جرت لأشهر عدة حملات انتخابية في أميركا تجنّب فيها المرشحون عمداً إثارة موضوع الفجوات المتزايدة بين الأغنياء والفقراء. وتم ذلك في زمن العولمة التي نلحظ ان بين أهم نتائجها تعمّق الانقسامات الطبقية. للعولمة مسارحها ومسرحياتها وممثلوها وهواتها وانصارها ورموزها ووكالاتها المتمثلة بالبنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية وعلاقاتها العامة التي تقدّم لنا صوراً باهرة لانجازاتها متجاهلة جوانبها المظلمة. ومرة أخرى نُصدم بفجوة عميقة بين المسرح والواقع الحياتي، بين ما يجري على المسرح الأمامي وما يحدث فعلاً وراء الكواليس، بين الوعود والحقائق. في هذا المناخ ناقش قادة العالم في قمة الأممالمتحدة الألفية مسائل مجابهة الفقر والعنف. وهذا ما نوّه به جمعٌ حاشد من مختلف قادة الاديان. ومع ذلك يرفض المرشحون في انتخابات رئاسة الولاياتالمتحدة الخوض في مسألة التفاوت الطبقي ويعتبرونه موضوعاً شديد الحساسية. يقال ان الحدود تزول بين الأمم، وان فرص التقدم متاحة للجميع من دون تمييز، وان الانجازات التكنولوجية الحديثة ستتمكّن خلال وقت قصير من تحقيق ما لم يكن بإمكان الشعوب تحقيقه خلال عصور تاريخها الطويل. بل يقال، اضافة الى كل ذلك، ان العولمة حتمية كقانون الجاذبية لا يمكن مقاومتها أو مناقشتها. فلا بد في هذه الحال من الانصياع والاعتراف بنهاية التاريخ والصراع. وحين ترفض المجتمعات الضعيفة الانصياع تُهدَّد بالحصار. تلك هي طبيعة العلاقات الأخطبوطية التي تسود عصرنا داخل كل مجتمع وبين المجتمعات. صدر عن البنك الدولي حديثاً تقريرٌ مفصَّل حول الفقر في زمن العولمة يفيدنا بأن عدداً من البلدان تمكّن ان يقلّل من الفقر" فالصين، مثلاً، شهدت نمواً اقتصادياً منذ عام 1980 بمعدل عشرة في المئة سنوياً. وقد عرّف هذا التقرير الفقر بأنه العيش بدولار واحد أو أقل في اليوم، وتوصّل الى ان هناك حسب هذا المقياس بليوناً وخُمس البليون من الناس الفقراء في العالم. ويضيف التقرير ان النسبة المئوية للناس الذين يعيشون في حال الفقر هذه انخفضت في شرق آسيا بما فيها الصين خلال عقد من الزمن بين عامي 1987 و 1998 من 27 في المئة الى 15 في المئة، وفي جنوب آسيا الهند وباكستان من 45 في المئة الى 40 في المئة، وبقي على حاله في افريقيا جنوب الصحراء من 47 في المئة الى 46 في المئة وفي أميركا اللاتينية بين 15 في المئة و16 في المئة. ولكننا نعرف ان ثلاثة أرباع سكان قرى الهند البالغ عددهم بليون شخص لا تزال تكافح للحصول على الضروريات الأساسية، وان 300 مليون هندي يعيشون في حال فقر مطلقة. قد يبدو من خلال الاحصاءات التي قدّمها هذا التقرير ان الوضع تحسّن قليلاً، ولكنه في واقع الأمر صرف النظر عن بعض جوانب تزايد الفجوات بين الاغنياء والفقراء. نعرف ان عدد الفقراء ازداد فعلاً في الهند وباكستان بحوالى خمسين مليون فقير بسبب النمو السكاني. ربما انخفضت النسبة المئوية قليلاً جداً او بقيت على حالها، ولكن عدد الفقراء في تزايد، وكذلك سعة الفجوات بين الأغنياء والفقراء. لم يصل النمو الاقتصادي الى الفقراء، بل زاد من ثراء الاثرياء بسبب جشع الشركات الكبرى وفساد النخب الاقتصادية والسياسية. اثناء انعقاد قمة الألفية في الاممالمتحدة قال رئيس وزراء إرلندا ان نصف سكان العالم يكافحون بأقل من دولارين في اليوم، وان ما يزيد على نصف بليون يعيشون بأقل من دولار واحد. هذا هو الوجه المظلم في نظام العولمة، فيما يحاول كثيرون ابراز الوجه المضيء فحسب. لذلك قال رئيس وزراء كندا: "يجب ان نقتسم منافع العولمة ونعطيها وجهاً وغاية انسانية كي تصبح إيجابية". ولكن مثل هذا الكلام لا يخدع رئيس زيمبابوي روبرت موغابي الذي قال: "إذا كانت الألفية الجديدة ستستمر كما كانت في عصر الأمبراطوريات المهيمنة باستعمال التكنولوجيا الحديثة كما استعملت الوسائل الأخرى في السابق لفرض اقتصاد الأسياد فعلينا عندئذ ان نقف على اقدامنا ونقول: ليس مرة أخرى". كي يصبح المصير العالمي مسؤولية مشتركة ومنافع متبادلة، لا بد من ان يرتكز إلى قيم الانصاف والمساواة والعدالة والتسامح واحترام البيئة والتضامن، وليس إلى قيم حرية السوق فحسب. لكن العالم الحالي غابة لا تعترف بغير قيم السوق الحرة. وكثيراً ما تضع الدول الصناعية الكبرى الملح على الجرح حين تحاضر من أعلى منابرها على ان ثقافات الشعوب الأخرى هي المسؤولة لأنها لا تحارب الفساد. ويتضمن هذا فرضية خاطئة هي ان الفساد يقتصر على البلدان المتخلّفة دون البلدان الصناعية حيث يتخذ اشكالاً مختلفة خفية وملتوية. في الوقت الذي يتم التأكيد على زوال الحدود ومفاهيم السيادة، تتعمق الفجوات بين الشعوب الفقيرة والشعوب الغنية وبين الطبقات والجماعات ضمن كل مجتمع، بما فيها المجتمعات الصناعية الكبرى وفي طليعتها الولاياتالمتحدة. وفي الوقت الذي يمجّد نظام العولمة الحرية على انها المنقذ الوحيد من أهوال الزمن ونكباته، يعتبر انه من التخلف السياسي ان نثير قضية العدالة والانصاف ومسألة حق السيادة والتمسك بالهوية الثقافية المتميزة. وتقلّل العولمة من أهمية التميُّز والخصوصية الثقافية، وتشدّد بدلاً من ذلك على القيم العالمية رغبة منها بفرض ثقافتها على الثقافات الأخرى. ولكننا نعرف من ناحية أخرى ان نظام العولمة الجديد شُيّد على مرتكزات التمييز بين الشمال والجنوب أو بين الدول الصناعية السبع الكبرى وبقية الدول الصغرى مهما بلغ حجمها السكاني والجغرافي، فهي من هذا المنظور الحتمي تعتبر متخلفة عن الركب الحضاري ولا يمكنها ان تتقدّم الا بالتعاون مع أسياد الكون. وبقدر ما تقلّل الدول الكبرى من أهمية مفاهيم السيادة الوطنية والثقافية لدى الشعوب الضعيفة، نجد انها تؤكّد على ضرورة المحافظة على حدودها هي ومصالحها وسيادتها وتفوقها القومي والحضاري وترفض البحث في مسألة الفقر. ان فجوات عميقة تزداد رسوخاً بين الخطاب المسرحي وما يجري في واقع الحياة وراء الكواليس، إن في اجتماعات قمة الألفية في اروقة الأممالمتحدة او الحملات الانتخابية او في ملاعب الأولمبياد في سيدني حيث يقول لنا هذا الخطاب بضرورة المصالحة والوحدة والانسجام بين الشعوب، في الوقت الذي يرفض رئيس وزراء استراليا ان يعتذر عن المظالم التي ارتكبت بحق شعب البلاد الأصلي. وما ان تنتهي الاحتفالات حتى تظهر الحقائق كما هي في الواقع المرير. أميركا حتى الآن لم تعتذر عن ابادة سكانها الأصليين على أيدي المؤمنين الهاربين من المذابح الدينية في أوروبا. ولكي يتمتع المهاجرون من أوروبا بحرياتهم كان لا بدّ لهم من سلب السكان الأصليين حرياتهم. وما تم في استراليا وأميركا يتم في فلسطين على أيدي الصهيونية التي تشكو من المظالم التاريخية التي ارتكبتْ بحق اليهود وتطالب بالتعويض المادي، فيما هي ترتكب ظلماً فادحاً ضد الفلسطينيين، ولا يبدو انها وصلت بعد الى قناعة بمصالحة تاريخية تتطلب منها تقديم تنازلات عن بعض مكاسبها نتيجة لاحتلالات عسكرية لا تقرها المواثيق الدولية. ان فجوة كبيرة تزداد اتساعاً بين أمم العالم باشراف منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والشركات الكبرى، التي أصبح بعضها يفوق ثراءً بلداناً وشعوباً بأسرها. بل هناك أفراد تفوق ثرواتهم ثراء بلدان بأكملها. إن بليون وثلث البليون من مجموع سكان العالم أي ما يزيد على خمس البشرية ما زال يعيش على أقل من دولار واحد في اليوم، ولا تتوافر المياه الآمنة لما يزيد على نصف البشر. وفيما يتزايد الاثرياء الذين يتمتعون بأرفه ما يقدمه الاقتصاد العالمي، يزداد عدد الفقراء الذين يعيشون على حافة البقاء. يخسر فقراء العالم يومياً معركة تجاوز فقرهم. وفي الوقت الذي تهيمن أميركا على الأممالمتحدة وتستعملها أداة في السيطرة على الشعوب الأخرى، نجد انها لا تزال تقاوم دفع رسوم عضويتها في هذه المؤسسة العالمية! اقتصاد العولمة وجهاً انسانياً، وهناك قوى لا تزال تقاوم برامج العدالة الاجتماعية وتسيء بجشعها الذي لا حد له الى البيئة داخل وطنها وخارجه. ترتكز سياسة أميركا إلى مبادىء حرية السوق على حساب العدالة الاجتماعية حتى ضمن مجتمعها بالذات. ولذلك تتعمّق الفجوات بين أغنيائها وفقرائها نتيجة للازدهار الاقتصادي في العقد الأخير. لقد ازدادت خلال هذه الفترة الزمنية مداخيل الأغنياء في المجتمع الأميركي بشكل فاحش، حتى ان مداخيل المدراء التنفيذيين في الشركات لعام 1998 بلغت 419 ضعفاً مداخيل العمال. ومع هذا يطالب الحزب الجمهوري بتخفيض الضرائب عن الاغنياء والشركات الكبرى! وفي الوقت الذي يرفض الخطاب السياسي الأميركي إثارة موضوع الفوارق الطبقية باعتباره موضوعاً حساساً، ازدادت في أميركا حصة "الخُمس الأعلى" لأصحاب المداخيل من 44 في المئة من الدخل القومي عام 1977 الى 50 في المئة عام 999، إذ ارتفع معدل دخلهم السنوي من 75 ألف دولار الى 102 ألف دولار خلال هذه الفترة. مقابل هذا، انخفضت حصة "الخمس الأدنى" لأصحاب المداخيل من 7،5 في المئة الى 2،4 في المئة من الدخل القومي إذ انخفض معدل دخلهم السنوي من حوالى 10 آلاف دولار عام 1977 الى أقل من 9 آلاف دولار عام 1999. إن مداخيل "أغنى واحد في المئة" من الأميركيين يوازي مداخيل المئة مليون أميركي في أسفل الهرم الاقتصادي. وازداد معدل الدخل السنوي لدى أغنى "واحد في المئة" هؤلاء من حوالى ربع مليون الى ما يزيد على نصف مليون، أي بزيادة بلغت 120 في المئة "نيويورك تايمز" في 5/9/1999. وتعيش 19 مليون عائلة أميركية او 46 مليون أميركي، اي 17 في المئة من مجمل السكان تحت ما يسمّى خط الفقر. لا يستفيد الذين يجدون أنفسهم في ادنى السلم الاقتصادي من الازدهار الاقتصادي الذي تتمتع به الولاياتالمتحدة خلال العقدين الأخيرين. وتدرك القيادات السياسية والاقتصادية، كما يُستدل من الاحصاءات الرسمية والخاصة، ان معدل دخل خُمس السكان في أسفل السلم الاقتصادي انخفض 5 في المئة بين السبعينات والنصف الثاني من التسعينات، بينما ارتفع معدل دخل الخُمس الأعلى من السكان 33 في المئة خلال هذه المدة. وقد تعترف هذه القيادات بوجود ازمة اجتماعية بسبب عمق الفجوات بين الطبقات، ولكنها لا ترى في ذلك مشكلة اقتصادية تستدعي اهتمامها. وتتعمّق الفجوات خصوصاً في المدن الكبرى، فنجد ان معدل دخل الخُمس الأدنى من سكان مدينة نيويورك انخفض حوالى 21 في المئة بين السبيعنات والتسعينات، بينما ارتفع عند الخُمس الأغنى حوالى 43 في المئة في الفترة ذاتها. كذلك انخفض معدل دخل الشريحة السفلى من الطبقة الوسطى أي العشرين في المئة الثانية 4 في المئة بينما ارتفع معدل دخل الأغنى 5 في المئة من سكان نيويورك 67 في المئة خلال هذه الفترة "نيويورك تايمز" في 19/1/2000. والسر وراء كل ذلك ان الاقتصاد الأميركي يكافىء اصحاب رؤوس الأموال لا الأيدي العاملة. وفي ما يتعلق بالطبقة الوسطى فإن ديونها تزداد بسبب طموحاتها الاستهلاكية. تدل هذه التطورات واتساع الفجوات ان السياسة المتبعة في الولاياتالمتحدة تُعنى بالنمو الاقتصادي بحد ذاته لا بالفروقات الطبقية ومسألة غياب المساواة والعدالة الاجتماعية. ان قيم السوق هي التي تسود الفلسفة الاقتصادية وليس قيم المساواة والعدالة الاجتماعية. وبهذا تحوّلت الحرب من حرب ضد الفقر، كما كانت تقول شعارات الحكم في الستينات، الى حرب ضد الفقراء أنفسهم داخل الولاياتالمتحدة وخارجها في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. وهذا هو شأن البلدان الأخرى المندمجة في نظام اقتصاد العولمة، حيث يصبح الأثرياء أيضاً أكثر ثراء والفقراء أكثر فقراً، خصوصاً في تلك التي تهيمن فيها قيم السوق الحرة على حساب العدالة الاجتماعية هيمنة تامة. لذلك اتسعت في العقد الأخير فجوة الدخل في أميركا اللاتينية بين الأغنى 10 في المئة والأفقر 10 في المئة من السكان. ومثلاً على ذلك كانت نسبة دخل الفئة الأولى في الارجنتين 15 ضعف الفئة الثانية عام 1990، وارتفعت هذه النسبة الى 25 ضعفاً عام 1998. وفي فنزويلا ارتفعت هذه النسبة من 24 ضعفاً عام 1995 الى 34 ضعفاً عام 1997. وتدل الاحصاءات الرسمية في البرازيل ان أفقر 10 في المئة من السكان يحصلون على واحد في المئة من الدخل القومي، بينما يحصل أغنى 10 في المئة على نصفه. وفي افريقيا، حسب تقرير التنمية البشرية لعام 1998، نجد ان معدل الاستهلاك العائلي تدنى 20 في المئة عما كان عليه قبل 25 عاماً. وعربياً، كتبت احدى يوميات صحيفة "نيويورك تايمز" في مطلع هذه السنة ان الفلاحين المصريين الحفاة ما زالوا في زمن العولمة يحرثون مزارعهم بالأدوات نفسها التي كان يستعملها أجدادهم في زمن الفراعنة، فيما تتنافس النخب الاقتصادية في استعمال وسائل التكنولوجيا الحديثة في محاولة جامحة للاستفادة من ثمرات السوق الحرة "نيويورك تايمز" في 28/1/2000. هنا أيضاً تهتم النخبة بالنمو الاقتصادي وتتغافل عن الأزمات الاجتماعية المتفاقمة، على رغم ان الفجوات بين الفقراء والأغنياء أوسع مما هي عليه في البلدان الصناعية الكبرى. هل يعني كل ذلك ان النخبة في ظل العولمة تتحوّل الى كائنات اقتصادية على حساب الإنسانية الاجتماعية؟ وهل نحن، بالتالي، نعيش نكبة اجتماعية وثقافية بالإضافة الى النكبة السياسية؟ ثم هل تنجح التنمية، اقتصادية كانت او بشرية، حيث لا تسيطر البلدان على مواردها؟ ربما تكتسب هذه الأسئلة وغيرها أهمية حين ينبئنا العلماء بأن سكان العالم سيبلغ عددهم في منتصف القرن الواحد والعشرين 9 بلايين ونصف بليون يعيش 8 بلايين بشري منهم في البلدان الفقيرة. * كاتب واستاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن