يفيد استقراء للمهن التي مارسها رؤساء الوزراء في الحكومات المغاربية المتعاقبة، ان الطب والمحاماة جاءا في مقدمها. ويرى مراقبون أنه في الوقت الذي تنشغل فيه المنتديات السياسية في البلاد بشخصية رئيس الوزراء في حكومة ما بعد اقتراع 2002، تبدو الغلبة وكأنها تسير في اتجاه مهنة المحاماة، لكن في إطار حجم النفوذ السياسي لصاحبها. فالتجديد لرئيس الوزراء الحالي السيد عبدالرحمن اليوسفي، زعيم "الاتحاد الاشتراكي"، إن حدث، سيكون تجديداً للمحامي اليوسفي الذي عرف عند مرافعاته في قضايا الدفاع عن حقوق الإنسان. وعلى رغم ان ملفات المحاكمة تحتفظ بصوره معتقلاً على خلفيات أحداث عام 1963 بين المعارضة والقصر، أو مُتهماً في ما يعرف ب"محاكمة مراكش" لعام 1971 ضد متهمين بمحاولات إطاحة النظام، فإن اختياره رئيس وزراء عام 1998 طوى صفحة الاحتقان السياسي الذي عرفته البلاد في الستينات والسبعينات. واختار المحامي اليوسفي العائد من المنفى أن يرافع برسم تحسين صورة البلاد في الجانب السياسي، وإن كان أداء حكومته اقتصادياً واجتماعياً اعترته صعوبات وجلب عليه مزيداً من المتاعب، لكنه حقق كسباً مهماً من خلال الاشراف على انتخابات الجمعة الماضي. إذ كان يردد: "في حال انجاز المهمة على طريق القطع مع بلقنة الحياة السياسية، فإن ذلك كسب كبير". بيد أن استمرار ملفات عالقة لم تتمكن حكومته من انجازها يُعزز طروحات متداولة بإمكان التجديد له لفترة عامين على رأس الحكومة، كونه يستطيع تأمين تحالف وزاري من أربعة أحزاب على الأقل. وكان لافتاً أنه، على عكس قياديين آخرين في "الاتحاد الاشتراكي"، أمسك العصا من وسطها في المواجهات الإعلامية مع الإسلاميين، ما جعل قياديين في حزب "العدالة والتنمية" لا يستبعدون التحالف مع شخصه، شرط ان يكون الاتفاق يميل لانصافهم. إلا أن القيادي في "العدالة والتنمية" عبدالإله بن كيران قال أمس إن الرأي العام داخل حزبه يغلب عليه عدم المشاركة في حال كان "الاتحاد الاشتراكي" في رئاسة الوزراء "لاعتبارات ترتبط باختيارات في قضايا تدبير الشأن العام ولارتهان مواقفه لأقلية فرنكوفونية متساهلة مع المشروع الصهيوني". ولم يستبعد القيادي بن كيران أيضاً المشاركة في حكومة يرأسها "الاستقلال". لكنه قال "لسنا مستعجلين للمشاركة مع احتمال مساندته". لكن ذهاب اليوسفي في حال إصراره على مغادرة الساحة السياسية والتقاعد، سيفسح في المجال أمام بروز شخصيتين هما: محمد اليازغي الكاتب العام للاتحاد الإشتراكي بالنيابة، وهو أيضاً محام متمرس، وعبدالواحد الراضي رئيس مجلس النواب، الاستاذ الجامعي الذي عُرف عنه الاعتدال، وكان دائماً صلة وصل بين المعارضة والقصر. ولعله الشخصية الوحيدة في "الاتحاد الاشتراكي" التي تولت منصباً في الحكومة وحزبها في المعارضة. فقد عمل وزيراً للاتحاد العربي الافريقي خلال فترة الوحدة بين المغرب والجماهيرية الليبية عام 1984. أما اليازغي فكان من قاد المفاوضات مع القصر لتشكيل حكومة 1994 في غياب اليوسفي الذي كان غادر البلاد احتجاجاً على ما وصفه وقتذاك ب"تزوير الانتخابات". ويقول منتقدوه انه أفسح في المجال أمام استئثار "الاستقلال" بدور بارز في الحكومة التي لم تعرف النور. حزب الإستقلال في حكومة الائتلاف التي قادها أحمد