ليس من شك في أن المسألة السودانية هي شأن عربي لا يبدو بعيداً عن هموم القضية الفلسطينية، بل إننا نلمح في الأفق ذلك التشابك بين أطراف المخطط الذي يطوق المنطقة العربية، لذلك فإنه عندما وقّعت الحكومة السودانية مع قيادة التمرد في الجنوب اتفاق ماشاكوس منذ شهور قليلة انتفض الكثيرون - وأنا منهم - وعبروا عن قلق شديد من احتمال أن يؤدي هذا الاتفاق الى تقسيم السودان إلى دولتين في الشمال وفي الجنوب. ولقد أتاحت لي الظروف أخيراً أن أزور السودان أثناء احتفالات عيد استقلاله السابع والاربعين، وتساءلت بيني وبين نفسي في أسى: إن بريطانيا راعية السياسة التقليدية "فرِّق تسُد" تركت السودان دولة مستقلة واحدة، وها هي تداعيات الأمور تصل بالسودانيين بعد قرابة نصف قرن من الاستقلال الى ما يشبه الانفصال الفعلي أو التقسيم الواقعي، لذلك فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف آلت الأمور إلى هذه الدرجة؟ وهل هي مسؤولية سودان الداخل أم هي مسؤولية القوى الخارجية - دولية وإقليمية - الطامعة في ثروات أكبر دولة افريقية والراغبة في تقسيمها وإنهاء تميزها بين دول القارة وتحجيم عروبتها وتقزيم مكانتها؟ ولعلي أطرح هنا ملاحظاتي في تجرد حتى عن الهوى المصري والانتماء العربي معاً لكي أقول: أولاً: إن جهود العرب - بمن فيهم مصر جارة الشمال الكبرى - لم تتجاوز الكثير منذ استقلال السودان خصوصاً تجاه الجنوب. لقد أقامت مصر مسجداً في ملكال عندما كانت تحت تاج ملك مصر والسودان إلى جانب استراحات الري وجامعة القاهرة فرع الخرطوم وعدد من المدارس المختلفة، حتى قام نظام ثورة الانقاذ بتصفية الجزء الأكبر من تلك الرموز المصرية لأسباب لا أجد مبرراً للخوض فيها، بينما وقفت معظم الدول العربية موقفاً سلبياً تجاه السودان عموما وجنوبه خصوصاً ربما باستثناءات قليلة، مثل ما قامت به الكويت عندما شيدت مستشفى في المنطقة المحرومة من الرعاية الصحية. لكن التأثير الأوضح هو ما قدمته البعثات التبشيرية النشطة من خلال الكنائس ومراكز العمل التطوعي الأجنبي في مدن وقرى وغابات جنوب السودان. ثانياً: دعونا نتذكر - والذكرى تنفع المؤمنين - الظروف التي صاحبت استقلال السودان في ظل صراع السلطة في شمال الوادي بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر في وقت اكتسح فيه الاتحاديون بزعامة إسماعيل الأزهري حزب الأمة الذي كان لا يتحمس للوحدة مع مصر ويطلب الاستقلال. وفي تلك الفترة جرت تحولات داخلية سودانية جعلت الاستقلال مطلباً شعبياً عاماً - وهذا حق طبيعي. فتحقق ذلك الإنجاز الكبير مع مطلع العام 1956 وتوالت على الخرطوم أنظمة وقيادات من الجيش تارة ومن الأحزاب السياسية تارة أخرى، لكنها اشتركت في معظمها في ذلك الحجم الكبير من الحساسيات الموروثة تجاه مصر في جانب، مع شعور بتميز الشمال السوداني عن جنوبه في جانب آخر، وهو ما أدى الى إهمال واقعي للتنمية في الجنوب. ورغم أن الرئيس السابق جعفر نميري كان وقّع اتفاقية أديس أبابا مع حركة التمرد في الجنوب خلال النصف الاول من السبعينات، إلا ان العام 1983 شهد تحولاً خطيراً في الاتجاه المعاكس، وذلك عندما تبنت الحكومة في العاصمة السودانية طرحاً دينياً غير مدروس سياسياً، إذ كان يقرر تطبيق الشريعة الإسلامية على الشعب السوداني دفعة واحدة، وهو ما مثّل بداية المواجهة الحقيقية بين شطري الدولة السودانية، وهي فترة لعب فيها الدكتور حسن الترابي دوراً فاعلاً ومؤثراً. ثالثا: إننا إذا كنا نعتبر الشعب السوداني من أكثر الشعوب العربية ثقافة فإنه ايضاً من أكثرها تسييساً وإحساساً بالحرية، إذ يكفي أن نعلم أنه شعب "العصيان المدني" الذي اسقط نظامين عسكريين اولهما نظام عبود في الستينات، وثانيهما نظام نميري في الثمانينات، وهو أمر لا اظن أن كثيرين فطنوا إليه. فتعامُلنا مع السودانيين لم يتجاوز اعتبارهم فقط حراس البوابة العربية الافريقية، بينما السودان، حقيقة، هو ظهير BACKYARD الحدود الجنوبية لخريطة الوطن العربي. فإذا كانت المخاطر تتهدد العرب بوضوح على جبهة الصراع العربي - الإسرائيلي، فإن هناك مخاطر لا تقل عنها تقبع خلف تلال القرن الافريقي وبين مستنقعات الجنوب السوداني. والآن حان الوقت لكي نستعيد الوعي الغائب والرؤية المفقودة ونترجم اهتمامنا بالسودان الى دعم عربي للجنوب وتنمية لسكانه خصوصاً أن الثروات واعدة بعد طول معاناة وشدة حرمان. رابعاً: إن وجود عناصر دخيلة قد تكون لها السيطرة على دولة منفصلة في جنوب السودان - إذا قامت - لن تكون تهديداً مباشراً لمصر ومواردها المائية وأمنها القومي فحسب، بل إنها قد تكون مصدر خطر على الحزام العربي في شرق أفريقيا كله، خصوصاً أن العروبة في السودان تتمركز في الوسط والشمال بينما تتعرض لضغوط وافدة في الجنوب والشرق والغرب مع توجهات انفصالية في الاطراف لا تقف عند حدود الجنوب وحده، وهو ما يعني ايضاً إمكان انكماش الوجود العربي في السودان خلال نصف القرن الحالي، ويكفي أن نقول إن الخرطوم العاصمة اصبح يعيش فيها وحولها اكثر من مليوني جنوبي. خامساً: إن ارتفاع النبرة الدينية لدى الحكومة السودانية وقيادتها في الخرطوم تضيف عنصراً مقلقاً للجنوبيين، خصوصاً عندما يقترن ذلك بغياب التنمية واستمرار الحرب مع عملية الحقن المستمرة للجنوبيين والشماليين من خلال اطراف مختلفة الى الحد الذي يجعلني أشعر احياناً وكأن شمال السودان ضاق ذرعاً بجنوبه، بينما بدأ جنوبه يتطلع الى الحكم الذاتي بعد أن تأكد لسكانه انهم يربضون على ثروات بترولية وتعدينية كبيرة، حتى انه تردد أن قيادة جون قرنق باعت امتياز التنقيب عن البترول لشركات هندية بمئات عدة من ملايين الدولارات، وهنا نكون أمام تكريس فعلي للانفصال يصعب إخفاء أبعاده. هذه ملاحظات عامة لا بد أن تقترن لدينا بتصورات جادة وعاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من السودان الموحد وفقاً لأسس ثلاثة، هي: الاساس الأول: ضرورة القيام بعملية توزيع عادلة بين الشمال والجنوب في الثروة والسلطة معاً، بحيث تصبح المواطنة هي المعيار الوحيد لتحديد هوية المواطن السوداني من دون النظر الى أصوله العربية أو الافريقية او التفكير في ديانته، مسلماً او مسيحياً او لا دينياً، إذ أن مثل هذه السياسة الجديدة هي التي يمكن ان تؤدي الى ميلاد سودان ديموقراطي جديد. الاساس الثاني: ضرورة السعي نحو إصلاحات سياسية ودستورية شاملة في السودان تقترن أيضا بإنجازات اقتصادية وعمرانية يبدو ذلك البلد الكبير في حاجة ماسة إليها، فالسودان في ظننا لم يوظف كل إمكاناته ولم يستفد بكل خيراته. الأساس الثالث: إن القيادات التقليدية في السودان - وهي مزيج مشترك من رؤية سياسية ودينية - تحتاج الى مراجعة أوراقها وإعادة النظر في سياساتها، فالسودان اليوم ليس هو سودان الأربعينات والخمسينات او حتى الستينات والسبعينات. إننا أمام تطورات سريعة وتداخلات متتالية ومصالح متشابكة أصبحت تفرض على الحكم والسياسة في السودان درجة من الصدقية والشفافية لا يمكن الإقلال من تأثيرهما. إن الأمل معقود على التغيير المحتمل في أفكار ومشاعر السودانيين - الجنوبيين والشماليين على حد سواء - فالفترة المقبلة تحتاج الى المبادرات البناءة والتوجهات المطمئنة حتى يتجاوز السودان محنته وينهي أزمته، فلم يعد الأمر قاصراً على الوحدة الشكلية او الالتزامات الواقعية، ولكنه أصبح يتجاوز ذلك الى القناعات الذاتية لكل طرف في أن مصلحته ترتبط بالضرورة بدولة السودان الواحد في عصر الكيانات الكبيرة والتكتلات القوية. ولنأخذ من دولة الهند مثالاً حيث التعددية المفرطة في الثقافات والأديان والأصول والأعراق، ومع ذلك قامت الدولة الهندية كأكبر ديموقراطية في عالمنا المعاصر. ومثل هذا المثال يمكن أن يؤدي الى القضاء على مخاوف الجنوبيين بل ربما يؤدي ايضاً - وأرجو ألا أكون مستغرقاً في التفاؤل - الى الاستغناء عن الاستفتاء الذي حدده اتفاق ماشاكوس بعد ست سنوات من توقيعه او على الاقل تحول الاستفتاء الى صيغة ايجابية بحيث يدور السؤال حول الوحدة ولا ينصرف الى الانفصال. لقد جاء الوقت الذي يجب أن يدرك فيه العرب جميعاً أن السودان كيان شديد التأثير في المستقبل العربي، فإذا كانت الجبهة الشرقية العربية معرضة لأحداث جسام حيث قام العالم العربي يصارع دولة إسرائيل، فإن الجبهة الجنوبية لا تقل خطراً عن غيرها بل قد تتفوق عليها إذا أدركنا أن مركز الصراع الدولي المقبل سينتقل الى أفريقيا حيث اكتشافات النفط الضخمة وتأثيراتها المتوقعة على النظم القائمة والسياسات المنتظرة في ظل شبكة جديدة ومعقدة من المصالح التي لا يمكن تجاهلها. فشهية الولاياتالمتحدة الأميركية مفتوحة على مناطق جديدة في افريقيا يبدو السودان في مقدمها ليكون بؤرة لصراع مقبل ومركزاً لأطماع لا تخفى على ذي بصيرة. ونحن عندما نشير الى المخاطر التي تتهدد عروبة السودان فإننا لا نتحدث عن الزحف الذي يطوقها من كل اتجاه، بل نتحدث أساساً عن المخاطر التي يمكن أن تحيل هذه الدولة العربية الواسعة الى جبهة ساخنة وشوكة في جنب الخريطة العربية بدلاً من أن تكون دعماً لها وسنداً لمستقبلها وظهيراً في مواجهة الأنواء والأعاصير التي تستهدفها. إن المسألة لا تقف عند عروبة السودان كقضية، لكنها تتجاوز ذلك الى السودان الوطن والدولة كشعب عزيز على أمته، متميز في قارته، عرف الديموقراطية فارتبط بها، وعشق الحرية فدافع عنها، وجاء الوقت لكي يتمسك ايضاً بوحدته من دون أن يفرط فيها. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.