اعتدنا كعرب مطلع كل سنة جديدة أن نبدأ بالتفاتة إلى الوراء لنرى ما حدث لنا، ونتبعها بالتفاتة إلى الأمام لنستطلع المستقبل، ثم ننسى ما توصّلنا إليه من ملاحظات واستنتاجات ونعود لنسلّم أنفسنا لمشيئة التيارات التي تتقاذفنا من دون رحمة في مختلف الاتجاهات. ربما يمكننا القول في مطلع العام الجديد إن السنة الماضية كانت بين أسوأ ما عرف العرب في تاريخهم الحديث. إذ تفتحت جروح قديمة ترفض أن تندمل وأخرى جديدة لم نكن نتوقّعها. هناك الجرح الفلسطيني الذي ذهب عميقاً في الجسد والروح. وهناك الجرح العراقي الذي تصرّ الإدارة الأميركية على فتحه وهو ما يزال ينزف منذ ما يزيد على عقد من الزمن. وما نشهده حين التأمل في واقعنا الحاليّ هو أننا نعيش في ظلّ غيوم سود تملأ مساحات شاسعة من دون أمل بتحسن أوضاعنا في المستقبل القريب. إننا نعايش عواصف تمتحن النفس والقدرة على التحمّل مهما استنبطنا من وسائل جديدة في التعامل مع واقعنا. لقد أجّل الرئيس جورج بوش بناء على رغبة رئيس وزراء إسرائيل آرييل شارون موضوع المسألة الفلسطينية لينصرف إلى معالجة المسألة العراقية على رغم ما بين المسألتين من تلازم عضويّ. وبهذا أخذ العرب يتساءلون كغيرهم هل ستشنّ أميركا الحرب على العراق وهو المثقل بجراحه، أم تراها تلجأ إلى التهديد والتعبئة العسكرية كوسيلة ضغط وترهيب علّه يخضع لمطالبها متجنّباً خوض حرب قد تكلّفه غالياً؟ وإذا كان الاحتمال الأخير وارداً في البداية فقد تستعيد الإدارة الأميركية النظر باستراتيجيتها طالما أنها سبق أن أرسلت قواتها وعتادها إلى ساحة المعركة ورضيت بعض الدول العربية بتزويدها القواعد الضرورية على طبق من فضة. ومهما كانت الاحتمالات فإن المراقبين يميلون للاعتقاد بأنه من الأرجح أن تشنّ أميركا الحرب بموافقة مجلس الأمن أو من دون موافقته وإن تعاون العراق في عملية التفتيش أم لم يتعاون، ومهما كانت مواقف الدول العربية التي عطّلت إرادةَ شعوبها فأصابها الضعف في الصميم من حيث لا تدري. وفي سبيل إعطاء صورة شاملة لهذا الوضع المعتم والنظر في مسبّباته ونتائجه، أرى أن من المفيد التركيز على ثلاثة أمور جوهرية: 1 طبيعة التحوّل في المجتمع الأميركي من جمهورية ديموقراطية إلى إمبراطورية تهيمن على العالم في خدمة شركاتها الكبرى، 2 اعتماد لغة الحرب بدلاً من لغة السلم في كل من أميركا كقوة عالمية وإسرائيل كقوة إقليمية، 3 رضوخ بعض البلدان العربية مسبقاً لدرجة القبول بالتعاون مع أميركا ومدّها بالقواعد الضرورية في شنّ حربها على العراق. أركّز اهتمامي في الجزء الأول من هذه المقالة على مسألة تحوّل أميركا من جمهورية ديموقراطية إلى إمبراطورية تسعى إلى السيطرة على العالم اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. ليستْ هذه تهمة تُوجّه لأميركا من الخارج، إذ بدأ يتبلور داخل الثقافة السياسية الأميركية نفسها تيار فكري نقدي يتهمها بالتحوّل من جمهورية ديموقراطية تناصر حق الشعوب بتقرير مصيرها إلى إمبراطورية تعتمد استعمال القوة العسكرية في سبيل السيطرة على العالم بدلاً من الديبلوماسية القائمة على التعاون والاحترام المتبادل لتأمين المصالح المشتركة وحلّ المشكلات المستعصية حلاً عادلاً وسلمياً. ما طبيعة تحوّل أميركا من جمهورية ديموقراطية تؤمن بحرية تقرير المصير في علاقتها مع الشعوب الأخرى إلى قوة جبارة تفرض هيمنتها على العالم بإلغاء حدود السيادة المتعارف عليها؟ هذا سؤال طرحه عددٌ من المفكرين الأميركيين على أنفسهم من موقع نقدي في محاولة شبه يائسة للتنبيه إلى مخاطر هذا النهج الذي تعتمده الإدارة الأميركية الحالية في شكل خاص، وفي محاولة جادة لفهم أسباب "الكره" لأميركا في أنحاء العالم بما فيه أوروبا وكندا وأميركا اللاتينية. وللتعريف ببعض جوانب هذا التيار الفكري في الثقافة السياسية الأميركية، أكتفي بالإشارة إلى ما صدر حديثاً من دراسات جادة في هذا المجال. إذ صدر منذ سنتين عن دار نشر جامعة هارفرد كتاب بعنوان "الإمبراطورية" Empire لمايكل هاردت وأنتونيو نيغري تناولا فيه تركيب النظام العالمي في الوقت الحاضر وتبدّل مفاهيم السيادة ونشوء قوى مضادة للإمبراطورية المسيطرة واحتمالات تقهقر الأمبراطورية وسقوطها. ومن خلال ذلك نتبيّن انهيار مفاهيم سيادة الشعوب على مصيرها في ظلّ نشوء سيادة القوة التي تتحكّم بالعالم من خلال عولمة لا تقبل حدوداً. اتخذت السيادة مفهوماً جديداً يتعدّى الحدود ويتمثّل بقيام نظام عالمي واحد يخضع لمنطق واحد للحكم. في ظلّ هذا النظام العالمي تفقد الشعوب والأمم حقوقها بالسيادة على مواردها ومقدراتها وبتقرير مصيرها، وهذا ما سماه المؤلفان "الإمبراطورية". أما مركز السلطة النهائية التي تدير العولمة والنظام العالمي فهو الولاياتالمتحدة منفردة. فإذا كان القرن التاسع عشر هو القرن البريطاني والحداثة هي أوروبية ، فالقرن العشرون هو قرن أميركا وما بعد الحداثة هو عصر أميركي. وصدر عام 2002 كتاب بعنوان Globalization And Its Discontents لمؤلفه جوزف ستيغليتز الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001 يُظهر فيه من خلال تجاربه الشخصية في البيت الأبيض والبنك الدولي أن مؤسسات العولمة الكبرى فشلت في تحسين أحوال البلدان التي كان من المفترض أن تساعدها في تحسين أحوالها والنهوض بشعوبها. وتوّصل المؤلف إلى هذه النتيجة في محاولة منه ليس للتخفيف من هذه العولمة بل لجعلها أكثر إنسانية ولتجنّب حصول تصادم بين الشعوب الغنية والشعوب الفقيرة بسبب سوء السياسات المتبعة من مؤسسات العولمة مما كان له مضار كبرى على شعوب العالم الثالث التي تعاني من الفقر. وما يراه مؤلف هذا الكتاب أنه أصبح من الضروري لتجاوز هذه الأزمة العالمية حصول نقاش عام يتعدى المجالس الرسمية المعنية بمصالحها الضيقة ومنظورها الأيديولوجي اليميني المتطرف. كذلك صدر أخيراً كتاب آخر بعنوان "في ظل ّ النسر" The Eagle's Shadow وضعه مارك هرتسغراد يبحث فيه كيف ينظر سكان العالم إلى أميركا والمشاعر المتناقضة التي يحملونها إليها من حسد وإعجاب من ناحية وغضب وكره من ناحية أخرى. وفي هذا السياق يتحدث عن عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء والنفاق الذي تمارسه الإدارة الأميركية بدعمها الحكام المستبدين طالما يخدمون مصالحها في وقت تعطي الناس دروساً في القيم الديموقراطية. وتوصّل المؤلف إلى أن الإعلام الأميركي الذي يفخر بحرية الرأي هو في الواقع أقرب ما يكون إلى جزء رسمي من الحكومة، وشبّه القصف الأميركي لمدينة درسدن الالمانية في الحرب العالمية الثانية بأنه عمل إرهابي لا يختلف عن هجوم 11 أيلول سبتمبر بمعنى أن كلاهما قصد تحقيق أهداف عسكرية وسياسية بقتل عدد كبير من المدنيين. وبين أفضل ما كتب أخيراً في الصحافة الأميركية مقالة نشرتها "نيويورك تايمز ماغازين" 6/1/2003 بعنوان "الإمبراطورية الأميركية" كتبها مايكل إيغناتيف مدير مركز الأبحاث في كلية كندي للشؤون السياسية في جامعة هارفرد، رأى فيها أن الولاياتالمتحدة هي الوحيدة التي تلعب دور الشرطي العالمي وتنشر ما يزيد على مليون جندي في القارات الأربع وأساطيل تمخر المحيطات لرصد كل ما يحدث، وتسيطر على التجارة العالمية، وتضمن البقاء لبلدان من إسرائيل إلى كوريا الجنوبية، وتملأ قلوب أهل الأرض وعقولهم بالأحلام والرغبات. وحين تتناقض مصالحها واستقرارها مع انتشار الديموقراطية في العالم تعمل على تقويض هذه الديموقراطية كما فعلت حين قامت بانقلاب ضد مصدّق المنتخب ديموقراطياً في إيران وضد ألليندي في تشيلي. ويضيف هذا المؤلف أنه ليس من الغريب في هذه الحال أن تنشغل أميركا بشنّ حرب على العراق فيما تصرف النظر عن الدبابات والمروحيات الإسرائيلية التي تشنّ حرباً ضد المدنيين الفلسطينيين مما يعطّل التوصّل إلى تسوية سلمية ويؤججّ نار الغضب الإسلامي ضد الولاياتالمتحدة ومصالحها في الشرق الأوسط. وحين تفصل أميركا بين المسألة العراقية والمسألة الفلسطينية فإنها بذلك قد تحقّق انتصاراً في العراق ولكنها ستعزّز من احتمالات تزايد خلايا الإرهاب في العالم الإسلامي قاطبة. ويؤكدّ إيغناتيف أيضاً أن أميركا إن لم تتكوّن لها الإرادة في التوصّل إلى تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، لن يكون لها أو لإسرائيل مأمن من الإرهاب وأن نجاح الاستراتيجية الأميركية في مكافحة الإرهاب يتوقّف على ضمان السلم الكافي لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين. وإذا جرى فصل بين المسألة العراقية والمسألة الفلسطينية، فإن أي انتصار تحقّقه أميركا في العراق يعني مزيداً من خلايا الإرهاب في العالم الإسلامي. ومما يزيد من تعقيدات أميركا في علاقاتها مع العالم ويجعلها تتصرّف كإمبراطورية لا كجمهورية ديموقراطية أن وجودها في الخارج هو وجود عسكري أكثر مما هو وجود ديبلوماسي سياسي اقتصادي ثقافي، والكلمة الأولى هي للبنتاغون وللعسكر أكثر مما هي لوزارة الخارجية والخبراء في الشؤون السياسية. ومن المعروف أن البنتاغون مشغول في الدرجة الأولى بالحصول على أعلى نسبة ممكنة من الموازنة الأميركية على حساب العدالة الاجتماعية والقضايا الإنسانية والثقافية ومكافحة تلوث البئية داخل أميركا أو خارجها. ولذلك ليس غريباً أن تنشر "نيويوك تايمز" 7/1/2003 إعلاناً من عدد من الأفراد والجمعيات المدنية المعنية بالأمن الاجتماعي تذكّر الإدارة والشعب الأميركي أن في أميركا ما يزيد على 41 مليوناً من دون ضمان صحي، وكان عددهم قبل عقد نحو 35 مليوناً، وأن 33 مليوناً يعيشون في حال من الفقر، وأن 13 مليون طفل في الولاياتالمتحدة لا ينالون ما يكفي من الطعام، وأن الموازنة تعاني من عجز مالي بلغ 159 بليون دولار وأن ثلاثة ملايين أميركي ثلثهم من الأطفال يعيشون من دون مأوى، وأن 133 مليوناً يقيمون في مناطق تعاني من تلوث الهواء، وأن ألف شخص اعتقلوا سراً في السجون الأميركية مما يهدّد الحريات المدنية. ولكل هذه الأسباب وغيرها يدعو الإعلان إلى التوظيف في السلم لا في الحرب. ثم إن صوتاً واحداً في الكونغرس الأميركي تجرأ في سياق مناقشة مسألة العراق على القول إن 35 في المئة من الجنود الذين أرسلوا إلى مناطق القتال هم من الأقليات فيما لا تزيد نسبتهم في المجتمع على 11 في المئة من مجموع السكان، وليقتل الفقراء الفقراء، فيما ينعم الأغنياء بثروات المجتمع والرفاهية التي لا حدود لها. وليست هذه ظواهر نادرة واستثنائية، فلا نستغرب مثلاً في هذه الحال أن تنفق أميركا شهرياً في أفغانستان بليون دولار في المجالات العسكرية في مقابل 25 مليون دولار فقط في مجال إعادة البناء وتقديم المساعدات الضرورية للمنكوبين من الشعب الأفغاني. كذلك لا نستغرب أن بوش ألغى زيارته إلى أفريقيا لينصرف للإعداد للحرب ضد العراق المتعب بجراحه. إن ما تمارسه الإمبراطورية ليس الديبلوماسية بل الحروب في خدمة مصالحها على حساب الشعوب الأخرى. * عالم اجتماع وروائي مقيم في واشنطن.