تكتمل حلقة الاجماع على شروط التسوية السلمية للنزاع العربي - الإسرائيلي مع بقاء إسرائيل وحدها خارج الحلقة. مواقف الإدارة الأميركية نحو دموية الفعل الإسرائيلي وعنفه، مواقف هزيلة يكتنفها نوع من مصادقة الأمر الواقع عليه ناتج عن الامتناع عن ابلاغ ارييل شارون بحزم وحسم، أن عليه وقف نهج بطشه. وإلى أن يتبنى جورج دبليو بوش اسلوب توظيف الوزن الأميركي في العلاقة مع إسرائيل، كما فعل جيمس بيكر أثناء إدارة أبيه، لن يتمكن من إبراز ايجابيات مهمة تنطوي عليها مواقفه السياسية، وأبرزها أن الولاياتالمتحدة اليوم جزء من حلقة الاجماع، وهي لم تكن كذلك أبداً في الماضي. فهذه هي المرة الأولى التي تتلاقى فيها المواقف الأميركية والعربية والأوروبية والروسية على مبادئ و"خريطة الطريق" إلى التسوية، فيما إسرائيل تتخبط خارج الاجماع ممتنعة عن الحل السلمي وعازمة على احباط كل رؤية له. وليس هامشياً ما فعله مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة هذا الأسبوع في تأطير الاجماع على أسس الشرعية الدولية، ودعم المبادرة السعودية التي اطلقت المواقف العربية من قفص الصدأ. صعب جداً هضم مواقف سياسية، مهما كانت متطورة، في الوقت الذي يسقط الفلسطينيون ضحايا بطش قوات الاحتلال المتمثل في مجازر ومذابح واغتيالات واذلال وخروق مذهلة للقانون الدولي والعدالة وحقوق الإنسان. والأصعب، عند محاولة هضم المواقف، عندما تدّعي دولة عظمى، مثل الولاياتالمتحدة، التمسك بالشرعية الدولية والحقوق الإنسانية ثم تتغيب عن محاسبة منتهكيها وتعتمد سياسة تترك انطباعاً بأنها تعطي الضوء الأخضر لإسرائيل - الدولة التي تحميها وتمولها - لتنسف كل القواعد الإنسانية والقانونية في العرف الدولي. فالغضب في محله، ليس فقط من إسرائيل القائمة على العدوان بأبشع معانيه، وإنما أيضاً من الولاياتالمتحدة الرافضة وقفه بحزم، فيما تمتلك أدوات الحزم، لو قررت وتجرأت على استخدامها. وعلى رغم ذلك، ما يحدث على الساحة السياسية له دلالات لا يستهان بها يجب ألا توضع في خانة مجرد الالهاء عبر الخطاب السياسي لاستيعاب النقمة موقتاً، وما حصل في الأممالمتحدة هذا الأسبوع ليس أقل من حدث تاريخي. فالقرار الذي طرحته الولاياتالمتحدة في مجلس الأمن سجّل أكثر من سابقة، وفتح الباب لمعالجة جديدة للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. إذ دخل الطرف الدولي شريكاً رسمياً للطرفين العربي والأميركي في مشروع قيام دولة فلسطين. وتم التخلي عن تصنيف الحرب الدائرة بأنها فلسطينية - إسرائيلية لا يجوز لمجلس الأمن أن يأخذ موقفاً منها. وتزاوجت الرؤى المختلفة في رؤية قيام دولة فلسطين، للمرة الأولى في قرار لمجلس الأمن وفي تاريخ القضية الفلسطينية. جزء من الفضل في تحقيق هذه النقلة النوعية في الموقف الأميركي يعود إلى السفير جان نغروبونتي، ذلك الديبلوماسي الهادئ الذي يؤمن بالبحث عن وسائل توطيد الأرضية المشتركة، بما هو في المصلحة المشتركة برؤية وبصدق، ولو لم يكن في موقع السفير الأميركي لدى الأممالمتحدة رجل محترف بعيد النظر، لربما فاتت فرصة تبني مجلس الأمن القرار 1397. ففي مثل هذه الحالات يلعب الأفراد دوراً تاريخياً. فلو كان جان نغروبونتي غير ما هو عليه، أو لو كان السفير الأميركي رجلاً أو امرأة غير نغروبونتي، لربما احبط مشروع تسجيل "الرؤية" الدولية في القرار السابق، عمداً لأسباب سياسية، أو سهواً لعدم التقاط الفرصة والبناء عليها. نغروبونتي أفلح في تحويل الموقف الأميركي السلبي نحو مشروع قرار عربي إلى مبادرة تطرحها الولاياتالمتحدة للمرة الأولى في مجلس الأمن، على امتداد تاريخ القضية الفلسطينية. فَعَل ذلك عبر عملية اقناع دؤوبة ليس فقط لأعضاء المجلس وللأطراف العربية، بل لواشنطن أيضاً. فهي لم تكن في وارد طرح مشروع قرار في شأن فلسطين في المجلس على الاطلاق. وعندما تقوقع أعضاء المجلس ليل الثلثاء في مشاورات طويلة، انطلق الموقف الأميركي من الاعتراض على مشروع القرار العربي، إلى أن حوّله نغروبونتي إلى مبادرة. ما حدث أن السفير الأميركي المقرّب جداً من وزير الخارجية كولن باول عكف على استطلاع لغة بناءة، بدلاً من المواجهة السلبية في "فيتو" أميركي، وبدلاً من حصر مخاطبته الطرف العربي في العضو العربي الوحيد في المجلس، سورية. فسورية التي امتنعت وحدها عن التصويت على القرار الذي لقي دعم 14 دولة، كانت جزءاً من المفاوضات التي أجراها نغروبونتي مع أعضاء المجلس ومع الدول العربية، لكنها لم تكن القناة الوحيدة له مع الطرف العربي، بل إن السفير الأميركي نسَّق مع أكثر من سفير عربي ولجأ إلى معونة سفراء بينهم سفير الأردن الأمير زيد بن رعد والسعودية السفير فوزي شبكشي وفلسطين الدكتور ناصر القدوة، من أجل صوغ لغة تبني على نقاط التوافق بدلاً من الغوص في نقاط الاختلاف. وهكذا تمكّن من التوصل إلى وثيقة اجماع، علماً أن سورية لم تصوّت ضد القرار بل امتنعت عن التصويت. هذا الموقف أثار الفضول والاستغراب في أوساط الأممالمتحدة. بعضها عزاه إلى التشدد التقليدي في المواقف السورية، وفسرته أوساط أخرى بعدم تمكن سورية حتى الآن من التأقلم مع متطلبات عضويتها في مجلس الأمن ومسؤولياتها، فيما عزته أوساط أخرى إلى عقلية الكل أو لا شيء. السفير السوري ميخائيل وهبه برر الامتناع بقوله إن القرار "ضعيف"، عارضاً مصادر ضعفه، ثم قال: "يؤسفنا أن القرار لم يأخذ بالحد الأدنى الذي سيمكننا من التماشي معه، وهو الإشارة إلى مؤتمر مدريد ومرجعية عملية السلام العادل والشامل في المنطقة". وكذلك مطالبة إسرائيل باحترام اتفاقية جنيف الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب. قرار المجلس شدد على "ضرورة احترام قواعد القانون الإنساني الدولي المعترف بها عالمياً"، كما أشار إلى كل القرارات السابقة للمجلس ذات الصلة "لا سيما القرارين 242 و338" اللذين يشكلان أساس مرجعية مدريد. ولربما تمكن الوفد السوري من توسيع رقعة "الرؤية" التي "تتوخى منطقة تعيش فيها دولتان، إسرائيل وفلسطين، جنباً إلى جنب ضمن حدود آمنة ومعترف بها"، كما أكدها مجلس الأمن، لتشمل الشق السوري من المشاغل، لو عمل على ذلك الأساس. بدل ذلك، أثارت المواقف السورية انطباعاً لدى الأسرة الدولية بأنها خارج شبه الاجماع العربي على أهمية "الرؤية" الدولية وكذلك "رؤية" ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز. وبعض أعضاء المجلس لفت إلى أن التوتر كان جلياً بين الوفدين الفلسطيني والسوري ليس ليلة التصويت فحسب، بل كذلك قبلها بأيام، عندما وافق السفير السوري على اصدار مجلس الأمن مجرد بيان رئاسي للصحافة، فطار صواب المندوب الفلسطيني. وفي نهاية المطاف بدت سورية، وإن لم تكن تقصد، ممتنعة عن دعم قرار يؤكد رؤية قيام دولة فلسطين في سابقة تاريخية، لأن القرار لم يتطرق إلى الشق السوري من النزاع العربي - الإسرائيلي. بدت طيراً يغرّد في غير السرب الدولي أو العربي. ناصر القدوة، اعتبر القرار انجازاً مهماً في تاريخ القضية الفلسطينية، لأنه تضمن "قيام دولة فلسطين للمرة الأولى في التاريخ، ولأن هذه المرة الأولى في التاريخ تقدم فيها الولاياتالمتحدة مشروع قرار أمام مجلس الأمن عن الوضع الفلسطيني". ومندوب جامعة الدول العربية السفير حسين حسونة اعتبر اعتماد المجلس القرار "تطوراً تاريخياً في تناول المجلس قضية فلسطين... ويجب أن نشجعه ونبني عليه كعرب". وقال: "نتفهم الامتناع السوري، ولكن... في الإطار التاريخي هذا قرار مهم، على العالم العربي أن يبني عليه". الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان اعتبر أن القرار والمساهمة الأميركية في اطلاقه معنى مميزاً، فائق الأهمية في إطار التأثير على كيفية تناول الملف الفلسطيني - الإسرائيلي في مجلس الأمن، وعلى مواقف الطرفين ازاء توأمة الأمن والسياسة في أي حل. وكان أنان سجّل انقلاباً على نمط حذره المفرط قبل يوم من تبني القرار، وذلك في خطاب تعمد اطلاقه من منبر مجلس الأمن، طالب فيه الإسرائيليين شعباً وقيادة بانهاء الاحتلال وقصف المناطق المدنية والاغتيالات وهدم البيوت والاذلال واستخدام الأسلحة الثقيلة، كما طالب الفلسطينيين شعباً وقيادة بوقف كل عمليات التفجير الانتحارية والاستهداف المتعمد والعشوائي للمدنيين. قال إن الاحتلال "غير قانوني"، وان تعمد استهداف المدنيين "بغيض أخلاقياً". وأكد حق فلسطين وإسرائيل في العيش ضمن حدود آمنة معترف بها دولياً. وبين أهم ما قاله أنان أيضاً إن مبادرة الأمير عبدالله "عرضت رؤية واضحة ومهمة للسلام في الشرق الأوسط، تستند إلى قراري مجلس الأمن 242 و338، واناشد زعماء العالم العربي أن لا يتخلوا عن السعي إلى تحقيق السلام، بل بالأحرى أن يتوحدوا لمساندة هذه الرؤية". والأهمية الأخرى تكمن في دعوته مجلس الأمن إلى "ممارسة سلطته ونفوذه الكاملين خدمة لقضية السلام الحيوية". السفير الأميركي لبى تلك الدعوة من خلال اطلاق سراح مجلس الأمن من قفص منعه من تناول الملف الفلسطيني - الإسرائيلي، كما جرت العادة. بذلك، اطلق نغروبونتي إمكانات تفعيل دور المجلس في صوغ قاعدة الاجماع الدولي وصنع السياسة الدولية. كما فتح الباب على ثقة الأسرة الدولية بعزم الولاياتالمتحدة على ترجمة "الرؤية" التي طرحها الرئيس جورج بوش، وفصّلها كولن باول في خطاب لويفيل، إلى اجراءات عملية، بمساهمة دولية لتحظى بتأييد دولي، من دون استبعاد مجلس الأمن من هذه المساهمة. كل هذه المواقف والتطورات في الموقف الأميركي مهمة ولها أثرها في صميم مسيرة المنطقة. ومبادرة الأمير عبدالله ساعدت جداً في تمكين الإدارة الأميركية على من هذه الخطوات، لأنها طرحت "رؤية" عربية قلبت المقاييس والطاولة على طروحات الأمن الشارونية. والمهم جداً ألا يحصل تراجع في المواقف العربية بما يترك انطباعاً بأن فكرة الرؤية العربية موقتة. ومن الضروري لدول، بأهمية سورية وموقعها الدولي، أن تعالج افرازات مواقف لها، أو حتى مجرد انطباعات عن هذه المواقف، تصورها ممتنعة عن رؤية عربية جيدة. فهذا ليس في مصلحتها ولا في المصلحة العربية. فلتبقَ إسرائيل وحدها خارج حلقة الاجماع على شروط التسوية، إلى حين ادراكها أن لا خيار أمامها سوى هذه الشروط، أو الانتظار إلى حين حسم العنصر الديموغرافي مصيرها بعد نصف قرن، وفي بحر دماء ضحيته الفلسطينيون والإسرائيليون.