انتهت امس الجمعة المناورات البحرية التركية - الاسرائيلية - الاميركية تنفيذاً لخطة مشتركة وصفت بأنها انسانية تتعلق بتدريبات على انقاذ سفن الصيد. وحرصت الدول الثلاث على تأكيد ان تلك المناورات ليست موجهة ضد طرف ثالث، بدليل انها خالية من اي عمل قتالي. ولقد اختارت لها القيادة الاميركية اسماً غير عسكري هو "حورية الماء" على امل اقناع الدول المستنكرة مثل سورية ومصر والعراق ولبنان وليبيا وإيران وروسيا، بأن مهمتها الانسانية لا تشكل خطراً على دول الجوار. ورأى المراقبون في اطلاق اسم "حورية" على المناورات، وصفاً يليق بتركيا، الدولة المزدوجة الشخصية كالحورية الخرافية المكوّنة من جسد امرأة وذيل سمكة، خصوصاً ان موقعها الجغرافي الفريد الفاصل بين قارتين، جعلها تستحق لقب "جانوس" اله الابواب عند الرومان، وصاحب الرأس ذي الوجهين. ذلك ان وجهها الغربي يطل على اليونان وبلغاريا، بينما يتطلع وجهها الشرقي نحو جورجيا وأرمينيا وأذربيجان وسورية والعراق وإيران. وكان من الطبيعي ان ينتج عن تفاعلها الطويل مع العالمين الاسلامي والأوروبي، وضع داخلي قلق صدّع البنية السياسية وخلق هوة واسعة بين الجيش حارس الارث العلماني... وبين التيار الاسلامي المتمثل بحزب "الرفاه". يجمع المراقبون على القول بأن ازدياد التجاذب بين هذين التيارين يعود بالأصل الى زوال ضغوط الاتحاد السوفياتي السابق الذي استمر في تهديد تركيا طوال نصف قرن تقريباً. كما يعود بالتالي الى تحول مصادر التهديد من الشمال الى الحدود الجنوبيةوالشرقية المتاخمة لإيران والعراق وسورية. صحيح ان تركيا لعبت دوراً استراتيجياً مهماً اثناء حرب الخليج... ولكن الصحيح ايضاً ان هذا الدور قد تقلص بعد ظهور سياسة "الاحتواء المزدوج" المحاصرة لإيران والعراق، وبعد فشل مفاوضات السلام على المسار السوري. وتزامنت هذه التطورات مع فوز حزب "الرفاه" في انتخابات اوصلت نجم الدين اربكان الى رئاسة الحكومة. وكان من نتيجة هذا الانقلاب السياسي المفاجئ ان فرضت الولاياتالمتحدة حظراً خفياً على امداد الجيش التركي بالسلاح خوفاً من سقوط النظام في يد الاسلاميين كما جرى في ايران. كذلك عاقبها الاتحاد الأوروبي بتجميد قبول عضويتها لأسباب تتعلق بفشل الممارسات الديموقراطية، وعدم تطبيق حقوق الانسان، وتردي الوضع الاقتصادي، وتورط الجيش في حرب استنزاف ضد الأكراد استمرت 14 سنة. المؤسسة العسكرية التي انقلبت على السياسيين ثلاث مرات خلال الأربعين سنة الماضية، رأت انه من حقها كمؤتمنة على سلامة النظام العلماني الاتاتوركي، موازنة تيار الاسلاميين بتسريع التقارب مع اسرائيل. وأعطت المؤسسة اياها ثلاثة اسباب جوهرية دفعتها لاختيار هذا التحول، وهي: اولاً - السبب الأمني الناتج عن تهديد الاستقرار الداخلي من قبل منظمات وأحزاب متعاطفة ومتعاونة مع سورية وإيران والعراق. ولقد وعدتها اسرائيل بمنع ايران من امتلاك اسلحة الدمار الشامل، وبالعمل على ربط انسحابها من الجولان بضرورة تخلي دمشق عن دعم حزب العمال الكردستاني. وتعهدت انقره بزيادة حصة سورية من مياه نهر الفرات كتعويض عن المياه التي استولت عليها اسرائيل بعد احتلال هضبة الجولان عام 1967، والتي تشكّل 35 في المئة من مصادر المياه المستعملة في اسرائيل. ثانياً - استخدام التحالف مع الدولة العبرية لتكليف اللوبي اليهودي بافشال مساعي اللوبي اليوناني المؤثر على قرارات الكونغرس. ولقد طلب رئيس الوزراء التركي مسعود يلماز اثناء اجتماعه بأقطاب اللوبي اليهودي في واشنطن، مساعدة بلاده للحصول على دعم مالي وعسكري من الولاياتالمتحدة، والضغط على زعماء الاتحاد الأوروبي لقبول طلب انضمام تركيا. ثالثاً - في اعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي راحت تركيا تتطلع الى العراق وسورية وإيران وكردستان العراق، كمصادر تهديد تعكر صفو الاستقرار الداخلي. ولجأ العسكريون في أنقره الى التعاون مع اسرائيل كحل خارجي يعينهم على ممارسة ضغوط اقليمية تخفف عنهم وطأة الحصار على الحدود الشرقيةوالجنوبية. السؤال الذي طرحته المناورات المشتركة هذا الاسبوع يتخطى الاهداف المعلنة ليصل الى طبيعة التعاون السري بين تركيا واسرائيل، وهو تعاون أمني وصناعي وصل الى حد التحالف الاستراتيجي لكثرة ما تضمن من عقود ملزمة وعلاقات وثيقة بين المؤسستين العسكريتين. وبسبب هذا التحالف الخطر على النظام الاقليمي، اشتدت الحملات ضده في مصر والعراق وإيران وسورية ولبنان. كما اشتد انتقاد موسكو التي نقل الوزير بريماكوف اعتراضها الى المسؤولين الاسرائيليين اثناء جولته الاخيرة في المنطقة. واشتكى امام الوزيرين موردخاي وليفي المستقيل لاحقاً من الدعم الذي تقدمه اسرائيل لتركيا، الامر الذي يغير موازين القوى في المنطقة ويضرّ بمصالح روسيا، خصوصاً بعد الجهود التي قامت بها الدولتان لعرقلة نشر صواريخ "اس - 300" في قبرص. وذكرت الصحف في حينه ان ديفيد ليفي انتقد بدوره دعم موسكو المتزايد لطهران، مشيراً الى مساعدتها لتطوير صواريخ عابرة للقارات. وقال له ان هذا التعاون سيحول ايران عام 1999 الى دولة اقليمية كبرى قادرة على تهديد اسرائيل. ويستدل من مراجعة تاريخ التعاون التركي - الاسرائيلي ان الاتصالات السرية بدأت اثر انسحاب القوات الاسرائيلية من بيروت والجبل عام 1984. ثم تطورت الى علاقات مكشوفة بعد توقيع اتفاقات السلام مع الفلسطينيين والأردن، بسبب تأييد الرأي العام التركي لهذه السياسة. ومع ان اتفاق التعاون التقني - العسكري لم يوقع قبل شهر آب اغسطس 1996، الا ان اتفاقاً سابقاً بينهما عقد قبل ستة اشهر، وهو يتضمن ثلاثة عناصر: اولاً - تشكيل مجموعات عمل مشتركة تُعنى بالشؤون الاستراتيجية وينضم اليها الأردن لاحقاً اذا رغب. ثانياً - التعاون التام على صعيد الاستخبارات والاجهزة الامنية. ثالثاً - تدريب الجيش التركي على حرب الاستنزاف ضد الاكراد. ويرى المعلقون ان ازاحة نجم الدين اربكان من رئاسة الحكومة كانت بسبب توجهه السياسي الهادف الى ربط مستقبل تركيا بمحيطها العربي والاسلامي. ولقد حثت اسرائيل المؤسسة العسكرية التركية على ابعاده عن الحكم بعد المحاولات التي قام بها لعرقلة توقيع اتفاق يقضي بصيانة سلاح الجو التركي في معامل مؤسسة الصناعة الجوية الاسرائيلية. وخشية ان يفوز حزب "الرفاه" مرة ثانية في انتخابات 1998 ويستمر بتجميد عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، يحاول رئيس الحكومة مسعود يلماز تأجيل موعد الانتخابات سنة اخرى. وفي تقدير الحكومات الأوروبية ان تدخل المؤسسة العسكرية التركية في العملية الديموقراطية سيؤدي الى ظهور احزاب اسلامية اكثر تشدداً من "الرفاه"، الامر الذي يؤثر على التوازن الداخلي ويدفع المجتمع التركي الى تقليد المجتمع الجزائري. ومن المقرر ان تصدر المحكمة الدستورية آخر هذا الشهر قرارها النهائي بحظر نشاطات حزب "الرفاه" لأنها تتنافى مع النظام العلماني للدولة. رئيس الاركان الاسرائيلي امنون شاحاك، وقائد سلاح الجو إيتان بن الياهو، ومدير عام وزارة الدفاع ايلان بيران ومساعد وزير الدفاع ديفيد عفري، هم الذين وقعوا مختلف الاتفاقات العسكرية المؤدية الى عقد تحالف استراتيجي بين الدولتين. ويتضمن هذا التحالف اهم التوصيات التالية: اولاً - قيام شركات صناعة الطائرات الاسرائيلية بصيانة اسطول طائرات "اف - 4" الحربية التركية وتحديثها لقاء 630 مليون دولار. ثانياً - التعاون في انتاج صاروخ "بوباي" ارض - جو الاسرائيلي لمصلحة الجيش التركي. ثالثاً - تشتري انقره دبابات "ميركافا - 3" وصواريخ أرض - جو من طراز "ارو" وصواريخ جو - جو من طراز "بايتون" وطائرات الانذار "فالكون". رابعاً - منح سلاح الجو الاسرائيلي قدرة التحليق والتدريب في اجواء تركيا التي افتقدها بعد استرداد صحراء سيناء. وينص هذا الاتفاق على السماح ايضاً للقوات الاسرائيلية باستبقاء 8 طائرات حربية في قاعدة تركية قريبة من حدود ايران، مقابل استبقاء 8 طائرات تركية في قاعدة جنوب اسرائيل، علماً بأن اسرائيل ستحصل هذا العام على 21 طائرة من طراز اف - 151 يبلغ ثمن الواحدة منها 84 مليون دولار. وتتميز هذه الطائرة بقدرتها على التحليق لمسافات بعيدة جداً اذ تتمكن من الطيران مسافة 4500 كيلومتر من دون التزود بالوقود. ويقول الوزير موردخاي انه بوسع سلاح الطيران بعد اليوم ضرب اهداف بعيدة مثل ايرانوالعراق وليبيا. خامساً - بناء محطات تنصت ومراقبة اسرائيلية على الحدود التركية مع سورية وإيران، هدفها رصد قواعد الصواريخ الايرانية ومراقبة تحركات القوات السورية في الشمال. سادساً - السماح لجهاز "موساد" بتوسيع نشاطه عبر مكتبه في اسطنبول، خصوصاً لجهة بناء شبكة تجسس ضد سورية بواسطة عملاء يصعب الاشتباه بأمرهم. لذلك رفضت دمشق منح تأشيرات دخول لسائقي الشاحنات الأتراك الراغبين في الاتجار بالوقود. وردت تركيا بمنع شاحنات السوريين. لهذه الاسباب وسواها شنت وسائل الاعلام في دمشق حملة قوية ضد المناورات التي اعتبرتها مدخلاً لتأسيس حلف معاد يهدد أمن المنطقة وخصوصاً سورية. وكتبت صحيفة "تشرين" الرسمية افتتاحية تطالب فيها بوجوب قيام تحرك دولي فاعل لانقاذ مستقبل الأمن في الشرق الأوسط من ممارسات ستؤدي لا محالة الى الهاب المنطقة اذا لم يجر تطويقها وردعها. يقول المراقبون الديبلوماسيون ان الادارة الاميركية تحاول احياء اجواء الاحلاف العسكرية التي سادت في النصف الثاني من الخمسينات في عهد وزير الخارجية فوستر دالس. وبما ان حصار الشيوعية ومنع تقدمها نحو آبار النفط قد تراجعا في الأهمية اثر انهيار الاتحاد السوفياتي... فإن الأهمية الأولى تتركز على تشكيل حلف اطلسي جديد تكون فيه أقوى دولتين عسكريتين في المنطقة - اي تركيا واسرائيل - صاحبتي الدور الفاعل والمؤثر في اعادة تشكيل النظام العربي. وفي هذا الاطار نشرت صحيفة "واشنطن تايمز" تقريراً لوكالة الاستخبارات المركزية الاميركية يدعي ان سورية والعراق تمهدان لتشكيل تحالف ضد الولاياتالمتحدة. ولقد حرص التقرير على الزعم بأن التحالف المتوقع سيكون ضد اميركا لأن ذلك يقوي الوحدة الداخلية في الولاياتالمتحدة، ويبرر دعم اسرائيل وتركيا لأن واشنطن اكتشفت بعد خمس سنوات عدواً جديداً يعوض عن غياب العدو الذي استثمرت النزاع معه مدة نصف قرن. ومعنى هذا انها تهيئ لخلق اجواء الحرب الباردة في الشرق الأوسط، وتؤسس لهذه الحرب بواسطة حلفائها مثل اسرائيل وتركيا. وهي تتوقع بالطبع ان ترد الدول العربية والاسلامية المتضررة من هذا الحلف بانشاء تكتل يحمي نفسه باتفاق يشبه الدفاع المشترك. وفي رأي الأوروبيين ان مخاوف العرب من اسرائيل وتركيا لها ما يبررها على صعيد التاريخ السياسي. وهم يعتبرون التحالف العسكري الجديد نوعاً من التواطؤ بين المضطهِد القديم للعرب... وبين المغتصِب الجديد، خصوصاً وان المضطهد القديم تركيا يحاول استخدام المغتصب الجديد اسرائيل كوسيلة لضمان امنه الداخلي، مقابل ضغط مشابه لإرغام العرب على قبول السلام الاسرائيلي!