عصمان، رئيس الوزراء السابق عام 1977، حصل حزب "الاستقلال" على 8 حقائب وزارية. أبرزها تولي أمينه السابق محمد بوستة رئاسة الديبلوماسية المغربية، في حين اسندت وزارة الاسكان إلى زعيمه الحالي عباس الفاسي الذي اصبح وزيراً للصناعة التقليدية في تعديل وزاري عام 1979. واختاره الملك الراحل الحسن الثاني موفداً لعواصم افريقية ودولية عدة في مهمات ارتبطت بتطورات قضية الصحراء وقتذاك. وحين غادر "الاستقلال" الحكومة في منتصف 1985، إثر الانتخابات الاشتراعية لعام 1984 والتي انتقدها بشدة، اختاره الملك الراحل سفيراً للمغرب في تونس ثم باريس، قبل ان يعود للالتحاق بمكتبه في المحاماة في شارع علال بن عبدالله في الرباط في العمارة نفسها التي تضم مكتب زعيم "الاستقلال" محمد بوستة. لكن الفاسي وجد نفسه وقتها أمام صورة معادلة جديدة: الإعداد للمؤتمر الوطني ل"الاستقلال" وفشل الحوار بين المعارضة والقصر لتشكيل حكومة أقلية اسندت رئاستها إلى محمد بوستة. لكنه قبل بدئه مشاوراته مع الحلفاء، صدر بيان مقتضب من الديوان الملكي يصف طلب المعارضة إبعاد الوزير القوي ادريس البصري من الداخلية بأنه مرفوض ويطاول الصلاحيات الدستورية لملك البلاد. لكن مفاجأة المؤتمر الطارئ ل"الاستقلال" لعام 1998، على خلفية انتخابات 1997، تمثّلت بالإتيان بعباس الفاسي أميناً عاماً للحزب، خلفاً لمحمد بوستة. لكن حزب "الاستقلال" الذي اقترب من رئاسة الحكومة عام 1984، ابتعد عنها في 1998 واكتفى بدعم رئيس الوزراء عبدالرحمن اليوسفي في حكومته الأولى في ذلك العام، من دون اسناد أي منصب وزاري للفاسي. ويقول مراقبون إن اليوسفي الذي لم يكن مرتاحاً لانتقادات الفاسي لحكومته، اختاره وزيراً للعمل في الطبعة الثانية لحكومته عام 2000، ليحقق بذلك هدفين. أولهما جذب الفاسي إلى الوزارة كي يكون شريكاً في تحمل مسؤولياتها في إدارة الشأن العام، وثانيهما جعل زعيم أقوى حزب متحالف "الاتحاد الاشتراكي" وزيراً تحت إدارته. ولا يعرف إن كان الوزير الفاسي أدرك ذلك أم انه راهن وقتذاك على الانتقال من وزارة العمل إلى رئاسة الحكومة. فالرجل محام، كما هي مهنة اليوسفي، لكنه، بحسب مقربين منه، طموح إلى حد كبير. وبدا ان رهانه من أجل تجديد النخب السياسية داخل الحزب خطوة لتقريب المسافة بينه وبين رئاسة الحكومة. وفي أقل تقدير، فهو لا يريد اضاعة الفرصة على حزبه، كما حدث عام 1984، مع فارق أن زعيم الاتحاد الاشتراكي عبدالرحمن اليوسفي كان بعيداً عن تلك المفاوضات وشارك فيها الرجل الثاني في "الاشتراكي" المحامي أيضاً محمد اليازغي. ومن بين المحامين الثلاثة تبرز شخصيات أخرى مثل عبدالواحد الراضي رجل التسويات، وفتح الله ولعلو مهندس الاقتصاديات. لكنها المرة الأولى التي يغيب فيها رجال من مهن أخرى عن فضاء المنافسات حول رئاسة الوزراء. وكان الملك الراحل الحسن الثاني يختار غالباً رجاله من مهنتي الطب أو المحاماة. فمن بين حوالى 15 رئيس وزراء كان هناك حوالى خمسة أطباء، منهم عبداللطيف الفيلالي وعزالدين العراقي وأحمد العراقي ومحمد بنهيمة، وكان هناك محامون أمثال المعطي بوعبيد وعبدالرحمن اليوسفي. لكن باب التكهنات لرئاسة الحكومة سيبقى مفتوحاً حتى صدور التكليف الملكي، وهو أمر متوقع في غضون الأيام المقبلة.