في الكتابات العربية السائدة اليوم عن الولاياتالمتحدة الأميركية، تتقدم الأخيرة بصفتها كتلةً لا تقبل الانقسام. فلا التاريخ، بأحداثه وتطوراته ومعانيها، يخترقها، حاثّاً على فهم الفوارق بين ما قبل الحرب الباردة وما بعدها. ولا اختلافات السياسات والمواقف والبرامج قابلة للتطبيق عليها، فإذا حصل اقرارٌ منا بوجودها سارع مَن يُقرّ الى اضافة انعدام الفارق علينا. والحال أن هذا الانعدام اذا صحّ، يكون وبالاً ما بعده وبال. يكفي اننا نجد انفسنا امام وضع مغلق: الأميركان جميعاً واحدٌ حيالنا، ونحن، بالتالي، واحدون حيالهم، او هكذا ينبغي ان يكون. ولما كنا في زمن وعالم لا يسعنا فيهما ان نتقدم خطوة في ظل علاقة مسدودة كهذه بالولاياتالمتحدة والقرن المقبل أميركي، كما يقال، كان الثبور وعظائم الأمور ما يلوح في آخر نفقنا. بيد أن الصورة التي ترسمها الكتابة العربية تتمتع بدرجة الدقة نفسها التي تمتعت بها سابقاً. اذ نقع هنا على جوهرية ثبوتية لا نقع على ما يماثلها في الولاياتالمتحدة وسياستها، او في اي شيء آخر يدبّ على الأرض ويسعى. ولهذا نرانا نستحضر الى الحلبة كبار "المفكرين والكتّاب والصحافيين" ممن شرحوا لنا، بصراحة، أحوالنا السابقة في هذا العالم. ذاك أن واشنطن تشهد راهناً سجالا غير مسبوق بين "الأمميين" و"الانعزاليين". وكل من الفريقين ينقسم، بدوره، فريقين او اكثر. وهو سجال يكفي لتقدير اهميته التي لا نعيرها اي اهتمام، ان يكون رئيس الجمهورية بيل كلينتون ومستشاره للأمن القومي صموئيل بيرغر من خائضي غماره. والسجال هذا لا يخلو من آراء غير متوقعة تماماً كأن يبادر بول نيتز، المفاوض الأميركي التاريخي مع السوفيات للحد من السلاح النووي، فيكتب مُطالباً بتخلي بلاده عن هذا السلاح ولو من طرف واحد. وفي المعنى هذا يصير من غير الدقيق، ومن غير النزيه، وضع كل السياسات والمواقف تحت خانة "أميركا" في معزل عن الفرز والتمييز. فدفع مستحقات الأممالمتحدة هو ما لم تبقَ شبهة حول اصرار كلينتون عليه. واختيار ريتشارد هولبروك "الأممي" ليمثل واشنطن في الأممالمتحدة، ليس اختياراً عديم الصلة بالتأثير في السياسات المرجوّة. أما التقارب في الأهداف بين الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة، وهو ما دل اليه وجود قوات حفظ سلام في تيمور الشرقية وكوسوفو وسييراليون مما صوّتت واشنطن لصالحه، فيجد تتمته في دعوة كوفي انان الى معايير جديدة في ما خصّ السيادات الوطنية وأعمال التدخل الانساني. والانعزاليون ليسوا طرفاً واحداً. ففيهم الذين يربطون تأييدهم المواقف الدولية بمواقف محلية كالاجهاض، والذين تحرّكهم الثأرية من كلينتون بعدما فشلوا في اسقاطه في معركة مونيكاغيت. أما تياراهم الأساسيان فأحدهما يقوده باتريك بوكانان الذي يمثل انعزالية الخوف من العولمة بوجوهها كافة، والذي لم يتسع له الحزب الجمهوري، والثاني يضم ريغانيي الحرب الباردة وحرب النجوم ممن لعبوا الدور الأنشط في الحاق الهزيمة بمعاهدة المنع الشامل للتجارب النووية. وهؤلاء الأخيرون ممن كانوا بعض رابحي الحرب الباردة يتصرفون كأنهم لم يعرفوا أنهم ربحوها، تماماً كما يتصرف بعض خصوم القوة الأميركية ممن خسروها كأنهم لم يعرفوا أنهم خسروها. واذا كانت التيارات تتقاطع عند بعض المواقف، وبعض ما تتقاطع عليه مزعج حقاً كبناء نظام الصواريخ الباليستية الدفاعي، الا انه جرت بين "الأمميين" و"الانعزاليين" مواجهات متصلة على امتداد عهد كلينتون، حتى ليجوز القول ان العهد المذكور هو، في وجه منه، سجل بهذه المواجهات. وفعلاً حقق الرئيس انتصارات تجلت في اتفاقية نافتا وفي التدخل في كوسوفو، تماماً كما حلّت به هزائم منعته من ادخال الصين في منظمة التجارة الدولية، ومن تمرير اتفاقية التجارب النووية، ومن دفع ديون الأممالمتحدة. ولئن ردّ البعض عدداً من الهزائم الى ضعف الاستراتيجية وضعف القيادة عند الرئيس الحالي، بقي أن أكثر منهم هم الذين يقولون ان المستقبل هو للنزعة الأممية حكماً، حتى أن محللة كفلورا لويس تشكك بجدية النزعة الانعزالية وقدرتها على البقاء طويلاً. فالقضايا المحلية في الولاياتالمتحدة غدت تتأثّر، على نحو لا سابق له، بالمجريات الكونية، حتى باتت مصانع الأحذية في ماساشوستس تغلق أبوابها لعجزها عن المنافسة في الاقتصاد العالمي، فيما تُفتح مشاريع التقنية الرفيعة وتزدهر، في هذه الولاية او تلك، لأنها تستطيع المنافسة عالمياً. واذا اضحت الواردات الأميركية رخيصة الثمن، فهذا من ثمار سنواتٍ من"لبرلة" التجارة الدولية التي تعمل، بدورها، على ابقاء التضخم الأميركي منخفضاً. ومن ناحيته، يعني هذا التطور ابقاء أسعار الفائدة أدنى والرهونات أرخص. وقصارى القول ان العولمة التي بات شائعاً ربطها باطلاق نزعات متعارضة ومتطرفة، ضيقة ومنفتحة، ابتدأت تؤسس لسياسات انتخابية ومحلية تبني برامجها على مواقف وبرامج اقليمية وعالمية. ومن هنا نرى أن المرشحين الرئيسيين للحزب الديموقراطي، نائب الرئيس آل غور وبيل برادلي، "أمميان". لكننا نرى أيضاً أن المرشحين الرئيسيين للحزب الجمهوري، جورج دبليو بوش وجون ماكاين من "الأمميين" المؤيدين للتجارة الحرة، سبق لهما ان وقفا مع التدخل في الخليج وفي كوسوفو. بيد ان تعبير "أممية" في الولاياتالمتحدة ليس واحد الدلالة بين جمهوريين وديموقراطيين. ففي الخطاب الذي القاه صموئيل بيرغر في مجلس العلاقات الخارجية، في 21 تشرين الأول اكتوبر بعنوان: "القوة الأميركية: الهيمنة، الانعزالية او التورط"، وضع الادارة بحسب قراءة وليم كريستول وروبرت كاغان للخطاب "في خط اممية الرئيسين وودرو ويلسون وجيمي كارتر"، لا "في خط اممية ثيودور روزفلت ورونالد ريغان". فبيرغر، الذي اعتبر تصويت مجلس الشيوخ على معاهدة التجارب عودةً الى سجال الثلاثينات، يكره الهيمنة وصرخات الجمهوريين المطالبة بزيادة الانفاق على التسلّح، فيما تتجلى القوة، في عرفه، في رفع المساهمة في صنع قرار العالم. وهو، كذلك، يرفض الصراخ في صدد "خطر" روسياوالصين بصفته مجرد "نوستالجيا للحرب الباردة". اما الضروري، في نظره، فالعمل، "من دون بحث عن أعداء"، على تعزيز ما يخدم "الصالح العام" العالمي. وهذه أممية كان رفضها الديموقراطيون في عهد هاري ترومان ووزير خارجيته دين أتشيسون بوصفها طوباوية لا تستجيب تطلّبات الحرب الباردة في بدايتها. لكنهم عادوا اليها بعد فيتنام فعبّر عنها جيمي كارتر الذي عكس شعوراً بالذنب ناجماً عن امتلاك القوة، ورغبةً في صيانة الأمن الاميركي عن طريق اتفاقات تحد من التسلح. ومن ناحيتهم، فالجمهوريون الأمميون يتبعون "أممية روزفلت - ريغان"، ومفادها أن "أميركا تستطيع ان تقود العالم الى مستقبل افضل، وهي يجب ان تقوم بذلك. وهذا نشاط سوف ينبني على مبادىء الحرية والعدل شريطة ان تتمتع أميركا بالقوة وبالرغبة في استخدامها. فالأمن لا يتم فقط بالمعاهدات، بل بصياغة سياسات ومواقف واستراتيجيات متماسكة لا تغيب عنها القوة". ويبقى ان العالم الخارجي والعلاقة به ليسا عديمي التأثير في مصائر السجال بين الانعزاليين والأمميين. فيكتب فريد زخريا، وينقل عنه توماس فريدمان، ان الولاياتالمتحدة ارادت بعد الحربين الاولى والثانية تغيير العالم، فيما العالم كان يرفض. أما بعد انتهاء الحرب الباردة فغدا العالم يريد التغيير وواشنطن ترفض. وتبدو الأخيرة، بهذا الانعزال او بقيادة الانعزاليين لها، كأنها لا تريد التعرّف على أن العالم صار مثالها وصنيعتها الى حد بعيد. فالذين يريدون القوة بمعناها السلاحي المحض، يفوتهم ان قوة الولاياتالمتحدة هي اليوم في النموذج قبل ان تكون في اي شيء آخر. ومع ذلك فقدرة واشنطن على التأثير ليست مطلقة، اذ هي لم تحتل البلدان المهزومة في الحرب الباردة على نحو ما حصل بعد الحرب الثانية لكل من ألمانيا واليابان. وجاءت المصالحات في لبنان وكمبوديا لتشكّل أوضاعاً غير مشجعة تماما، فيما النهاية التي رست عليها البوسنة تفتقر الى الصلابة. وقد ارتدّت تسوية كوسوفو على الصرب بوصفهم ضحايا التمييز المقلوب. وغني عن القول ان اللقاح بين الميل الانعزالي الاميركي والسلوكات الانعزالية للشعوب والثقافات المعنية يصنع العجائب على هذا الصعيد، فكيف حين يتعزز هذا القران بصدور آراء خارج أميركا تأخذ عليها، في وقت واحد، أنها انعزالية وأنها صاحبة سياسة للهيمنة! وفي مطلق الحالات لا يعدم دارسو الميول الضيقة في الولاياتالمتحدة الحجج الدالة الى خطورتها. يكفي التذكير بأن رفض واشنطن عصبة الأمم واتفاقية فرساي، بعد الحرب العالمية الأولى، لم يفضِ فقط الى ابقائها خارج العالم عقدين، بل ايضاً الى تسهيل اندلاع الحرب العالمية الثانية. وأبشع من كل ما عداه أن لا نشعر، نحن العرب، بوجود فوارق بين النهجين، او ان لا تنعكس علينا هذه الفوارق. فإذا كان الأمر كذلك، كنا أقرب الى جثة عديمة الاتصال بما يحصل في العالم، عديمة التأثّر وعديمة التأثير، وهو ما لا تنجو من حكمه الصارم الا... المعارضة العراقية! * كاتب ومعلّق لبناني