توصلت الإدارة الأميركية الى صوغ استراتيجية تمكنها من ان تصبح نوعاً جديداً من القوة الامبريالية الوحيدة في العالم كله ولا يكون لها منافس. وأكد الرئيس بوش لمستشاريه ضرورة صوغ هذه الاستراتيجية بلغة واضحة لا تتقبل تفسيرات قد يُساء فهمها. هذا هو الدرس الأول الذي تعلمته الإدارة الأميركية من تجربة 11 ايلول سبتمبر التي ساعدت بدورها على تأمين تجاوب الشعب الأميركي مع هذه السياسة الجديدة، خصوصاً ان نزعة الهيمنة على العالم كانت موجودة اصلاً في التفكير الأميركي، على الأقل منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. ومع ان الاستراتيجية الأميركية السابقة القائمة على سياسة الردع والاحتواء تمكنت من التسبب بانهيار الاتحاد السوفياتي من الداخل، إلا ان الإدارة الأميركية اصبحت منذ ذلك الوقت تستسهل الحرب وتعتمد بخاصة منذ بداية رئاسة بوش سياسة القوة السافرة في تعاملها مع العالم، الأمر الذي مكّن القوى الإقليمية من حلفائها، كإسرائيل، من ان تنهج سياسة القوة المتغطرسة هي ايضاً. وكي تنجح أميركا في تحقيق اهدافها، باتت تصر على التمسك بسيادتها المطلقة فيما تتنكّر لحقوق الأمم الأخرى بالسيادة في عصر العولمة. من هنا دعوة الإدارة الأميركية الى إعادة تحديد مفهوم "الأمة - الدولة" بتجريده من مقولات السيادة في ما يتعلق بالمجتمعات الأخرى من دون ان ينطبق على الامبراطورية نفسها. ويتجلى ذلك في رفض الإدارة الأميركية فكرة قيام قانون دولي ومحكمة جنائية دولية او التوصل الى معاهدات ملزمة في شأن البيئة. وهذا مؤشر مهم الى ان المفاهيم التقليدية لسياسة القوة تزداد رسوخاً في خطاب الثقافة السياسية لدى المجتمع الأميركي الجديد. ومن مستندات هذه الامبريالية الجديدة، كما يُستنتج من كتب وأبحاث ومقالات استراتيجية عدة، ان انتهاء الاستعمار في الخمسينات والستينات خلق فراغاً يستدعي وجود شرطي عالمي لتثبيت الاستقرار في مختلف مناطق النزاع لمصلحة الامبراطورية على حساب غيرها. ويكون من الضروري بحسب هذه السياسة الجديدة اقامة بنية خاصة تمكّن الشرطي العالمي من اداء دوره المطلوب من دون منازع. هذه البنية هي ما يمكن تسميتها امبراطورية جديدة وحيدة من نوعها تحارب "الدول المارقة" في نظرها وتعمل للقضاء على "الإرهاب" من دون تحديد لهذا المصطلح كي تستطيع ان توجه هذه التهمة لمن شاءت ممن لا ترضى عنهم وتحجبها عمن شاءت من حلفائها. وما يزيد من خطورة هذه الامبراطورية الجديدة اقتناعها بأنها غير مرغمة بالضرورة على اللجوء الى مجلس الأمن او على التعاون مع الحكومات والشعوب الأخرى في شن الحرب على الدول التي اختارت ان تطلق عليها اعتباطياً تسمية "مارقة". وعلى اساس هذه القناعة اصبحت الامبراطورية تختار ان تقوم بدور الشرطي بمفردها، ما لا يضطرها الى التفاوض وتعديل مواقفها وسلوك طرق ديبلوماسية في حل النزاعات بدلاً من اللجوء الى الحرب في سبيل ترسيخ هيمنتها وتحكّمها بموارد المجتمعات الأخرى، وهذا هو الجانب الخفي في عملية العولمة. إن سياسة استعمال القوة العسكرية المنفردة والاستباقية هي العملة المتداولة في الحياة السياسية الأميركية حالياً، وهي تقوم على مفاهيم مبسّطة كالقول بأن على امم العالم أن تختار بين أن تكون مع اميركا أو أن تكون ضدها. بهذا يتم تعريف العالم بدءاً من اميركا ويصبّ في محيطها في نهاية الأمر. وبين جوانب التبسيط قول الإدارة الأميركية ان سبب عداء العالم لأميركا هو كرهها لنظامها الديموقراطي وقيمها الحضارية، بدلاً من الاعتراف بأخطاء سياساتها الظالمة هي وإسرائيل، ومن تفهم معاناة الشعوب الأخرى بسبب المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبقدر ما تشدد الإدارة الأميركية، بخاصة في عهد رئاسة بوش، على مصالحها الخاصة تتجاهل مصالح المجتمعات الأخرى. هذا هو موقف العالم منها، وهو ما لا تريد وليس من المتوقع ان تعترف به بعدما تحولت الى امبراطورية جديدة مصممة على احتكار وسائل التسلح المتقدمة. إن مثل هذه السياسة المتغطرسة هو سبب الاختلاف مع السياسة الأميركية، وهو ما لا تريد الاعتراف به. وما لا تدركه الإدارة الأميركية، وإلى حد بعيد الفكر السياسي الأميركي السائد، ان سياسة القوة في حل النزاعات تعود بالضرر الكبير ليس فقط على المجتمعات والشعوب الأخرى، بل على المجتمع الأميركي نفسه. قد يصبح تصرف الدولة مثالاً يقتدى من جانب الشعب في حل النزاعات الشخصية. إن ممارسة العنف داخل المجتمع قد تزداد في ازمنة اللجوء الى الحروب بدلاً من الحلول الديبلوماسية. لأيام قليلة هذا الصيف انشغلت وسائل الإعلام الأميركية بقتل عدد من الجنود زوجاتهم اثر عودتهم من ساحة الحرب في افغانستان وهذا ما حدث في السابق بعد عودة المحاربين من حرب فيتنام وحرب الخليج الثانية. وطرح تساؤل، إنما لوقت قصير، عن الأسباب ولكن سرعان ما حوّل النظر عن هذا الموضوع وطواه النسيان كما يطوى الكثير من المشكلات الاجتماعية والنفسية التي يصعب فهمها وكيفية معالجتها في المجتمع الأميركي. لم يتنبّه الأميركيون لمقالة قصيرة في "نيويورك تايمز" 9 تموز/ يوليو 2002 قالت ان سكان نيويورك يزدادون تعلقاً باقتناء الحيوانات المفترسة وتربيتها كالسمك المعروف باسم "رد دفيل" الشيطان الأحمر أو "جاك ديمبسي" الذي يمزّق ضحاياه، والأفاعي التي تلتهم فريستها. اصبحوا يفضّلون اقتناء هذه الحيوانات المفترسة البشعة على الحيوانات الوديعة الجميلة. وما تستنتجه هذه المقالة باختصار شديد وعابر ان هذه النزعة العدائية تنتشر بخاصة بين سكان المدن، وبقدر ما يزداد حجم المدينة وازدحامها بقدر ما يزداد هذا النزوع العدائي. وبهذا اصبحت واجهات محال بيع هذه الحيوانات تعلن ان لديها "سمك لئيم". وتقل هذه النزعة في المدن الصغيرة والضواحي حيث يفضّل السكان اقتناء الحيوانات الوديعة والجميلة على الحيوانات المفترسة البشعة. ثم هناك اختلاف في هذا المجال بين من يسكنون في شقة في الأحياء المزدحمة ومن يسكنون في بيوت منفردة. إن من يعيشون في شقة ضيقة يحتاجون الى التعبير عن المشاعر العدائية أكثر من غيرهم. كذلك تزداد هذه النزعة العدائية عند الموظفين العاجزين ممن لا يتمكنون من مجابهة اسيادهم ومصادر الظلم الذي يقع عليهم. قال احد المولعين بتربية الأسماك المفترسة انه يحب ان يراقب كيف تمزّق السمكة القوية السمكة الضعيفة. ولهذا اصبحت المحال التي تبيع مثل هذه الحيوانات تعمد الى تدريبها بحيث تصبح اكثر شراسة ودموية. فبقدر ما تسيل الدماء بقدر ما يزداد الطلب عليها. أما كيف يمكن شرح هذه الظاهرة فلا تقول المقالة أكثر من أنه ربما كان سكان مدينة نيويورك يعانون التأزم في نهاية النهار فيريدون ان يشاهدوا شيئاً يتمزّق. ويقول احد باعة الحيوانات المفترسة: "ان مدينة نيويورك مكان عدائي، عليك ان تحارب للحصول على ما تريد". هنا أتساءل: ترى، هل يحتاج الرئيس بوش، بعد يوم يزدحم بالأعمال المتراكمة، الى ان يرى شارون يفترس عرفات؟ وربما يخطر له انه قد يكون من المفيد ان يدرّب شارون على مزيد من الشراسة علّه يمزّق صدام حسين ويلتهمه بعد وليمة اكل فيها خروفاً بكامله، كما قال عنه الرئيس مبارك. هنا، وفيما اكتب هذه المقالة، اضطرب الرئيس بوش لرؤية مشاهد الدمار في فلسطين ولكن ليس بسبب الآلام والفجائع الفلسطينية بل خوفاً من انعكاساتها على تخطيطه للحرب ضد العراق. ويتداعى الى ذهني، لدى ذكر الرئيس بوش، انه في زمن إعداده لشن حرب على العراق يتنكّر للقيم الديموقراطية في تعامله مع الكونغرس والشعب الأميركي. أراد من الكونغرس ان يوافق بسرعة ومن دون شروط او تردد على قراره في شن الحرب على العراق وكان له ما أراد، بل سعى الى عدم حصول نقاش حقيقي في مسألة بهذه الخطورة على رغم ما يترتب عليها من مضاعفات عالمية وإقليمية وما ستسببه من مآسٍ للشعب العراقي. وتتنكر الإدارة الأميركية في إعدادها للحرب للقيم الديموقراطية بخاصة في تعاملها مع الشعب الأميركي نفسه. فبدلاً من الترحيب بالمشاركة الشعبية في هذا المجال نجد انها تنفر من كل رأي لا ينسجم مع سياستها وتعمل على محاصرته واحتوائه وتعطيله بأسرع وقت ممكن. في الواقع ان الشعب الأميركي لم يشارك في صنع الإعداد لهذا القرار، وليست هناك محاولة لإطلاع الشعب على حقيقة ما يجري. على العكس تماماً، تعدّ الإدارة الأميركية شعبها نفسياً لتقبّل فكرة الحرب باستعمال شركات العلاقات العامة ووسائل الإعلام لتضليله باختراع اخبار ملفّقة ومعلومات خاطئة وتعميمات مبسّطة. وما يزيد من خطورة الأمر على القيم الديموقراطية ان الشعب الأميركي يجهل ما يحدث خارج حدود اميركا وتقتصر اهتماماته على الشؤون الداخلية. ولهذا يسهل تضليله والحد من مشاركته في مناقشة السياسة الخارجية ولا يعود له من خيار سوى الموافقة. ولأن الشعب الأميركي لا يشارك في صنع هذه السياسة الخارجية، يسهل على الإدارة ان تعتمد سياسة متعالية على العالم فتسعى من دون تساؤل الى تعزيز حقها بالسيادة بحرمان البلدان الأخرى من حقوقها في سيادتها. تريد ان تكون لها القوة والمناعة بتجريد الأمم الاخرى من قوتها ومناعتها. وكي تهيمن على العالم تبدأ سياستها من الفراغ. لا تكتفي بتجاهل الاحتلال الإسرائيلي منذ 35 عاماً وما كان من الممكن ان يستمر من دون دعمه من اميركا بمختلف الوسائل، بل تضع المسؤولية كلياً على الفلسطينيين، فتوصلت في آخر ما توصلت إليه الى أن اعلنت المقاومة الفلسطينية إرهاباً. والإرهاب لديها يولد هو ايضاً في الفراغ من دون اسباب جذرية. وفي اعدادها للحرب ضد العراق تريد ان تتجاهل ليس فقط وجود ازمات عالمية اخرى كالمشكلات الفلسطينية والأفغانية، بل ايضاً وجود ازمة اقتصادية داخلية في اميركا نفسها. لذلك ليس غريباً ان يتساءل البعض هل يريد بوش ان يصرف نظر الشعب الأميركي عن مشكلاته الداخلية بشن حرب استباقية على العراق. هناك فجوة عميقة في الرؤية الأميركية للعالم، فلا يهمها التدقيق في كيف تراه على حقيقته وكيف يراها على حقيقتها. في هذا الفراغ في الرؤية رسمت الإدارة الأميركية سياستها الاستراتيجية الجديدة لتثبيت هيمنتها على العالم وتسخير القانون الدولي لمصلحتها. وأخطر ما في هذه الاستراتيجية الجديدة تركيزها على حقها بشن حروب استباقية التي إذا ما تم اعتمادها ستحدث اضطراباً في اسس العلاقات الدولية. وما يزيد من خطورتها تداول لغة العداء وعرض العضلات واحتكار مصادر القوة وعدم المساومة ورفض التقيد بقوانين المحكمة الجنائية الدولية ووثائق الاتفاقات البيئية. بكل بساطة، تريد الإدارة الأميركية ان تتحدى العالم ولا تقبل اي تحد من اية دولة اخرى. بهذا تخرج اميركا من مدارات العالم وتتحول الى قوة ضده بدلاً من ان تكون جزءاً من معاناته الإنسانية. السؤال المحرج في كل ذلك هو: هل يسمح المجتمع الأميركي للدولة بأن تتحكّم بمصير العالم؟ * كاتب وباحث - واشنطن.