تبدو الولاياتالمتحدة وكأنها أول امبراطورية ديموقراطية، تستند إلى دستور مكتوب، عرفها التاريخ البشري. لكنها تساوت مع السابقة في الاعتماد على الركنين الأساسيين لتحصين البناء وتوسيعه، وهما القوة والثروة. القوة، للاستحصال على الثروة وحمايتها. الثروة، كي تستمر هذه القوّة. لذلك يأخذ العسكر دوراً مهماً في حياة الامبراطورية الأميركية لكنهم أي العسكر، كانوا يعودون دائماً بعد إنجاز كل مهمة، الى باب الطاعة السياسية. فالأميركيون، يكرهون الجيش الدائم، والكبير، وخصوصاً أيام السلم، لأنه ميّال الى التدخل في السياسة الداخلية. وبهدف السيطرة على العسكر، عمد المشرّع الأميركي الى السيطرة على بيت المال، وإلى ابتكار ما يسمى "بالمواطن - الجندي"، والسماح له باقتناء السلاح، وهذا أمر مذكور في الدستور. لكن السيطرة السياسية على العسكر في أميركا، لم تمنع العسكر من تحقيق طموحاتهم السياسية. فكان على سبيل المثال لا الحصر، الجنرال غرانت رئيساً، بعد ان انتصر في الحرب الأهلية على الجنوب الأميركي. وكان الجنرال أندرو جاكسون رئيساً، بعد ان طرد الإنكليز من نيو اورلينز، وقضى على الهنود الحُمر. هذا على صعيد الرئاسة الأولى، أما على صعيد الوزارات المهمة، وخصوصاً الخارجية، فكان أهم من وصل إليها، الجنرال جورج مارشال، والجنرال الكسندر هيغ. وأخيراً وليس آخراً، الجنرال كولن باول. والأخير يمتاز عن من سبقه، في أنه أول جنرال أسمر يستلم هذا المركز قاد حرباً تكنولوجية في الخليج. من هو كولن باول؟ ولد عام 1937، في هارلم الحي الفقير. امتهن والده أعمالاً متواضعة جنيناتي، وعملت والدته في الحياكة. حصل على درجة جامعية في الجيولوجيا من جامعة نيويورك. انضم بعدها الى الجيش عام 1958. تزوج من ألما جونسون عام 1960 وله ثلاثة أولاد. حارب في فيتنام، وجُرح في رجله. لكنه لم يكن مقتنعاً بهذه الحرب العبثية، التي لا تتناسب مع الأهداف العليا. حصل على ماجستير في إدارة الأعمال عام 1969. عمل بعدها لمدة أربع سنوات في البنتاغون أيّام الرئيس جيمي كارتر. عُيّن عام 1983 مساعداً عسكرياً لوزير الدفاع كاسبار واينبرغر. أنتجت هذه العلاقة ما سمّي لاحقاً "بعقيدة باول". وهي ليست في العمق سوى نسخة معدّلة عن عقيدة واينبرغر. وتقوم على الآتي: عدم التورط العسكري في أي مكان، إلا إذا كانت المصالح الحيوية الأميركية مهددة. في حال التورط، لا بد من استعمال الحد الأقصى للقوة، لإحراز نصر سريع بأقل خسائر ممكنة في الأرواح الأميركية. لا بدّ، وبعد تحقيق الأهداف من إيجاد استراتيجية المخرج، وفكّ التورّط الانسحاب. ويبدو أن هذه العقيدة تتناسب مع ما قاله وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر مرة عن سبب الانتصارات الأميركية. فهو أعاد السبب الى الاستعمال المفرط للقوة المدعومة بلوجستيّة لا تنضب، وليس الى اعتماد الأميركيين على استراتيجية متفوقة. وهذا ما حصل فعلاً إبان حرب الخليج عندما أمطر الأميركيون العراق بنارهم. لكنها أي عقيدة باول تتناقض مع ما حصل في حرب كوسوفو، التي أتت لترسم عقيدة من نوع جديد تقوم على مبدأ "استعمال قوة محدودة، لأهداف محدودة". خلال عمله مع واينبرغر، أعطى باول الأوامر السرية للجيش لتمرير 4000 صاروخ مضاد للدروع الى السي آي اي التي بدورها شحنتها الى إيران مقابل العمل على الإفراج عن الرهائن الأميركيين المحتجزين في لبنان، وعُرفت لاحقاً هذه العمليّة بإيران - غيت. وخرج من هذه الفضيحة سالماً، لأنه نفّذ الأوامر العسكرية فقط. عُيّن عام 1986 مساعداً لمستشار الأمن القومي. ورفّع بعدها الى مستشار لهذا الأمن أيام الرئيس رونالد ريغان، الذي منحه نجمته الرابعة قبل مغادرته البيت الأبيض. وخدم مع الرئيس بوش الأب، رئيساً للأركان العامة. وقاد حرب الخليج ضد صدام حسين. ولامه البعض لأنه تردّد في الإجهاز على النظام العراقي. ولكنه قال في مذكّراته: "إن الحرب عمل مميت، وأنا لست مقتنعاً بتبديد حياة الجنود الأميركيين". عاند باول الرئيس بيل كلينتون عام 1992، عندما أراد رفع حظر انضمام الشاذين جنسياً الى القوات المسلحة، ورفع آنذاك شعار "لا تسأل، لا تُخبِّر"، تجاه الشاذين. إنّه الجنرال الثري، الذي يتقاضى المبالغ الضخمة لقاء محاضرات يلقيها 75 ألف دولار للمحاضرة، وهو نال مبلغ 6 ملايين دولار مقابل كتابة مذكّراته. إنه الجنرال الدخيل على الأروقة السياسية في واشنطن. ولكنه استطاع الصمود فيها من 1969 الى العام 1993. إنه الجنرال العصري الذي يجمع بين الرهافة السياسية التي تتيح له الاستمرار، وبين الخُبرة العسكرية. قال عند المؤرّخ الأميركي رونالد ستيل: "إنه حُلم يجمع كل الآمال غير المحقّقة". عُرض عليه منصب وزير الخارجية عام 1994، عندما قرّر وارن كريستوفر الاستقالة، ورفض العرض. وخلال حملته مع بوش الابن، انتقد باول تسمية "الدول المارقة"، معاكساً بذلك رأي رئيسه وخدم مع بوش الأب الذي كان خبيراً في الشؤون العسكرية والسياسية، خصوصاً الخارجية، ولكنه الآن سيخدم مع رئيس تهرّب من الخدمة في فيتنام، وبالكاد يعرف عاصمة المكسيك. وهو انتقده بطريقة غير مباشرة عندما قال: "إنه مستاء من أولاد النافذين الذين يستطيعون التفلّت والتهرّب من الخدمة في فيتنام. الى جانب عقيدته، عُرف أن لباول شعارات مستقاة من تجربته وخبرته الطويلة في المجالين، السياسي والعسكري. فهو ينصح بعدم إهمال التفاصيل، ففيها الشيطان. ويقول إن القادة العِظام، هم الذين يبسّطون الأمور توصّلاً للقرار. ويشكّل التفاؤل بالنسبة إليه، عاملاً مضاعفاً للقدرة على العمل. وهو يحدّد صفات من يعمل معه على الشكل الآتي: الذكاء، الإخلاص، القدرة على استباق الأمور ومعرفة الخفايا، الاستقامة والتحلّي بالحيوية اللازمة التي تجعله ينجز ما هو مطلوب منه. وماذا عن الوجه الآخر للجنرال الوزير؟ يتذكّر باول بعض ما فعله في فيتنام فيقول: "حرقنا أكواخهم بولاّعات رونسون. لكن لماذا؟ لأن هوشي منه قال إن الشعب هو كالبحر الذي يسبح فيه ثواره. لذلك حاولنا ان نحلّ المشكلة بجعل البحر غير قابل للسكن. ما الفرق بين ان تقتل عدوّك، أو تميته من الجوع؟". في العام 1968، ارتكبت وحدة عسكرية اميركية مجزرة في قرية ماي لي الفيتنامية، ذهب ضحيتها 347 قتيلاً، من بينهم الكثير من الأطفال قارن مع مجزرة صبرا وشاتيلا. وكان الجنرال الوزير أوّل من نفى مسؤولية الجيش عن هذه المجزرة، لا بل كتب في تقريره، أن العسكر يخضع لدروس في كيفية معاملة الأسرى بحسب ما تنص عليه معاهدة جنيف. ولسوء حظ الجنرال حوكم لاحقاً مرتكبوها وخرج سليماً منها كونها حصلت قبل قدومه الى فيتنام. يعود الجنرال فيكتب عن كيفية القتل في فيتنام: "إذا رأت الهليكوبتر فلاحاً يثير الريبة، كان الطيار يصوّب عليه ويطلق النار حوله. إذا تحرك محاولاً الهرب، هذا يعني أنه عدواني لذلك كانت تطلق عليه النار لقتله". كره الجنرال حرب فيتنام، لأن الحرب عمل مميت بالنسبة له. ويصف كيف نظر الى قتيل فيتنامي: "مستلقياً على ظهره. عيونه تائهة. لم أشعر بشيء، بالتأكيد من دون اي تعاطف. لقد رأيت الكثير من الموت والمعاناة في صفوفنا، ولا آبه لما يحصل عندهم". كان الجنرال الوزير رئيساً للأركان العامة إبان اجتياح بنما. وهو الذي اقترح العملية. ويعتبر البعض، ومن منظور القانون الدولي، انه لا يوجد فارق بين اجتياح العراق للكويت، وبين اجتياح اميركا لبنما. كانت محصلة ضحايا بنما ما بين 1000- 4000 قتيل معظمهم من الفقراء السود الذي يقطنون الأكواخ. وجُرّبت في هذه الحرب أسلحة جديدة.، حتى أنه دُفن الكثير من القتلى قبل تعرّف أهلهم عليهم. وبهدف تغطية المجازر، عمدت الإدارة الأميركية الى القيام بحملة إعلامية مكثّفة. بالفعل، يبدو الجنرال وفياً لعقيدته التي تنتهج مبدأ استعمال القوة المفرطة. فهو قال أنه سيقصف السدود على نهري دجلة والفرات، بهدف إغراق بغداد. وفعلاً ضُربت 8 سدود و4 محطات ضخ للمياه. وعندما سئل الجنرال الوزير عن عدد القتلى في حرب الخليج قال: "إنه بالفعل رقم لست مهتماً به إطلاقاً". ومن منا لا يذكر "طريق الموت"، عندما قصف الطيران الأميركي الأرتال العراقية المنسحبة من الكويت 2000 آلية. وقال أحد الطيّارين الأميركيين عن هذا الموضوع: "كان الأمر وكأنني أُطلق النار على سمكةٍ في برميل". الجنرال الوزير هذا عن الوجهين للجنرال الوزير، فماذا عن ما سوف يُنتج كسكرتير للخارجية الأميركية بعد زيارته للمنطقة؟ كُتب الكثير عن السياسة المستقبلية للولايات المتحدة تجاه منطقة الشرق الأوسط، وسوف تستمر هذه الكتابة الى أجلٍ غير مسمّى. وزادت وتيرة التنظير عشية زيارته التي ترافقت مع وصول شارون الى السلطة في إسرائيل. ووُضعت السيناريوهات الكثيرة، منها ما هو ملائم للعرب، ومنها العكس. ولكنه يبدو، بعد التجربة، أن ننظر الى الموضوع من زاوية مختلفة. فبدلاً من محاولة استشراف ملامح السياسة الأميركية مع الإدارة الجديدة، لا بد من عرض الأوضاع والأمور التي سوف تؤثّر على صنع السياسة الأميركية Driving Forces. فهي سوف لن تعمل، أو تأتي من الفراغ. بل على العكس إنها عملية جدليّة بين الواقع والأهداف. ما هي هذه العوامل التي سوف تؤثّر حكماً على صوغ السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط في الحقبة المقبلة؟ سيستنتج الجنرال الوزير من زيارته، أن العملية السلمية ماتت الى غير رجعة. فالظروف التي أدت الى أوسلو، لم تعد موجودة. والخطير في الأمر، أنه لا يوجد بديل لها سوى الفوضى إذا لم يحسن الأفرقاء التصرّف. فالسلام المصري جامد، ومتجمّد. والسلام الأردني حذر وقلق على المصير. والشارع العربي يغلي وقد يستمر هذا الغليان، الأمر الذي سيؤثر على الأنظمة العربية. وسيجد الجنرال الوزير، ان مفهوم المنطقة لعامل الوقت يختلف تماماً عن نظرة الأميركيين. فالمنطقة تعيش على آلاف السنين من تاريخ الحروب، وهي مستعدة للاستمرار، حتى ولو تعلّق الأمر بالخلاف على شبر واحد من الأرض. وسيجد ان الإسرائيليين والفلسطينيين متساوون في الدياسبورا التشرد القسري ومتناقضون في حق العودة. وسيجد الجنرال الوزير ان إسرائيل تعاني أزمة سياسية داخلية، وربما تؤثر هذه الأزمة سلباً على اتخاذ القرار في الذهاب الى السلم. ولكنها تبدو مشجعة للذهاب الى الحرب إذا ما توافرت الظروف المناسبة. وسيعرف أيضاً وعلى رغم نقل اجتماعه مع عرفات الى مكان آمن أنه لا يمكن وقف الانتفاضة حتى ولو قرر عرفات ذلك. سيعرف الجنرال الوزير ان العرب الآن أكثر تشدداً من ذي قبل. فالرؤساء العرب لا يريدون الاستمرار في احتواء العراق. وهم يريدون التمييز بين النظام والشعب. وهم أيضاً لا يريدون إقفال النافذة الاقتصادية العراقية التي تساعدهم على حل بعض مشكلاتهم الداخلية. وسيستنتج الوزير الزائر أيضاً، أن إطاحة صدام ليست قراراً يتخذ، بل هي عملية طويلة الأمد، تستلزم المال الوفير والكثير من الدماء العراقية. وسيعرف أن المزيد من القصف على العراق، يعني المزيد من الالتفاف حول صدام داخلياً وخارجياً. وسوف يتذكر حتماً ما تعلّمه في المعاهد العسكرية الأميركية خلال مسيرته الطويلة، أن الألمان توحّدوا حول هتلر عندما قام الحلفاء بقصفهم الاستراتيجي. وسيندم الجنرال الوزير حتماً عن تردده في اطاحة صدام إبان حرب الخليج، فهو لم يتصور انه قد يُعين وزيراً للخارجية وصدام في السلطة. فهل يستطيع الجنرال استعمال خبراته العسكرية والسياسية وتجاربه في أروقة واشنطن لاستنباط استراتيجية جديدة للمنطقة؟ سيعي الجنرال الوزير، وهو الخبير الاستراتيجي، ان المنطقة ليست معزولة عن العالم في عصر العولمة. فهي مربوطة مباشرة بالعوامل الخارجية، وهي من ضمن اهتمام القوى الكبرى الأخرى. فها هي روسيا تحاول العودة عبر إيران. كذلك الأمر بالنسبة للصين، التي تشجع مع روسيا "الدول المارقة" لإزعاج اميركا وتشتيت قواها. في الختام، يدرك الجنرال الوزير ان الحرب تعشق الفراغ الديبلوماسي، فما ان تنسحب هذه الأخيرة، حتى تحل الفوضى مكانها. وسيعرف ان جولته بهدف الاستماع والاستطلاع لن تقنع العرب المقتنعين أصلاً بأنه خبير في المنطقة. فالمطلوب الآن بدل هذه الجولات، قيادة واعية عادلة تسعى لفرض الحلول المنصفة. إلاّ إذا كان الجنرال الوزير مقتنعاً، ان الأمور في المنطقة وصلت الى الحائط المسدود، وأصبح من الضروري إجراء عملية قيصرية. فهل سيعطي الحرب فرصتها كما تعودنا في الشرق الأوسط، قبيل أي حل ممكن؟ فلننتظر. * كاتب لبناني، وعميد ركن متقاعد.