تضيق المسافة حول الفلسطينيين حتى الإختناق، والحرب التي تشنّ عليهم ليست حرباً إسرائيلية فحسب بل أميركية أيضاً. ليس مجرد الصمت الأميركي تجاه المآساة الفلسطينية هو المشكلة الأساسية، ولا حتى إزدواجية المعايير في التعامل مع هذه المسألة المزمنة. إن الحرب التي تشنّ على الفلسطينيين هي حرب أميركية أيضاً بمختلف جوانبها الإستراتيجية. هناك الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل من دون تحفظ أو خطوط حمر. الحماية أميركية، المال أميركي، والسلاح أميركي. تعززّ كل ذلك في زمن إستراتيجية الحرب على الإرهاب. إختلطت الأمور في زمن الرعب المتبادل ولم يعد معروفاً في الخطاب السياسي المتداول مَنْ المعتدي ومَنْ الضحية ومَنْ البريء ومَنْ المعتدي. على الأقل، هذا ما يمكن إستنتاجه من وسائل الإعلام الأميركية بالمقارنة مع وسائل الإعلام العربية. ويبدو في حقيقة الأمر أن الأقوياء معنيون بتأمين مصالحهم وترسيخ أمنهم من دون إعتبار لحقوق الآخرين، وأصبح الضعفاء من منظور مقابل مهدَّدون في صميم مصيرهم ولم يعد أمامهم من خيار سوى الإستسلام أو المقاومة بالوسائل المحدودة المتاحة لهم. هذا هو الترهيب بعينه. إنه زمن الإرهاب المتبادل من دون تكافوء، غير أن الضعفاء لم تعد لهم القدرة على تحمّل كل هذا الظلم الذي لا حدود له وبمختلف أشكاله. تضيق المسافة حولهم حتى لم يعد هناك مجال للتحرك، كما يضيق الوقت وليس من مجال للمراجعة والتأمل في البدائل المطروحة. ما يُسمّى عمليات إرهابية فلسطينية ليس سوى إنتفاضة الجسد الذي تمنع عنه الحياة. إنها ردة فعل لإرهاب شامل يستهدف الانسان والمأوى والطعام والكرامة والحقوق والحريات. الأقوياء يملكون كل وسائل الدمار ولا يتردّدون في إستعمالها في سبيل تأمين أهدافهم ومصالحم على حساب الاخرين، ويرفض الضعفاء من ناحية أخرى أن يتقبّلوا كل هذه الهيمنة على حياتهم وهذا الإذلال والاعتداء على كرامتهم وهذا الإصرار على تجريدهم من حقوقهم وإنسانيتهم. وإذا كان الترهيب هو وسيلة الهيمنة لدى الأقوياء، فليس من الغريب أن يصبح متبادلاً مهما بلغ عدم التكافؤ. هكذا ينتفض الجسد الذي فقد مسافة التحرك وغطاء الحماية من المخاطر التي تحاصره براً جواً بحراً. من المحزن أن يكون هذا هو المنطق الذي يتحكّم بالعالم والعلاقات بين الشعوب، وليس من قوة أو مؤسسة دولية تفصل بين الطرفين. ولم يكن لهذا المنطق أن يسود من دون الهيمنة الأميركية الكلية. ومن هذا المنظور أرى بعض التشابه بين الحرب الإسرائيلية - الفلسطينية والحرب في أفغانستان. هناك في الحالين طرف قوي، غني، متقدِّم آلياً، ظالم لا يحسب أي حساب الا لأمنه ومصالحه وإستجابة لرغبته الجامحة في الهيمنة، وطرف ضعيف، فقير، متخلِّف يحتمي ضمن صدفته بلا فائدة، فهو معرض للهلاك سلك طريق السلم أم طريق المقاومة. برجاء، وإنما بعنفوان، يقول صوت فلسطيني إن المشكلة هي في الاحتلال ولن تستطيع إسرائيل أن تنعم بالأمن حتى ينتهي هذا الإحتلال الذي دام خمساً وثلاثين سنة. وما كانت إسرائيل تستطيع أن تحتل وتُذلّ شعباً بكامله وتقتل وتغتال وتحاصر وتدّمر وتجوّع وتمارس العقاب الجماعي من دون تمييز لولا هذا الدعم الأميركي المطلق وغير المتحفظ واللاأخلاقي. هذا ما لا تعترف به الإدارة الأميركية، بل على العكس تحمّل الفلسطينيين مسؤولية إستمرار العنف كلياً وترفض أن تمارس أي نوع من الضغط على إسرائيل. إن ما يحدث ما كان له أن يتمّ من دون مباركة أميركية. وقع إعتداء مأسوي في 11 ايلول سبتمبر على أميركا ذهب ضحيته ما يزيد على ثلاثة آلاف إنسان بريء، وأدانت الغالبية العظمى من العرب والمسلمين هذا العمل الإرهابي متضامنة مع الأميركيين، معترفة بانسانيتهم وآلامهم وجروحهم. أدانوا مَنْ قام بهذا الإعتداء الصاعق ومَنْ وراءه واعتبروا أن هؤلاء أساءوا للإسلام بتصرفهم هذا، فأعلن مصدر إسلامي مهم أن "الأمة العربية والإسلامية تضررت أبلغ الضرر بسبب تصرفات رعناء لقتلة رفعوا شعارات الإسلام". إعترف الكثير من العرب والمسلمين، حكومات ومؤسسات وأفراداً بانسانية أميركا، وللأسف الشديد ان الإدارة الأميركية لم تبادلهم الإعتراف حتى الآن. لم تقرّ بما سبّبتْ للفلسطينيين من الآلام والمآسي المستمرة والمتفاقمة خلال ما يزيد على نصف قرن من السياسات الخاطئة الجائرة. على العكس، إزدادت انحيازاً لأسرائيل على رغم ما يمارسه شارون وحكومته من جرائم وأعمال إرهابية. وضع عرفات كل ثقته بأميركا معتبراً أنها الوحيدة القادرة على حل المشكلة وتحقيق السلم. تخلّى مسبقاً عن أربعة أخماس الأرض الفلسطينية التاريخية، قدّم التنازلات مجاناً، وحوّل السلطة الفلسطينية في كثير من الظروف إلى شرطة تُعنى بالأمن الإسرائيلي على حساب الأمن الفلسطيني. وها هم يهدّمون البنية التحتية لا لحماس والجهاد والجبهة الشعبية فحسب، بل للشعب الفلسطيني عموماً، وللسلطة الفلسطينية بالذات، فهدّموا المطار والمرفأ ومراكز الأمن ومباني وسائل الإعلام كي يخنقوا الصوت الفلسطيني. بل حاصروا عرفات نفسه في مقرّه ومنعوا عليه التحرك، وتركته أميركا لمصيره معرَّضاً من دون حماية. وعلى أمل أن يخرجه الإسرائيليون من سجنه، إضطر أن يعتقل قيادات فلسطينية ويسجن أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية. تخلّت أميركا عن عرفات وتركته لمصيره معرَّضاً من دون حماية. ولم يقتصر تخلّيها عنه، بل ذهبت أبعد من ذلك فبدأت تتنكّر لأصدقائها العرب كما يبدو من خلال تهجّمها على مصر والسعودية. وبعد مرور ما يزيد على أربعة أشهر على هجوم 11 ايلول لا تزال الإدارة الأميركية مصرِّة على أنها لا تريد أن تسمع من العرب سوى ما تشاء من إدانة وتنديد وتعاون دون مناقشة وبقناعة أو دون قناعة. تريدهم شركاء في محاربة الإرهاب في الوقت الذي تصرّ على عدم تحديد ما تقصد، وترفض أي تعليق على تصرّفها، وتمتنع عن البحث في أسباب العنف مع أنها هي التي تساءلت تواً بعد وقوع الهجوم عليها لماذا الكره لها. أجابت أن هناك مَنْ يكرهونها حسداً لنجاحها الباهر ولنظامها الديموقراطي، وأغلقت باب الإجتهاد. إعتبرت أنها خيراً يواجه شراً، ووضعت العالم بلسان رئيسها أمام خيارين لا ثالث لهما: أن يكون معها، وإن لم يكن معها فهو مع الإرهاب. حان الوقت للبحث في جذور العنف المتبادل إن لم نقل الإرهاب المتبادل. بات من الضروري عدم الإكتفاء بالإدانة والتنديد والبدء بالتحليل والبحث في الأسباب كخطوة أولى لحل المشاكل المستعصية. للعنف جذوره في الواقع ويجب، من دون تسويغ للعنف، أن نبحث في مسبّباته ونتائجه. طالما إسرائيل تحظى بالدعم الأميركي المطلق، لن تتوصّل إلى قناعة تاريخية بضرورة حلّ المشكلة الفلسطينية على رغم أن الفلسطينيين إعترفوا بوجود إسرائيل فوق 78 في المئة. من أرض وطنهم التاريخي. بل أن مثل هذا التنازل بسهولة يبدو كأنه شجّع الحكومات الإسرائيلية المتزايدة يمينيّةً أن تسعى لفرض الإستسلام بدلاً من التوصّل إلى تسوية عادلة. وأميركا، بعد أن إنتصرت في أفغانستان، تبحث عن جبهة أخرى تشنّ فيها حرباً ضارية مما يعطي إنطباعاً أنها أصبحت تستسهل الحروب. هي الوحيدة التي إستعملت السلاح النووي مما تسبّب بتدمير مدينتين يابانيتين وبقتل آلاف من الناس الأبرياء لأغراض سياسية. وما أن إنتهت الحرب العالمية الثانية حتى شنّت حروباً تكاد أن تكون متواصلة بدءاً من حرب كوريا وحرب فيتنام التي تخلّلته مذابح هي بين أبشع ما عرفته الحروب القديمة والجديدة وحرب الخليج وحرب تجزئة يغوسلافيا بإسم الدفاع عن المسلمين وحرب أفغانستان، وتخلّل هذه الحروب كلها تدخل عسكري في أميركا الوسطى والجنوبية والقيام بانقلابات في عدد كبير من البلدان. أصبحت الإدارة الأميركية، بفضل التقدّم التكنولوجي الذي تملكه، تفرض إرادتها ونظامها على الشعوب الأخرى مهما بعدت المسافات وها هي تستعدّ لفتح جبهات جديدة مكتفية باستعمال قواتها الجوية من دون أن تدفع جنودها لخوض معارك برية تكلّفها ضحايا بشرية. بهذا تستسهل الحرب وترمي ظلها المظلم فوق بلدان العالم التي أصبحت تهابها. حتى أوروبا أصبحت تهاب أميركا أكثر مما تحترمها بعدما تحوّلت إلى قوة إمبريالية جديدة وأصبح من السهل عليها أن تلعب دور الشرطي العالمي ليس في حل المشاكل بل في تأمين هيمنتها. لقد تغيّر العالم حقاً، ودخلنا في حقبة إمبريالية جديدة في وقت ظنّت الشعوب أنها نالت إستقلالها واستعادت سيادتها على نفسها ومواردها ومصيرها. أحدث التحرّر من الاستعمار القديم في منتصف القرن وهماً لدى الشعوب بأنها بدأت عهداً جديداً، وها هي تجد نفسها كما لو كانت في مطلع القرن العشرين لا في قرن جديد تنعم فيه الشعوب بالطمأنينة على حياتها. ما تصوّره الدوس هكسلي في كتابه الشهير على أنه "عالم جديد شجاع"، تحوّل إلى عالم جديد جبان بفضل التقدم التكنولوجي وبعدما أصبح العالم قرية صغيرة في زمن العولمة. في ظلّ هذه التطورات لم تعد الحروب معارك بين الجيوش المقاتلة، بل بين الآلة والانسان . بل لم تعد بعض الطائرات المحاربة بحاجة إلى قائد بشري، ولم يعد البشر المستهدفين أناساً بل مجرد هدف تُصوّب اليهم القذائف والصواريخ. وللأسف الشديد، لم يعد أسياد الآلة يدركون عمق مآسي الحروب. بل يجب ان نقول أن الأقوياء المتحضرون قصدوا عمداً تجريد العدو من إنسانيته كي يستسيغوا قتله. أطلق الاستعمار الأوروبي القديم على الشعوب تسمية "التوحش" مما سوّغ الهيمنة عليها واستعبادها. وها هي الإدارة الأميركية في زمن حروب الآلة، تسم أعداءها بسمة "الإرهاب" للغرض نفسه. لذلك ليس من الصدفة أن ترفض الإدارة الأميركية تحديد هذا المفهوم فتتركه غائماً كي تطلقه على من أرادت وتحجبه عمن أرادت. إختلطت الأمور بهذه الاتهامات فلم يعد من الواضح في أذهان البعض مَنْ البطل ومَنْ المجرم، مَنْ المعتدي ومَنْ الضحية، مَنْ الذئب ومَنْ الحمل، وهل الإنسان سيد الآلة أم عبداً لها؟ ما نتوقّعه في زمن هيمنة الظل الأميركي فوق العالم هو مزيد من الهيمنة لا التعاون الدولي في حلّ المشكلات المستعصية. هذا هو زمن الفجيعة، ويكون محظوظاً من يفلت من شبكة علاقات القوة والقوة المضادة. إنه زمن الترهيب المتبادل، ويبقي الظلم سيد الكون. * كاتب وإستاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن.