استحوذ تقرير "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، على اهتمام العاملين في حقلي السياسة والاستراتيجيا. واسترسل الكثير من هؤلاء في تفسيره وشرحه. ومنهم من استنكر ما ورد فيه، معتبراً اياه منحازاً لإسرائيل. حتى ان البعض نعى امكان تطوير العملية السلمية في شكل عادل في الشرق الأوسط، في فترة تسلم الرئيس جورج دبليو بوش مقاليد السلطة. ولا بد للمتابع لتاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، ودور الولاياتالمتحدة فيه، من مقاربة التقرير من زاويتين مختلفتين. تتعلق الأولى بتوقيته. والثانية، في مضمونه الذي لم يأتِ بشيء جديد. في التوقيت، قد يكون دُعر المعنيين بالأمر يعود الى توقيت اصدار هذا التقرير. فهو أتى عشية مغادرة أدارة أميركية منحازة لإسرائيل ومنغمسة في شكل كامل في العملية السلمية، ما أثار مخاوف ان تعتمد الادارة الجديدة العناوين المقترحة فيه، الأمر الذي قد ينهي وفي شكل كامل ما يسمى بالقضية الفلسطينية. يضاف الى ذلك التغيير في إسرائيل وتبوّؤ شارون رئاسة الوزارة. هذا لجهة التوقيت، فماذا عن المضمون؟ لا بد لأية مقاربة أن ترتفع عن بنود التقرير، وترتقي الى المستوى الذي يظهر الصورة الكبرى. والمقصود بهذه الصورة، هو في تظهير وضع أميركا الحالي، ونظرتها الى العالم، وتزعمها للعالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وعدم بروز قوى جديدة تشكل تحدياً لها. أمبراطورية مهيمنة وكون أميركا أمبراطورية مهيمنة كان أول ما يهمها هو الحفاظ على النظام الذي فرضته. ويبدو الاستقرار على الساحة العالمية من الأهداف الرئيسية. فهي تحاول ادارة الأزمات، تجنباً للانفجارات التي اذا ما توسعت قد تؤدي الى تغيير معايير النظام القائم. فهي بدّلت سياسة الاحتواء للاتحاد السوفياتي، عبر فتح قنوات الاتصال مع كوريا الشمالية، والانفتاح على بلدان آسيا الوسطى، وتوسيع رقعة انتشار الحلف الأطلسي الناتو. هذا لجهة روسيا، أما لجهة الصين الصاعدة، فإن الأمر يختلف كلياً. ويعود ذلك الى اعتماد الولاياتالمتحدة استراتيجية مزدوجة تقوم على الاحتواء - التورط. الاحتواء لمنعها من البيع والحصول على التكنولوجيا المتطورة التي تستعمل في أسلحة الدمار الشامل، والتورط، عبر توقيعها اتفاق التجارة الدائمة معها ومساعدتها على الانضمام الى منظمة التجارة الدولية، الأمر الذي سيؤدي الى ازدهار صيني اقتصادي داخلي، يساعد على تصويب البوصلة السياسية الصينية، ولعبها دور مشارك أكثر انفتاحاً وليبرالية. وبعيداً عن روسيا والباسفيك، تعمدت أميركا المهيمنة خلق اعداءٍ محتملين، وذلك من خلال الذهنية التي تبحث عن عدوٍّ يبرر الحفاظ على قدر متقدم من الجهوزية العسكرية المتقدمة. فكانت الدول المارقة، وكان مشروع شبكة الصواريخ المضادة للصواريخ. ولكي نفهم الصورة الكبرى للعالم، وكيف تنظر اميركا اليه بصورة أعمق. لا بد لنا من ان نقارب الموضوع من زاوية مختلفة تقوم على شرح الشقّ العسكري للاستراتيجية الأميركية. في هذا الاطار، قسمت الاستراتيجية العسكرية الأميركية الكرة الأرضية الى خمس قيادات هي: قيادة الباسفيك، القيادة الجنوبية أميركا الجنوبية، القيادة الأوروبية، والقيادة الوسطى أما روسيا، كندا، والمكسيك فهي تحت القيادة المباشرة لرئيس الأركان ومركزها في البنتاغون. وما يهمنا من هذه القيادات، وله علاقة بمضمون تقرير معهد واشنطن، هي القيادة الوسطى، كونها تضم الشرق الأوسط. ما هي هذه القيادة؟ تتمركز قيادة "القيادة الوسطى" في تامبا فلوريدا مع عديد يقارب 1050 شخصاً يضاف اليهم 450 شخصاً موزعين بين البنتاغون والقيادة الاقليمية في منطقة الخليج. تضم هذه القيادة ضمن مسؤولياتها 25 دولة، انطلاقاً من القرن الافريقي مصر، السودان، ليبيا، الصومال... الخ. مروراً بمنطقة الشرق الأوسط لبنان، السعودية، العراق، سورية، إسرائيل... الخ، وحتى دول آسيا الوسطى التي تحيط بروسيا، والغنية بالذهب الأسود، لم يعيّن لهذه القيادة قوات بصورة دائمة. وتبلغ موازنتها ما يقارب ال55 مليون دولار عام 2000 وتقوم مهمتها الرئيسية على الآتي: حماية المصالح الأميركية، تأمين تدفق موارد الطاقة بحرية من المنطقة في شكل مستمر، دعم الدول الصديقة واشراكها في المهمات الأمنية الاقليمية، وردع أو منع أية دولة اقليمية من تحقيق أهداف جيو - سياسية، عبر التهديد أو استعمال القوة. وهذا ما حصل فعلاً في حرب الخليج الثانية. الركائز الأساسية إذاً، وبعد هذا العرض لخصائص الامبراطورية الأميركية المهيمنة، ولسياستها العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، يمكننا وبسهولة استنتاج الركائز الأساسية لاستراتيجيتها. فبين الهيمنة، والسعي الدائم لتثبيت هذه الهيمنة يمكننا استنتاج الأهداف الأميركية الآتية في منطقة الشرق الأوسط: أولاً: الاستقرار والهدوء في المنطقة. انطلاقاً من وضعها المهيمن تسعى أميركا الى جعل هذه المنطقة مستقرة عبر سياسات متعددة ورد في التقرير: تجنب حرب اقليمية. ومن هنا يمكن للمضطلع استقراء سبب جعل اسرائيل دولة متقدمة عسكرياً رادعة، بطريقة تجعل اللجوء الى الحرب من قبل العرب أمراً مستحيلاً ومكلفاً في الوقت نفسه ورد في التقرير: التوكيد على التحالف غير المكتوب مع إسرائيل. فالتعاون الاستراتيجي، هو على قدم وساق بين الدولتين خصوصاً في مجال الصواريخ المضادة للصواريخ آرو. وخير دليل على ذلك وعد بيل كلينتون عشية مغادرته البيت الأبيض بيع إسرائيل الطائرات المتطورة ف - 22. وفي هذا الاطار، يمكن ايضاً للمستبحر أن يرى ويضع الدور السوري في لبنان وكأنه يصب في اطار الحفاظ على الاستقرار، نظراً لما قد يشكله الاضطراب لبنان من خطر على هذا الاستقرار. ثانياً: التركيز على الدول المحورية. ورد في التقرير، التعاون مع الدول الصديقة، وردع الخصوم لا يخرج هذا الهدف فعلاً عن المهمة الثالثة للقيادة الوسطى، التي تعتبر احدى الركائز الأساسية الذراع العسكري للسياسة الكبرى لأميركا. لذلك عمدت اميركا الى اختيار دول محورية في منطقة الشرق الأوسط، وعملت على نسج علاقات متينة معها في مختلف المجالات. وتبدو مصر العمود الفقري لهذه الاستراتيجية، وكان لتحييدها عن طريق الصراع الأثر الكبير. فهي تقع في وسط الامتداد الجغرافي للعالم العربي بين مغربه ومشرقه، ومن دونها لا حرب، نظراً لوزنيها العسكري والديموغرافي السكاني. وهي تشكل الراعي الاقليمي للعملية السلمية، والساعي الى تنظيم وضبط درجة العنف المسموح به في الأماكن الحارة كي لا تنهار أسس السلام الموجودة. وتبدو زيارة الرئيس حسني مبارك الى لبنان بعد ضربة إسرائيل خير دليل على ذلك. كما يبدو رفضه أي مبارك أيضاً للحرب، كوسيلة للحل السياسي، عشية انعقاد مؤتمر القمة في القاهرة وكأنه يصب في خانة المهمات الموكولة. كل هذا لقاء مساعدات عسكرية واقتصادية. هذا لجهة مساعدة الاصدقاء. أما لجهة ردع الخصوم وردت في التقرير، لا بد من التمييز بين العراقوايران. لكن ليس لأن التقرير اقترح ذلك، بل لأن المعطيات والثوابت هي التي تحدد استراتيجية المقاربة عموماً. أما المتغيرات الآنية الطارئة، فهي التي تحدد المقاربة السياسية القصيرة الأمد. ويبدو في هذا الاطار، ان البلدين خصائصهما الثابتة والمتغيرة، مع اختلاف في الأهمية بالطبع بينهما. منذ الثورة الاسلامية وحتى اليوم، طرأت تبدلات على السلوك السياسي الايراني. وبدأت العقلانية تحل مكان الحماسة، حتى ولو كان المتشددون يشكلون قوة ضاغطة. ويبدو التفريق بين ايرانوالعراق أمراً مفروغاً منه، لأسباب كثيرة تعود الى موقع ايران الجيو - استراتيجي المهم جداً، الذي لن يتغير لا قبل ولا بعد تقرير معهد واشنطن. فايران، وانطلاقاً من دور اميركا وسياساتها الكبرى، تشكل دولة محورية مهمة لأسباب عدة منها: الموقع الجغرافي الذي يجاور روسيا الاتحادية، على رغم استقلال بعض الدول الاسلامية عنها، فهي، أي ايران، تجاور بلدان آسيا الوسطى الغنية بالنفط، وتشكل عائقاً أمام تركيا لتحقيق حلمها الطوراني. كما تشكل ايران عدواً محتملاً للعراق عند اللزوم. وأخيراً وليس آخراً، أنها تقع على الخليج الفارسي- العربي، وعلى الممر الاستراتيجي هرمز الذي يؤمن تدفق النفط الى الدول الصناعية وهو من ضمن المهمات الأساسية للقيادة الوسطى. أما العراق، فهو سيبقى على لائحة الاحتواء مع أم من دون تقرير "معهد واشنطن"، وذلك لأنه لا يزال "العنصر المشاغب" في المنطقة، على رغم خسارته في حرب الخليج، الأمر الذي يهدد الاستقرار. ويبدو هذا الأمر واضحاً تماماً في صلب مهمات القيادة الوسطى. ويتمثل خطر العراق في أمرين: الأول، في حال انفتاحه وتحالفه مع سورية مجدداً، الوضع الذي قد يعيد رسم خريطة المنطقة الاستراتيجية، وأبدت واشنطن قلقها من هذا التقارب، عبر ارسال اشارات متعددة، تارة عبر اسرائيل عندما أبدت هذه الأخيرة قلقها من الحشود العراقية الوهمية على الحدود السورية وطوراً عبر "زكزكة" سورية في لبنان، وتحديداً بعد ان استدارت نحو عمقها الاستراتيجي المتمثل بالعراق وصولاً الى ايران. اسلحة الدمار ويتمثل الأمر الثاني، في حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل. اذ تعتبر هذه الأسلحة من العوامل الممكنة التي تهدد الاستقرار، كونه يمكن استعمالها من دون خوض حرب تقليدية، والتحكم فيها عن بُعد. وهي قد تكون الشرارة الأولى لأية حرب اقليمية. قصف العراق لإسرائيل بأكثر من 30 صاروخاً ابّان حرب الخليج. ثالثاً: ايجاد حلٍّ للقضيّة الفلسطينية. تعتبر القضية الفلسطينية كالصاعق الجاهز في أية لحظة لتفجير الوضع وتهديد الاستقرار في المنطقة ككل، وذلك بسبب الترابط العميق بينهما فهي قضية عربية، في محيط عربي. وقضية اسلامية، في محيط اسلامي. أية شرارة تنطلق من فلسطين تمتد الى دول الجوار. وخير دليل على ذلك ما حصل خلال القمتين العربية والاسلامية. لذلك يبدو الاستقرار في المنطقة حيوي للولايات المتحدة عبر استمرار الديبلوماسية حتى ولو كانت غير منتجة. فهي ضرورية، لأن غيابها يعني الحرب وهذا مرفوض في المبدأ. أما الدروس من "اتفاق أوسلو"، واشراك الأممالمتحدة، والاتحاد الأوروبي وردت كلها في التقرير، فهي الاتجاه الطبيعي للأمور. ففي ظل ادارة جديدة اعلنت مسبقاً عن تحفظها من التدخل والتورط في شؤون العالم عقيدة باول، الا اذا كانت المصالح الحيوية الاميركية مهددة. ويبدو ان السياسة الأميركية المحتملة تجاه العملية السلمية في المنطقة سوف تقوم على الأسس الآتية: قيادة ورعاية أميركية للعملية السلمية من دون التورط عبر تقديم مشاريع خاصة، جعل الفرقاء يتحاورون مباشرة توصلاً لايجاد الحلول لأن التجربة في هذا المجال كانت مشجعة أوسلو " كامب ديفيد1، حشد الدعم الأوروبي والأممالمتحدة والعربي لتسهيل قبول التنازلات، واستمرار احتواء الأنظمة المعارضة مع الانفتاح التدريجي على ايران. باختصار، ضبط عن بُعد. تسيير وتسهيل. ردع لمنع الانفجارات الكبيرة. وذلك من دون التورط المباشر الذي سينعكس سلباً على اميركا في حال فشل. وفي النهاية، يمكننا الجزم انه لا داعي للقلق من التقرير وانتخاب شارون رئيساً للوزراء الذي لم يأتِ بشيء جديد. فشعوبنا وقياداتنا لديها من التراكمات والتجارب ما يكفي لاستشراف، ووضع خطط المستقبل، بغض النظر عمن هو موجود في الادارة الأميركية. وتكمن أهمية التقرير، عدا في توقيته، وتوجيهه الى الادارة الجديدة، في أنه ايضاً رسم لنا كعرب، ما يمكن ان تكون عليه الأمور في المنطقة مستقبلاً. فلنشكر بطريقة غير مباشرة معدّي التقرير، الذين ذكروا من يعنيهم الأمر بالمخاطر المستقبلية. ويكفينا في الختام ذكر بعض الأسماء التي ساهمت في اعداده أي التقرير لنستنتج الاهداف المخفية. فهناك الكسندر هيغ، انطوني لايك، جوزف ليبرمان، روبرت بلليترو، دانيال بايبس وجوفري كمب وغيرهم. لكن معرفة هذه الأسماء لا تلغي مسؤولية العرب من التخطيط والاستعداد للآتي. فإلى الامام. * كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد.