشعبه وكانوا يملأون الشوارع كالمعتاد بالهتافات ضد العدو الخارجي تجنباً لنقد العدو الداخلي الكامن فيهم ودرءا لمزاحمة نرجسيتهم. يشكل أكراد العراق مشكلة عويصة للعالم العربي وخاصة للعروبة التي تروج لعراق عربي على حساب عراق متعدد القوميات ولعالم عربي ككتلة قومية واحدة. فبعد إهمال وقمع طويلين إذا بأكراد العراق، القومية الأكثر اهتماماً بالبحث عن اعتراف بها، لا سيما منذ مذبحة حلبجة، يتجاوزون القيود التي تمنع ذكرهم والحديث عنهم. والأمر هذا لم يخل من تدخل دول عظمى في المنطقة منذ حرب الخليج الثانية وتحرر جزء كبير من المناطق الكردية من سيطرة الحكومة المركزية. فمن مجهولين ومهملين ومقموعين، وصل أكراد العراق إلى تنظيم انتخابات يكاد لا يكون لمثلها وجود في الدول العربية. أي أنهم خلقوا شرعية ديموقراطية وقانونية تفتقر اليها القوى السياسية العربية. وإذا بالمشكلة الكردية تفرض نفسها ويجهد القوميون العرب وحلفاؤهم على تصويرها بكل الوسائل كخطر على وحدة العراق. وإذا بها تطرح نفسها من جوانب عديدة كقضية تنافس القضية الفلسطينية في عدالتها. فكل الحكومات العربية تدعم القضية الفلسطينية وعدالتها سياسيا وإنسانيا في حين تقف ضد القضية الكردية. ومن هذه الزاوية تحرج القضية الكردية الحجج التي يرددها مناصرو احدى القضيتين دون الأخرى، لا سيما حجة الكيل بمكيالين. فكيف، إذاً، لا يحس الكاتب العربي باضطراب فكري، وهو الذي تربى على فكرة العدالة الإنسانية المطلقة للقضية العربية، أمام قضية عادلة أخرى ولدت على مقربة منه، لتنسف ثوابت اعتاد اللجوء إليها ونشدان الراحة النفسية في ظلالها الدافئة: راحة الضحية الواثق من حقه المطلق؟ فحين لا يعبر سياسيون وكتاب عرب عن تذمرهم من ذكر الأكراد فذلك مصدر تساؤل وقلق لا العكس! ومما زاد الطين بلة أن الموقف العربي السلبي لم يقتصر على الأكراد وحدهم بل شمل كل العراقيين ومنهم العرب. لقد وقف العالم العربي مع نظام صدام حسين وانهزم معه لكنه لا يقر لا بالهزيمة ولا بالمسؤولية. يكفي النظر إلى الصمت العربي أمام المقابر الجماعية التي تهز صورها العالم ولا تحرك ساكنا في الدول العربية. فهذه الجثث تتهم نظام صدام مثلما تتهم الدعم العربي له. والمذنب لا يكف عن البحث عمن يحمّله ذنبه ويلقي عليه سبب ما انتهت اليه أموره.