الأسهم الأوروبية تغلق على تراجع    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء يقرّ الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2025م    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    مغادرة الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    الأسبوع المقبل.. أولى فترات الانقلاب الشتوي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    مبدعون.. مبتكرون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    حروب عالمية وأخرى أشد فتكاً    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    الرياض الجميلة الصديقة    هؤلاء هم المرجفون    المملكة وتعزيز أمنها البحري    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة البعث في العراق . مذابح الأكراد في موازاة صعود صدام وحروبه 7
نشر في الحياة يوم 15 - 04 - 2003

بعد ان تناولت الحلقة السابقة تجربة الشيوعيين العراقيين مع البعث، هنا التتمة:
قبل أن يُغمض الملاّ مصطفى البارزاني عينيه في مستشفى جامعة جورج تاون بالولايات المتحدة، روى بعضاً من غليله. فإدارة جيرالد فورد - هنري كيسنجر التي خانته كانت ولّت وحل الديموقراطيون في البيت الابيض. وشاه إيران كان قد لفظه عرشه للتوّ فيما شوارع طهران تعجّ بتظاهرات غير مسبوقة في التاريخ. مع هذا لم يرو الملاّ الا بعضه القليل. فالألم النازل بزعيم أكراد العراق ما بين أواخر الاربعينات وأواخر السبعينات، والذي لم يصدر عن الجسم وحده، ظل ينبض. ذاك ان صدام حسين كان في أوجه يومها. وأشهرٌ قليلة فقط هي التي فصلت بين رحيل الزعيم الكردي، عام 1979، وبين صعود "السيد النائب" الذي صار "سيادة الرئيس". وسريعاً ما انكشفت للعالم كله رداءة الحال في كردستان العراقية. ذاك أن أرضها الفسيحة ضنّت بمكان تؤوي اليه جثة قائدها الأسطوري.
والحال ان العراق، منذ قيامه في 1920، فشل في أن يكون وطناً للأكراد. فقد انتفضوا، بُعيد ولادته على يد بريطانيا بتصميم وضعته "مس بيل"، بقيادة الشيخ محمود الحفيد أو البارزِنجي. ومع أن الأخير أعلن نفسه ملكاً على شعبه يناظر فيصل الأول في بغداد، أخضعته طائرات سلاح الجو البريطاني وأخضعتهم.
ومنذ محمود الحفيد انطوى تذمر الاكراد على بُعدين ليسا بالضرورة منسجمين: فمن جهة مطالب غيّرت تحولاتُ الزمن مقاديرَها، أدناها ظل رفع الغبن وأقصاها الاستقلال، وبينهما صيغ متنوعة للحكم الذاتي. ومن جهة، رفض تقليدي للسلطة المركزية ولفكرة الدولة الحديثة رفعته قيادات عشائرية وصوفية.
ولئن شملت النخبة العراقية الحاكمة في العهد الملكي بعض كبار ملاّكيهم من آل بابان وآل القزّاز وغيرهم، بقيت مناطقهم في الشمال مُهملة بائسة، شأنها شأن مناطق الجنوب الشيعي، كما حوصرت لغتهم وهُمّشت ثقافتهم. ومنذ الخمسينات، وعلى امتداد الحرب الباردة، رُبط المطلب الوطني الكردي بالنفوذ الشيوعي والروسي الذي كافحه العهد الملكي بضراوة، لا سيما وجهه الأبرز نوري السعيد. وكان مما عزز الربط أن الملاّ مصطفى البارزاني لجأ الى موسكو اثر انهيار جمهورية مهاباد في كردستان الايرانية أواخر 1946. فتلك المحاولة المبكرة التي حظيت بدعم السوفيات وحضورهم العسكري المباشر، ما لبثت أن تهاوت وأُعدم رئيسها القاضي محمد. ذاك أن موسكو اضطرت الى التراجع امام الاصرار الانغلو اميركي، بعد يالطا وبوتسدام، على انسحاب القوات الاجنبية جميعاً من ايران. وما ضاعف اللبس بين الكردية والشيوعية تركيز دائم من "الحزب الشيوعي العراقي" على حقوق الاكراد، وانتساب أعدادٍ من شبانهم المتعلمين اليه، وتبؤ بعضهم مواقع قيادية فيه.
وعندما قامت الجمهورية في 1958 عاد البارزاني من منفاه وساد شهر عسل لم يطل مع السلطة الجديدة. فالوطنية العسكرية التي رمز اليها عبد الكريم قاسم لم يسعها التعايش مع هوية ذاتية للاكراد، ولو من ضمن هوية عراقية جامعة. هكذا انفجرت الحرب الأولى في الشمال، فدمّر الطيران العراقي حتى 1961 حوالى 1270 قرية كردية وهجّر أهلها. وكان من تحصيل الحاصل ان تتوثّق علاقة البارزاني بإيران الشاهنشاهية بقدر ما يستدخل الأكراد مقت العسكر في سياستهم كما في عواطفهم.
وتكرر الأمر مع مجيء البعث الى السلطة في 1963، فساد شهر عسل آخر أقصر من سابقه، لتنفجر الحرب مجدداً. لكن النزعة العسكرية التي أمسكت، يوم 8 شباط فبراير، ببغداد افتقرت الى وطنية قاسم العراقية فيما أحلّت محلها عروبيةً لا تماري في كراهية الأكراد. هكذا صار السيء أسوأ. ولما كان بعثٌ واحد يحكم دمشق وبغداد، دفع السوريون بقوات عسكرية قادها العقيد البعثي فهد الشاعر، دعماً للرفاق العراقيين ضد "العصاة البارزانيين".
وفي عهدي عبد السلام وعبد الرحمن عارف، حاول أحد رؤساء الحكومة، عبد الرحمن البزاز، معالجة المشكلة سلماً فحال الجيش دون ذلك. فعندما عاد البعث الى الحكم في 1968، تحسس الأكراد رؤوسهم وتوقعوا الكارثة. بيد ان العهد الجديد كان مشغولا ببغداد. فقد بدا مستحيلاً للبعثيين، وهم في ضعفهم البالغ، توطيد سلطة مركزية من دون التوصل الى وقف القتال في كردستان، ولو موقّتاً. كما ترددوا لوهلة، متهيّبين المشكلة التي واجهتها العهود السابقة جميعاً، وساهمت في تقويضها كلها. فهم، وقد استغرقهم يومذاك تطهير الجيش وكشف "المؤامرات"، الفعلي منها والمزعوم، التي تواطأ فيها البارزاني والتي لم يتواطأ، بدوا في أمسّ الحاجة الى هدنة في الشمال البعيد ريثما ينتهون من "تنظيف" الجوار القريب.
لكن الصحيح ايضاً ان المقدمات التي صدر بعث 1968 عنها التقت عند ما يثير ذعر الأكراد. فإلى الانشاء القومي لحزب عفلق، وهو دعوة لا تتعب الى الارتياب بالأقليات التي "تناهض" العروبة، هناك "المثلث السني"، ومن ضمنه تكريت. وهذا، في واقع الحال، المنطقة التي تحاذي كردستان العراقية جنوباً وغرباً. وإذ تقع أربيل على بعد 74 كيلومترا شرقي الموصل، فالخط الذي يمتد من دهوك شمالا الى كركوك جنوبا، ووسطه أربيل، يوازي نصف طول الخط الذي يمتد من الموصل شمالا الى سامراء جنوبا وفيه تكريت. ولئن سجّلت بعض التجمعات السكنية في الخطين، وبينهما، تقاطُعاً وتداخُلاً، فهذا مما أثار التوتر أكثر مما أشاع التقارب. ذاك أن عشائر الغرب العربية لم تحمل لفلاحي الشمال الشرقي من الاكراد الهابطين من جبالهم، والمنفصلين عن عشائرهم، الا المشاعر التي تحملها، في العادة، العشائر المتماسكة للفلاحين. وهذه، في آخر المطاف، مركّب من تعالٍ يصير احتقاراً وارتياب يتصلّب جفاءً. أما الجيش العراقي، ومنذ نشأته، فكان أكراد الشمال أكياس تمرينه، هم الذين انطووا على تطلع استقلالي تشرّب الجيش معاداته وشكك في ارتباطه بخصوم العراق الخارجيين.
