ليس لديّ ما أقوله عن خطبة التشهير اللاذعة التي ألقاها السيد إدوارد سعيد بحقي وحق عائلتي، والتي نُشرت في "الحياة". إذ أن لغتها وأسلوبها هما للخطاب الذكي مثل العمل الانتحاري للسياسة. فهناك، في الشيئين، أمر لا عقلاني يجمع بين المأسوي والمثير للشفقة. أما السجال الذي انطلق بسبب هجومه فيطاول، في المقابل، مسائل أساسية بالتأكيد. وما أرغب في تناوله، هنا، إنما هو الفكرة التي يُساء فهمها عن الفيديرالية، هي التي شغلت العراقيين منذ أوائل التسعينات. فقد سأل حسن منيمنة في مقاله المهم في "الحياة" 29 كانون الأول/ديسمبر 2002 لماذا أفترضُ أن النظام الفيديرالي يقدم الحل الأفضل لمشكلات الدولة العراقية. فهناك أساليب أخرى للانتقال من مركزة السلطة، كما ان كل محاولة لمغادرة المركزية الى الفيديرالية الاتحاد السوفياتي، يوغوسلافيا السابقة، تشيكوسلوفاكيا انتهت الى الفشل. فالفيديرالية، عنده، تعمل على الوجه الأفضل عندما تأتي لتوحّد أجزاء متشكلة أصلاً في وحدة أكبر الولاياتالمتحدة، سويسرا، الامارات العربية المتحدة، وليس عند السعي الى حلّ كتلة موحدة مسبقاً الى أجزاء. حسن منيمنة على حق. وتشكل الحجج التي يسوقها التحدي الأهم لفكرة الفيديرالية في ما يخص العراق، منذ تبنى الفكرة المؤتمر الوطني العراقي في صلاح الدين عام 1992. والحال ان المخاطر التي تنطوي عليها المقاربة الفيديرالية لمشكلات العراق كبيرة بالفعل، ونحتاج كعراقيين الى مزيد من تطوير هذه الفكرة من أجل تجنب المزالق التي ينبّه اليها منيمنة. بيد ان هناك حجة حقيقية واحدة لمصلحة تكييف فكرة الفيديرالية مع ظروف عراق ما بعد صدام حسين: ابقاء الشعب الكردي في العراق عراقياً، وليس شعباً يحمله تاريخه على المضي في السعي الى الانفصال في دولة خاصة به. واذا كنت مخطئاً في تقديري هذا وبيّن استفتاء يجرى خلال المرحلة الانتقالية أن الشعب الكردي ليس متحمساً للانفصال، وان قضية الفيديرالية بكاملها لا تزيد على أن تكون محاولة استحواذ قومية تمارسها الاحزاب الكردية، فإن هذا التبرير للفيديرالية سينهار وتنهار معه عشر سنين من دفاعي عن هذه الفكرة ابتداء بكلمتي عن الموضوع في صلاح الدين. لكن، لا اعتقد بأن استفتاء كهذا بين الأكراد سيأتي بمفاجآت. فالفيديرالية فكرة مدفوعة بكل التجربة الكردية في العراق، واذا كانت قد استُغلت، ولا تزال، لأغراض سياسية رخيصة، فأعتقد بأنها تتطابق حقيقة، على مستوى أساسي سياسي - نفسي، مع الحل الذي ترغب فيه غالبية الأكراد للتغلب على مأزق هويتها في عراق المستقبل. هذا هو أساس اختياري أخذ فكرة الفيديرالية بجدية في ما يخص مستقبل العراق بعد صدام حسين. بكلمة اخرى: خطي الفكري هنا ليس أكاديمياً أو مجرداً، بل سياسي مرتبط بالواقع، وربما نبع أيضاً من عمق عاطفي لديّ يريد الحفاظ على ذلك المجتمع الفسيفسائي التعددي الذي ترعرت فيه وعشقته، ويرى في الفيديرالية واحداً من سبل ذلك. فهي في رأيي وأنا لا أتكلم عن غيري ليست اسماً آخر للتجزئة والضعف. وإذا كان لها ان تنجح في العراق بات عليها ان تكون عنصراً للتوحد والقوة. كل ما عدا ذلك مرفوض ويجب أن يحاربه كل عراقي مستقيم الفكر. بل يمكنني الذهاب أبعد لأضع الفيديرالية، كما قلت في كلمتي الى مؤتمر المعارضة العراقية، وكما أعيد تطويرها في وثيقة "الانتقال الى الديموقراطية في العراق" التي شاركت في صوغها، في قلب الرؤية الجديدة لمستقبل الدولة العراقية: إنها المدخل الى الديموقراطية في العراق. انها الخطوة الأولى نحو نظام للدولة يقوم على مبدأ الرفض المطلق للتضحية بحقوق الجزء أو الأقلية لمصلحة ارادة الغالبية. فالمبدأ الأساسي لحقوق الانسان هو اعتراف الدولة بحرمة حقوق الاجزاء، سواء كان الجزء الانسان الفرد أو مجموعة من الأفراد تتكلم لغة أخرى ولها ثقافتها. هكذا تدور الفيديرالية على حقوق تلك الأجزاء المتكاملة التي تشكل فسيفساء المجتمع العراقي. والحق ان جوهر الديموقراطية الفيديرالية ليس حكم الغالبية، بل حقوق الاقليات، أو حقوق الجزء، ومن ضمنه في النهاية حقوق الفرد الانساني. لا شك في ان بعض قرائي سيجد في هذا تصوراً مثالياً الى حد الاستحالة. فليكن. أقبل الانتقاد اذا كان الأمر كذلك. أقبله لأن المثال والحلم هما بالضبط ما نحن في أمس الحاجة اليهما، هذه الأيام، كعراقيين. فمن دون الحلم، لن يمكن بناء بلد جديد من المادة الخام التي تركها صدام. والعراق على وشك الانطلاق نحو بداية جديدة، ونحن على وشك فتح صفحة جديدة نظيفة من تاريخنا، بل ربما كنّا طليعة بداية جديدة لكل شعوب الشرق الأوسط، العالقة كما نراها اليوم في دورات العنف والانتقام الفالتة من أي سيطرة. أما بلد مصاب مثل العراق فيحتاج الى جرعة من المثالية بالقوة التي تكفي لاعادة ثقة السكان بأنفسهم من جديد. واذا لم نؤمن بقدرتنا العراقية في التعالي عن ماضينا ستكون الصفحة الجديدة التي نوشك على فتحها بالظلمة نفسها، شئنا ذلك أم أبينا. هذا إن لم تكن أحلك من الصفحة الماضية. انني متأكد من ذلك مهما كنت مثالياً أو طوبوياً في أوجه أخرى كثيرة. لقد تركز عملي على مستقبل العراق في السنين الأخيرة على تصميم إطار لهذه البداية الجديدة. وما يسترعي اهتمامي تصور لفكرة العراق بأشكال عملية مبتكرة تحافظ على الوحدة ضمن التعدد، وهو ما أكاد اعتبره الجوهر الثابت للعراق، الذي يجب المحافظة عليه مهما كان الثمن. فالسعي هو الى فكرة سياسية ايجابية وناهضة تستحق حبّنا كعراقيين. وليس لفكرة كهذه أن تأخذ شكل الحنين الى أيام الملكية، مثلاً، أو الى العصور الذهب الماضية للحضارة التركية - العثمانية أو الحضارة العباسية في بغداد، ناهيك عن الحنين الى امبراطوريات غابرة مثل آشور أو بابل، على رغم اننا سنجد دوماً مجموعات في العراق تغلّب ذكريات تاريخية كهذه على ما عداها. لكن هذه سوابق علينا ان نبني عليها، في الوقت الذي نحصر تطلعاتنا بأحلامنا للمستقبل، لا الماضي. ما هو العراق؟ هناك من يرى انه لا يتعدى كونه مساحة جغرافية غريبة حددتها القوى الكبرى قبل نحو قرن. لكنني أخالف هذا الرأي. إنه فكرة لها القدرة على انهاضنا ودفعنا الى الأمام. فنحن في حاجة الى اعادة اكتشاف فكرة العراق كأساس لوحدة وتوحد يطاولان العديد من الشعوب والأديان والقوميات. وهي فكرة كانت حية للرجال والنساء من جيل والدي، لكن جيلي أضاعها: جيلنا الذي اعتنق هذا أو ذاك النوع من القومية، أو الاشتراكية أو الماركسية - وفي الآونة الأخيرة، الاسلاموية. هذه هي الايديولوجيات الكبرى التي ألحقت ضررا خطيرا بفكرة العراق وأزاحتها عن مركزيتها. وقد مارست عملها التدميري في الستينات والسبعينات، وعادت الآن لتزرع بذور روحية التفرقة والانكفاء في الطريقة التي عقد بها مؤتمر المعارضة العراقية الأخير في لندن الشهر الماضي. ويعلو هذه التوجهات الشريرة التوجهان القومي والطائفي، سواء جاءا من البعث أو، كما وجدنا لاحقاً، في أشكاله المقابلة كما نجدها في القومية الكردية أو التركمانية أو الآشورية. فالقومية هي لعنة عالمنا، وهي القوة السياسية المسؤولة أكثر من غيرها عن تأخر منطقتنا. فإذا تركنا لأي نوع من القومية تحديد طبيعة عراقنا الفيديرالي الجديد ستصير مخاوف حسن منيمنه ومحاذيره بالتأكيد في محلها، لأنها قد تصبح الأساس لصفحة في تاريخ العراق تكون أكثر إظلاما من الصفحة السابقة. وإذا ما قُيّض للفيديرالية في العراق ان تقلع، فعليها ألا تكرس أي نوع من القومية أو الطائفية. اذ لا يمكن اقامتها الا على فكرة "عراقية العراق" فوق كل أشكال القومية والطائفية. هذا هو السبيل الوحيد للتغلب على التركة القاتلة لحزب البعث، التي يمكنها، متجسدةً في القوميات العربية أو الكردية أو التركمانية أو الآشورية المتصارعة، أو في الطائفية، أن تؤدي الى دمار العراق، حتى بعد زوال صدام حسين. ومن هذه الاعتبارات جميعاً يمكن استخلاص ما يلي: أولاً، ليس لأي عراقي بعد الآن أن يفكر باستعمال القوة لإبقاء الأكراد داخل العراق. لقد جرّب هذا الحل، وصولاً الى شكله الأقصى، أي حرب الإبادة كما في عملية الأنفال، لكنها فشلت. وليس من بديل الآن سوى الاقناع السياسي. ثانياً، لا يمكن اقامة أي نظام فيديرالي في العراق على أساس القبول بوضع الأمر الواقع في كردستان. ان الحدود الحالية التي رسمت اعتباطاً للمنطقة الآمنة في 1991، والترتيبات القائمة على توازن القوى الحالي بين الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني والنظام العراقي، هي كلها ظواهر موقّتة زائلة يجب إعادة التفكير فيها على أساس عقلاني وإداري بحت، مثلما مع بقية العراق، بهدف تجنب تكريس الاثنية كأساس لتقسيم الأراضي. ثالثاً، على الميليشيات الكردية بيش مركه الموافقة على نزع السلاح خلال المرحلة الانتقالية ضمن اتفاق عام حول اعادة تصميم كل البنى الأمنية في الدولة العراقية الجديدة. وعلى نزع السلاح أن يأتي بمبادرة من المنظمات الكردية نفسها والا هناك خطر فرضه من الأميركيين أو الأتراك، وهو ما سيكون كارثة. وبالتأكيد لا ينبغي لأي عربي أن يشارك في ذلك بعد معاناة الأكراد الرهيبة على يد البعث. رابعاً، حفظ القانون والنظام في الدولة الفيديرالية المقبلة تقوم به الوكالات الأمنية المحلية في المنطقة المعنية التي ستكون من دون شك كردية الى حد كبير في المنطقة الكردية، مع سلطة أمنية فيديرالية لعموم العراق بصلاحيات في كل المناطق لملاحقة انتهاكات يحددها الدستور. خامساً، على النظام الفيديرالي المستقبلي أن يقوم على حدود مفتوحة في شكل كامل بين المناطق، تكون خالية من كل نقطة للسيطرة الحدودية، مع حرية كاملة في التنقل للأفراد والسلع ورؤوس الأموال، ألا يكون للبرلمانات المنطقية صلاحية تشريع أي قانون يعيق حقوق التملك أو حركة الأفراد ورؤوس االأموال بين المناطق. هذه، كما يبدو لي، قواعد الحد الأدنى اللازمة لإنجاح الفيديرالية في العراق. وهناك تفاصيل أخرى كثيرة في وثيقة الانتقال الى الديموقراطية، هي الى الآن الخطة المدروسة الوحيدة ولو غير الكاملة لمستقبل الدولة العراقية. وبإلحاح، نحتاج اليوم الى مباشرة الحوار بين الخبراء والمهنيين الأكراد الذين وضعوا، بطلب من أحزابهم، مسودة لدستور مقترح لعراق اتحادي، وواضعي وثيقة الانتقال الى الديموقراطية. وارى ان لحوار كهذا أن يأخذنا شوطاً بعيداً نحو تطوير موقف عراقي موحد حول الفيديرالية، بكل ما لها على الصعيد الدولي من تداعيات ايجابية في هذه المرحلة الحرجة بالنسبة الينا نحن العراقيين. والنقطة الأخيرة التي أود ايرادها جواباً على حسن منيمنة - والمنتقدين الأقل مسؤولية - تدور على فكرة أُسيء فهمها عندما طرحتها في كلمة الى معهد "اميريكان انتربرايز"، أي تعبير "العراق غير العربي": فالقومية التي اعتبرها سبباً لغالبية مشكلات الشرق الأوسط هي التي وصفتها حنة أرندت في تحليلها للتوتاليتارية بأنها "القومية القبائلية". وهذا النوع من القومية بالتأكيد ليس "حب الوطن"، أو حب الدولة، مما نسميه الوطنية. فهذه الأخيرة صفة تُمتدح في ظل ظروف التشرذم الحالي في العراق، فيما الخوف من التجسد السياسي للأولى لما فيها من تهديد لوحدة العراق نفسه كفكرة وبلد. والفرق بين الاثنين يتلخص في أن القومية القبائلية شعور لا يتعلق بكيان معطى أصلا وهو ما ينطبق على القومية الكردية عموما مثلما على القومية العربية، فيما تفترض الوطنية وجود ذلك الكيان، أي العراق، الذي يشعر المرء انه مدين له بالولاء، وذلك، خصوصاً في الدرجة الأولى، بالمعنى السياسي للولاء. أما على الصعيد الشخصي، وفي ما يتعلق بكل القضايا السياسية ومن حيث حقوقي ومسؤولياتي كمواطن في دولة العراق المقبلة، فأريد أن أُعتَبر، أولاً وقبل كل شيء ودوماً، عراقياً ليس الاّ. لكن في ما يتعلق بثقافتي وخلفيتي وتشكيلي الاخلاقي كانسان وهي الأهم بالنسبة إليّ كشخص، فأنا دوماً عربي بإرث اسلامي شيعي قُدّر له السكن في الغرب فترة طويلة واستيعاب الكثير من قيمه. واذا جاز لنا ان نعمم هذا المنظور للذات كي يصبح منظوراً سياسياً، ففي وسعه تشكيل حجة لمركزية فكرة العراق على الصعيد السياسي. لكن هذا لا يعني الاستخفاف، في أي شكل من الأشكال، بعروبتي وارثي الاسلامي، بل يزيد من أهمية هذين في تشكّلي الأخلاقي والروحي كانسان فرد. فالسياسة عنصر صغير في تركيبتنا كبشر، والأصح، بل من الضروري، عزلها عن الأبعاد الأخرى في الهوية والشخصية. ولا يرفض هذا العزل الاّ التوتاليتاريون. إن الصدمة التي هزت أعماقي خلال مؤتمر المعارضة العراقية الأخير جاءت عندما أدركت أن المعارضة الأقوى لوصفة "العراق غير العربي" لم تكن من العرب أنفسهم بل من الأكراد. لقد صيغت هذه الفكرة توصلاً الى بروز فيديرالية لا تقوم على الاثنيات في العراق. لكن ظهر أن المدافع الأقوى عن الاثنية كأساس للفيديرالية انما كانت المنظمات الكردية نفسها، التي كنت آمل جرّها الى حوار عن الشكل المستقبلي لدولة العراق. ومستتبعات هذا الوضع لا تزال موضوعاً للدرس والتأمل، وهو ما ينبغي بحثه مع القيادة الكردية خلال اجتماع لجنة التنسيق للمعارضة العراقية في أربيل قريباً. كاتب عراقي مقيم في الولاياتالمتحدة.