فإذا أضفنا الى اللوحة شخصيتي الملا وصدام فهمنا البقية: فالأول زعامة أهلية وطيدة، والثاني نتاج انخلاع عن كل قوام اجتماعي وعصيان على كل معيار. وهذا اذا جعل الأول ثقيلاً على التحولات، بطيء التغيّر والتغيير، جعل الثاني حركية متواصلة وانقلابية غير مشدودة، بالضرورة، الى أهداف ومقاصد. ثم ان الملا، تبعاً لسلطة متوارثة ومعطاة، كاريزمي من غير ان ينوي، فيما صدام يحاول يومياً، وبشق النفس، اكتساب كاريزما لا تطاوعه الا باستخدام القوة. فكان، إذاً، من الطبيعي في طاووسية ترسو على فراغ، كالتي يتسم بها أن لا تطيق زعامة، كزعامة البارزاني، تعيقها وطأة الثقة بالنفس وأبّهة مؤسسة على البساطة.
والأبهة ضاعفها التحالف مع إيران. فبسببه نجح الأكراد في آذار مارس 1969 في شن هجوم شامل على كركوك. وقبل الهجوم بشهر، دعت طهران الى إلغاء معاهدة سعد أباد التي رسّمت، عام 1937، الحدود المشتركة على الضفة الشرقية لشط العرب. يومها أدى الخلاف الذي أدركت بغداد جديته وخطورته، الى حشد البلدين قواتهما على الحدود. لكنه أدى أيضاً الى السعي وراء هدنة تتيح للبعث التقاط أنفاسه. ولأن حكمه يسعى الى الهدنة بطريقته المميزة، ارتكب الجيش العراقي في 8 آب أغسطس 1969 مذبحة في قرية داكان الكردية، في جوار الموصل، لم يُعرف عدد ضحاياها.
ومثل الشيوعيين، شُدّ الاكراد من شعورهم الى التحالف، إنما مع فارق واحد. فاذا كان الفرد الذي يُضطهَد او يُقتل هو الوحدة الشيوعية التي تتسع احياناً لتشمل عائلته، فإن القرية التي تُهاجم وتُحرق ويُباد من يُباد منها هي الوحدة الكردية.
وعلى العموم، مضى البعثيون في تبريد الأمور بعد تسخينها فوُقّعت، في 11 آذار 1970، اتفاقية لم يجبّها في الطنين الاعلامي والدعائي الا تأميم شركة نفط العراق بعد عام وبضعة أشهر. وتلقائياً مهّدت الاتفاقية المذكورة لدخول "الحزب الديموقراطي الكردستاني" ما صار لاحقاً "جبهة وطنية تقدمية" تشمل البعثيين والشيوعيين. لكن لأن البعث لم يكن جدياً فإنه أبدى، في 11 آذار، سخاءً زاد ريبة الاكراد بجديته. فالاتفاق تعدى ما تم التوصل اليه مع البزاز لجهة الاعتراف "بشرعية القومية الكردية" والتعهد بتلبية الحقوق اللغوية والاشراك في التمثيل والقرار الحكوميين، فضلا عن الادارة الكردية لمنطقة الحكم الذاتي في كردستان. ولئن أشار الاتفاق الى تطبيق قوانين الاصلاح الزراعي في الشمال، وهو ما لا يُفرح قلب البارزاني، دعا الى اتخاذ "خطوات ضرورية" لتجميع الوحدات الادارية في المناطق التي يدل الاحصاء على ان الاكراد اكثرية فيها. وبالطبع كان لاحصاء كهذا ان يقطع بوجود اكثرية كردية في كركوك ومحيطها حيث آبار النفط. لكن الحكم، بدل اجراء الاستفتاء، شرع للتوّ في محاولته تعديل التركيب السكاني، ناقلاً أعداداً من العرب، لا سيما المسيحيين منهم، الى المدينة.
ورغم ارتيابه ببغداد، وجد بارزاني نفسه محمولاً على انهاء علاقاته بطهران. وإذ نص الدستور الموقّت لتموز يوليو 1970، وذلك للمرة الاولى في العراق، على ان شعب الجمهورية يتشكل من قوميتين رئيسيتين، فيما باشرت الحكومة طبع كتب مدرسية بالكردية، سُرّح بعض مقاتلي البشمركة وخُفّضت درجة تعبئة من بقي منهم. هكذا نال البعث دفعة أولى كبيرة على حساب يتلهّف إلى تقاضيه.
بيد ان الخلافات لم تكن بسيطة. فالبارزاني اختار كركوك عاصمة لمنطقة الحكم الذاتي، هي التي تكاد تعني للأكراد ما تعنيه القدس لليهود، بينما اختارت بغداد له أربيل. كذلك سمّى "الحزب الديموقراطي الكردستاني" حبيب كريم نائباً لرئيس الجمهورية، بحسب ما يقضي الدستور، ورفض البعث تسميته. أما الوزارات الخمس التي مُنحت للأكراد فكانت من طبيعة تقنية واجرائية.
ولم يكد ينتهي العام حتى جرت محاولة لاغتيال ادريس البارزاني، أحد أنجال الملا مصطفى. وفي أيار مايو 1972 تولى صدام بنفسه رئاسة اللجنة البعثية - الكردية، لكنْ بعد اقل من اربعة اشهر حاول ناظم كزار قتل الملا بطريقة جهنمية. فقد أوفد اليه ستة من رجال الدين السنة والشيعة ممن فخّخهم الأمن في غفلة عنهم. وبالفعل انفجرت بهم أدوات الموت في مجلس البارزاني الذي نجا.
ولاحقاً، حينما صُفي ناظم كزار، شاء البعث ان يدفن المسؤولية مع جثته، الا أن أعمالاً شريرة أخرى كان يستحيل ردّها اليه وحده. ففي اواخر 1971 واوائل 1972، وبذريعة الانتقام من ايران لاحتلالها الجزر الثلاث، تم ترحيل ما بين أربعين وخمسين ألفاً من ذوي الأصول الايرانية البعيدة الى ما وراء شط العرب. ولما تبين ان كثيرين من هؤلاء أكراد فيليون شيعة، اعتبر الملا مصطفى ان العمل هذا يندرج في تعديل التوازن السكاني.
وأدت المخاوف بالأكراد الى استئناف اتصالاتهم بإيران في ربيع 1972، فيما تظاهروا تقيةً بأن شيئاً لم يكن. لكن خلال شباط وآذار 1973 هُجّر عدة آلاف من اليزيديين، وبات واضحاً ان الحرارة المعلنة بين الحزبين لا تعكس واقع الحال. وفعلاً نشرت صحيفة "الثورة"، أواخر العام، مقالات ضد قيادة البارزاني وعلاقتها بايران، كما اتهمت الأكراد بالقيام بأعمال تخريبية لمنشآت عامة في الشمال. وما لبثت الطائرات أن عاودت قصفها، وهو ما راح يتوسع حتى استحال، في ربيع 1974، حرباً شاملة، فدُكّت زاخو وقلعة ديزا بقصف مركز ومديد فرّ، بنتيجته، مئات آلاف الأكراد الى المدن.
وفي الغضون هذه تأكد "الحزب الديموقراطي الكردستاني" من أن البقاء في الجبهة أضحى بلا جدوى. فالسخاء اللفظي في اتفاقية 11 آذار لم يُترجَم أصلاً سلطات فعلية. فما من موقع احتله كردي في مجلس قيادة الثورة، ولا في قيادات الجيش والأمن، ولا في وزارة النفط، ولا في وزارتي الداخلية والخارجية، بينما اقتصر دورهم على قرارات ادارية تخص منطقتهم المختلَف أصلاً على تحديدها. واذا كانوا، لفترة، قد لعبوا، أو لُعّبوا، ورقة البعث ضد الشيوعيين، وجد البعث فرصته ليلعب الشيوعيين ورقةً ضدهم. والأخيرون كانوا مستائين فعلاً من مهاجمة المسلحين الأكراد، وقد ذهب الاختراق الايراني لهم بعيداً، رفاقاً لهم في الشمال. لكن أينما هطل المطر كانت العوائد الايجابية تتجمع في احضان البعثيين.
وبإفراط استخدم "الذئاب في بغداد"، كما كان يسميهم البارزاني، علاقة الأكراد بإسرائيل التي ما كانت لتنشأ أصلاً لولا رداءة علاقتهم بالعراق، وهي ما توارثه حكامه إدارةً عن أخرى. والحال ان الاكراد العراقيين اعلنوا بطرق مليئة بالمفارقات المتاحة لهم، وبعضها بدا بالغ البشاعة، عن عراقيتهم وعن مغادرتهم أوهام كردستان الكبرى، أو إيداعها الأحلامَ المحرّمة. فالحدث السياسي الأهم الذي عاشوه بين 1946 و1958 كان استقلال "الحزب الديموقراطي الكردستاني" عن أصله الايراني. ولاحقاً عمل التحالف مع هذه القوة الاجنبية او تلك على انسحابهم التدريجي من هموم كردستان غير العراقية. ففي 1968، وقبل انقلاب البعث، أعدم البارزاني سليمان معيني الذي قاد انتفاضة للأكراد الايرانيين. وما بين 1961 و1975 قتل أو سلّم طهران ما لا يقل عن 43 ناشطا كرديا ايرانيا التجأوا الى "إخوانهم" المقيمين غرباً. واستمرت هذه السياسة لاحقاً حيال أكراد تركيا، كاشفةً عن نهج سلبي ودموي في انتسابه المتعرّج الى الوطن العراقي.
على ان الحبل راح يقترب من عنق الأكراد، وكانت اتفاقية الجزائر في 6 آذار 1975 التي ارتكبها مجرمون كثر. فالرئيس المصري أنور السادات أثّث لها بأن أوغر صدر الشاه ضد الاكراد، دافعُه الى ذلك أن صدام وعده بالتحول الكامل في سياسة بغداد نحو واشنطن. والرئيس الجزائري هواري بومدين رعاها واستضافها على هامش مؤتمر لدول الأوبيك. ومن بعيد، شارك في رسمها، منذ 1972، وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر. أما المنفذان والموقّعان وصاحبا القضية المباشران فكانا شاه إيران وصدام حسين.
وهي كانت اتفاقية مكيافيلية بامتياز: فالشاه تخلى عن دعم الاكراد، وصدام تخلى عن نصف شط العرب، فضلاً عن مطالبة البعث التاريخية بخوزستان، او عربستان، أغنى مناطق ايران بالنفط. وطبعاً كان على البعث أن يوقف كل دعم للمعارضة الايرانية بسائر تلاوينها. وفوراً أغلقت طهران التي حققت كسباً يعادل ما خسرته بغداد، الحدود مع كردستان بعدما سحبت وحداتها العسكرية منها. ولم يتكاسل الجيش العراقي فبدأ هجوما مكثفاً ترتب عليه سقوط آلاف القتلى ولجوء 200 الف كردي. ورداً على مناشداتهم تظاهر كيسنجر، المشغول آنذاك بانتكاسات جنوب شرق آسيا، بعدم السماع. وراح بارزاني يوجه الرسالة المستعجلة تلو اخرى اليه والى الرئيس فورد والسي أي آي من دون جواب. وحاول، مع شعور بالامتهان عميق، الاتصال ببغداد نفسها وطلب العودة الى التفاوض. وإذ رفض صدام، أمر الملا أكراده بوقف القتال منعاً لابادتهم. وفعلا سكتت بنادق معظم ال50 الفاً من عناصر البشماركه.
وتتالت ذيول اتفاقية الجزائر. فقد تم إفراغ منطقة يترجّح عرضها بين خمسة اميال وعشرة على امتداد الحدود المشتركة من سكانها. بعد ذاك دُمرت القرى وأعيد، بتعويضات متفاوتة تخالطها الرشوة مرةً والعقاب مرةً، إسكان أهلها في مجمّعات سكنية في ضواحي المدن. وكان لا بد من استخدام هذا السلاح للثأر من الملا مصطفى شخصياً، هو الذي قتل البعث ثلاثة من أنجاله: لقمان وعبيد الله وصابر. ففي 1976 نُقلت عشيرة البارزاني نفسها الى جنوب العراق حيث بقيت حتى 1981. وبحسب صحيفة "الثورة" في 1978 بلغ من أعيد إسكانهم، خلال شهرين اثنين من ذاك العام، 150 الف كردي.
لقد وجد صدام، من دون ان يعبأ بالتخلي عن الأرض، فرصته سانحة لتحويل الغرائز الى سياسة. وبدورهم تعلم الأكراد، على نحو لم يبلغ هذه الدرجة حتى ذاك الحين، مرارة السياسات الواقعية وتوازنات القوى في منطقة لا ترحم. فالصديق قد يكون سوفياتياً أو أميركياً أو إيرانياً، لكنه يبقى صديقاً متحولاً. أما الجبال التي يلوذون بها ويهربون اليها فوحدها الصديق الثابت.
مع هذا ما كان لهم ان يتوقعوا ان الوحشية التي سيواجههم بها نظام البعث ستحيل حروبهم مع الانظمة السابقة أشبه بألعاب أطفال. والراهن ان تولي صدام رئاسة الجمهورية واندلاع الحرب العراقية الايرانية جعلا المواجهات معهم تختلف جوهرياً عما كانته. فنوعية أدوات الفتك غير معهودة قبلاً، تماماً كما راحت أعداد القتلى تنتسب الى قياسات فلكية. وهذا انما نجم عن استكمال النظام ملامح توتاليتاريته اواخر السبعينات واوائل الثمانينات. فضحاياه ما عادوا يقتصرون على بضعة ضباط هنا وبضعة حزبيين وعائلاتهم هناك، بل غدا المطلوب التهام مجموعات إثنية وقومية بأسرها.
ولأن التوتاليتارية لا ترضى بأقل من إفناء جماعات وشعوب كان الأكراد لصدام، على فوارق النسب والارقام، ما كانه الكولاك لستالين واليهود لهتلر. فإذا مثّل الشيوعيون "الخارج" للنظام البعثي، مثّل الأكراد "الخارج المطلق"، حتى صاروا الضحايا المطلقين. وفي الحرب عليهم بدا كل شيء محللاً. فعلى أبسط المستويات استُحوذ على الرموز، فلم يبق من صلاح الدين، الكردي، الا انه من مواليد تكريت التي سُميت باسمه المحافظة التي تضمّها. وبالطبع قُدّم القائد الأيوبي بطلا للعروبة ومحرراً لفلسطين. كذلك أمست الجغرافيا، إبان الحرب العراقية - الايرانية، تهمة بذاتها، خصوصاً وقد تحالف الزعيمان الكرديان مسعود البارزاني وجلال الطالباني مع طهران الخمينية إبان الحرب تلك. ولحاكم كصدام يرى في الحروب مع الخارج جزءاً عضوياً من برنامجه المضمر، شكّل الموقع الحدودي للأكراد سببا آخر للعدوان عليهم. فبدل ان يتحكم المركز العربي بالطرف الكردي، وكل ما هو بعثي وعربي وعسكري يزكّي علاقة كهذه، اذا بالطرف الكردي يتحكم بالمركز العربي. وهذا انما يحصل في أوقات عصيبة كالتي واجهها ستالين في الحرب العالمية الثانية فحملته على تهجير شعوب واثنيات برمتها وتشريدها او اجتثاثها.
وفي اواسط الثمانينات تولى ابن عم صدام علي حسن المجيد، او "علي الكيماوي"، منصبه كقائد أعلى مطلق الصلاحيات في كردستان ليُسمّى، في 1987، أميناً عاماً للمكتب الشمالي لحزب البعث. وقد كان واضحاً، منذ البداية، ان مهمته "تأديب" الأكراد بالطريقة التي يرتئي، وما ارتآه كان رهيباً. فحتى مغادرته شمال العراق في 1989، كتب المجيد له أسوأ صفحات تاريخه منذ ان مر به الاسكندر المقدوني عام 331 ق.م في طريقه الى الهند. وكانت لمسته الخاصة إدخاله السلاح الكيماوي في تقنيات مكافحة حرب العصابات وأدواتها.
هذا لا يعني ان الأمور، قبل تولّيه، كانت في أحسن حال. فالقتل والتهجير استمرا من دون انقطاع تقريباً. ففي 1982، مثلاً، شرع النظام يهجّر سكان المناطق التي تقع خارج الشريط الامني كما حددته اتفاقية الجزائر. الا أن علي حسن المجيد، في قسوته وفي استخدامه للكيماوي، قضى على شيء اسمه القرية الكردية التي شكلت طويلا ركيزة لحضارة بكاملها، وكان لوحشيته ان طاولت عشرات آلاف السكان من دون تمييز.
وعملاً بميل بعثي، استعيرت للحملة التي بدأت تمارينها الأولى عام 1987، تسمية من قاموس التجربة الاسلامية، هي: الأنفال، أو غنائم الحرب وأسلابها. وقد جيء بها من عنوان السورة القرآنية الثامنة التي تتحدث عن انتصار 319 مسلماً في معركة بدر، عام 624، على مشركين كانوا أكثر من ثلاثة أضعافهم، وإباحة أرواح المشركين وأموالهم تالياً. ولم تخفَ الدلالة الضمنية للاستعارة، ومفادها أن الأكراد مشركون أو مطعون في إسلامهم يستحقون أي عقاب كان. وبالمعنى هذا أعلم المجيد "الجحوش"، وهم المتعاونون معه من الأكراد، أن في وسعهم سلب القطعان والماشية والنساء والسلاح ما خلا الثقيل منه الذي يعود اليه وحده. لكن الأهم كان تدشين الاسلحة الكيماوية في نيسان ابريل حيث استُخدمت، للمرة الأولى، في قرية شيخ ويسان في وادي بليسان، من دون أن يسترخي القتل والاعدام والتهجير واعادة الإسكان. فلم ينقض شهر واحد حتى دمر اكثر من 700 قرية، مُجرّباً ما لا يُجرب من تعذيب وحفر قبور. فالمجيد، بحسب ما قاله هو نفسه لبعض كوادر حزبه، يملك خطة عسكرية منهجية ضد البشمركة، تقضي بحشرهم في جيب صغير ومهاجمتهم ل15 يوما متواصلة بالسلاح الكيماوي.
وفعلاً، من لم يمت بالسيف مات بغيره. فلم تبق وسيلة من وسائل القتل الا اشتغلت، فيما كان الأكراد المحك الحي لما تزعمه عروبة البعث لنفسها من شهامة. وفي الامتحان هذا كان الفشل مريعاً.
الا أن الأنفال الرسمية لم تكن بدأت بعد. فهذا ما كان ينتظر انكشاف الضعف العسكري الايراني كيما تركّز بغداد كل جهدها على كردستان العراقية. وفي شباط 1988 اختيرت قرية ياخ سيمار، قرب السليمانية، مسرحاً للأنفال بصفتها هذه، فأُحرقت أرضها وأُحرق كل ما ومن يدبّ عليها. ولم يتدخل "الحليف" الايراني، ولم يستطع أن يتدخل. لكنه حين فعل في آذار، في بلدة حلبجة الحدودية، ردت بغداد بسلاح كيماوي مكثّف أفنى، بضربة واحدة، ما بين أربعة وخمسة آلاف، وجرح وشوّه قرابة ألف، فيما فر باقي السكان شرقاً الى الحدود. وعلى يدي صدام وابن عمه، سجّل التاريخ، للمرة الأولى، أن حكومة من الحكومات تستخدم سلاحاً من هذا النوع في قصف سكانها المدنيين. وتحولت حلبجة رمزاً وواحداً من نُصب الألم الكردي والانساني.
فعندما أوقفت طهران اطلاق النار في تموز، شرعت تذوي المقاومة وتظهر الأرقام من تحت الأرض المحروقة. وحسب تقديرات الاكراد، بلغ مجموع ضحايا الانفال 182 الف شخص، فيما اعترف المجيد، بقرف وضجر، بمئة ألف، معطوفين على تدمير حوالى 80 في المئة من مجموع القرى، في عدادها يقع معظم الأراضي الزراعية.
ولم تكن الأنفال وحلبجة خاتمة الأحزان الكردية.
فبعد تحرير الكويت شرع مئات آلاف الأكراد، وكما لو أن سجنهم قد انهدم، يتوافدون على بيوتهم وقراهم التي أجلتهم برامج إعادة الإسكان عنها. وكان مما عزز فكرة انهدام السجن ذاك النداء الذي وجهه الى العراقيين الرئيس الأميركي جورج بوش، في 15 شباط 1991، بأن ينتفضوا. وفعلاً انتفض الأكراد في الشمال بعدما انتفض الشيعة في الجنوب. ولم يتصرف المنتفضون، بالطبع، تصرف الملائكة، فانساقوا وراء مراراتهم وقهرهم وألمهم المديد منفّذين، بقسوة وحشية، ما لا تستطيع الوطنية الكردية ان تفاخر به. وكانت أعمال إعدام وتعذيب طالت كل من وقع تحت يدهم وكان موظفا او عاملا في الادارة او الشرطة او الجيش او الحزب الحاكم. واستفحل الانتقام وشاع طقسه في موازاة انتصارات عسكرية جعل يحققها البشماركة مستعيدين السليمانية وأربيل ودهوك. لا بل حُررت كركوك نفسها ووُضعت، للمرة الأولى منذ سبعة عقود، في عهدة الأكراد. وفي 24 آذار أحكموا سيطرتهم على معظم كردستان العراقية، لكن دبابات صدام كانت آنذاك مشغولة بقمع انتفاضة الجنوب. وإذ صمتت الولايات المتحدة وتخلت عمن استجابوا مناشدتها، تقدم الجيش شمالاً فاستعاد كركوك التي لطالما تموّلت بنفطها آلة الحرب على الأكراد، ومن بعدها استولى على السليمانية التي سقطت في 3 نيسان. وأمام هجوم صدام فر مليون كردي الى إيران وربع مليون الى تركيا. وجاءت هذه المأساة الأخيرة تتويجاً لتاريخ من خيانات الأصدقاء المتحوّلين، لكنها جاءت أيضاً عنصراً ضاغطاً لإقامة "منطقة آمنة" يحتمي بها الأكراد من صدام. وهم، بالطبع، يحتاجون ذلك ويستحقونه. فهؤلاء الذين جعلتهم لغتهم وإثنيتهم وموقعهم الجغرافي ضحايا من الدرجة الأولى، "هم الذين يستحمّون بالدم" كلما "تحرك العرب أو الأتراك"، على ما كتب أحمدي خاني، صاحب ملحمة "ميم وزين"، أهم نتاجات الأدب الكردي.
أما الحمّام الدموي الذي هيّأه لهم صدام، ولم يُقيّض لشاعر عاش في القرن السابع عشر أن يراه، فكان بذاته ملحمةً من نوع لا وجوب بعده للشعر.
* الحلقة الثامنة الثلثاء المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.