لقد دشن الرئيس كلينتون عهده عام 1992، بعد فوزه على جورج بوش الاب، بقوله انه لا يريد ان يشخصن العلاقة مع العراق، وذلك رغبة منه في تشجيع بغداد على التعامل الايجابي مع قرارات مجلس الامن. وامام اصرار بغداد على التحايل والتلكؤ عاد كلينتون الى نهج سلفه بوش الاب في اعتماد الاحتواء سياسة ثابتة. واذا كان لكل رئىس اميركي حرب او مواجهة عسكرية تفتح له ابواب التاريخ، فإن كلينتون الذي تهرب من حرب فيتنام ولم يخدم في القوات العسكرية الاميركية، اراد النجاح عبر البوابة الاقتصادية، وهذا ما ضمن له، فعلاً، التجديد في الرئاسة. ان اقرب ما وصل اليه كلينتون من تحول لصالح التغيير في العراق باستخدام القوة، هو في نهاية عام 1998، اثر طرد المفتشين الدوليين من العراق، عندما اعلن ان سياسة اميركا هي الاحتواء زائداً العمل من اجل التغيير. ومع ذلك تحدى صدام حسين الادارة الاميركية بالاصرار على طرد المفتشين الدوليين، ولم يتجاوز رد كلينتون ضربات جوية وصفت ب "وخز ابر"، خدمت صدام واساءت الى سمعة وهيبة اميركا. لقد عول كلينتون على الاحتواء وبالتالي العقوبات الاقتصادية وسيلة لابقاء صدام حسين في صندوق مسيجاً بخطوط حمراء، واعتبرت واشنطن اي تجاوز لها سيقابل برد عسكري. وهذه الخطوط هي: تهديد المصالح الاميركية المباشرة كالنفط، تهديد جيرانه من حلفاء اميركا، اعادة بناء اسلحة الدمار الشامل او التهديد بها، واخيراً تهديد المنطقة الشمالية الكردية الخارجة عن سيطرة بغداد. بعدما زال خطر العراق على مصالح اميركا المباشرة، لم تعد الادارة الاميركية ولا الرأي العام الاميركي مستعدين للتورط عسكرياً من اجل المساعدة في التغيير في العراق لمصلحة الديموقراطية. ويجب ان نتذكر انه حتى التدخل الاميركي لخلاص الكويت من احتلال قوات صدام لم يمرر بالكونغرس الاميركي الا بصعوبة. ان سياسة "اميركا القلعة"، او العزلة لها جذور عميقة في التاريخ الاميركي، وحتى تدخلها في الحرب العالمية الثانية جاء متأخراً بحوالي عامين وبعد صدمة بيرل هاربر فقط. ان واشنطن لا تريد تحمل تبعات التغيير في العراق بل حالت دون نجاحها في انتفاضة آذار، لا حباً بصدام حسين، وانما خوفاً من تبعات التورط العسكري في شأن لا يعتبر تهديداً مباشراً للامن القومي الاميركي. أما ما يصيب الشعب العراقي فهو على احسن تقدير "قدر سيء" لا تملك واشنطن ازاءه إلا "الاسف" او "التعاطف" والأمل بأن يكون عزاء العراقيين بأنهم ليسوا اول او آخر ضحية لحكم مستبد مجرم! وتحت ضغط الكونغرس اضطر الرئىس كلينتون الى اعتماد "مشروع قانون تحرير العراق" وذلك لرفع العتب وليس ايماناً به او استعداد للعمل بموجبه. كما تحولت العقوبات الاقتصادية من اداة لهدف سياسي الى سياسة قائمة بذاتها، ما جعل العراقيين ضحية بين مطرقة النظام وسندان العقوبات، بل ان النظام عرف كيف يستغل معاناة العراقيين يضاعفها ليجعل منها ومن الشعب العراقي رهينة يقايض العالم الخارجي بها من اجل اعادة تأهيله وتطبيع العلاقة معه. ان سياسة الحفاظ على الامر الراهن اصبحت نهجاً ثابتاً للسياسة الاميركية. وتجلى هذا في اتفاق واشنطن الذي وقعه الطرفان الكرديان المتنافسان عام 1998 بوساطة وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت التي طالبت اكراد العراق بعدم التعاون مع صدام حسين. ولكن في الوقت ذاته عدم استفزازه لأن واشنطن غير مستعدة، حسب قولها، ل "التورط" في الدفاع عنهما. يقول ديفيد ويلش مساعد وزيرة الخارجية الاميركية في مطالعته امام مجلس النواب الاميركي بتاريخ 23 آذار مارس 2000، في شرح سياسة اميركا تجاه العراق: "اتبعت الولاياتالمتحدة سياسة ثابتة منذ تحرير الكويت في كانون الثاني يناير 1991، وعلى رغم كل ما كتب اخيراً في الصحافة، ليس هناك تغيير في هذه السياسة. تنطلق سياستنا من تقويمنا الموضوعي بأن نظام صدام حسين يمثل خطراً مستمراً على أمن المنطقة واستقرارها ويجب ان يتم احتواؤه. ومرة اخرى، رغم ما قد تنشره الصحف، فان سياسة الاحتواء تبقى الاكثر نجاحاً سياسياً والاقل كلفة اقتصادياً". وحسب مطالعة ويلش يقتصر دور واشنطن في التغيير على دعم المعارضة العراقية، ويوضح ذلك في مؤتمر صحافي بتاريخ 2 اب اغسطس 2000، بقوله ان التغيير في العراق هدف مطلوب ولكن ليس الآن بل "في الامد البعيد"، ورداً على سؤال الى اين وصلت مساعي الادارة في مساعد المعارضة العراقية، قال ويلش: "نريد مساعدتهم بطريقة مسؤولة، لا تعرضهم للمخاطر، داخل العراق او خارجه". الامر الذي ترجم بتوقيع اتفاق بتاريخ 29 أيلول سبتمبر 2000، بين الخارجية الاميركية و"المؤتمر الوطني" قدمت بموجبه الخارجية الى "المؤتمر" اربعة ملايين دولار يمكن زيادتها الى ثمانية ملايين لدعم نشاطات حددت بالآتي: تقوية تنظيم المؤتمرالوطني وبنيته التحتية، ومواصلة التدريب الذي بوشر به بموجب "قانون تحرير العراق"./ اعتماد برنامج اعلامي يشمل اذاعة وتلفزيون واصدار صحيفة اسبوعية وتوسيع فعالياته عبر الانترنت./ التحضير لعمليات أغاثة انسانية./ الترويج للقضية العراقية في المنظمات والمؤتمرات والاوساط الدولية وكسب تأييدهم من اجل محاسبة النظام العراقي امام شعبه وامام القانون الدولي./ التدريب في مجال الدفاع المدني./ فتح مكاتب ل "المؤتمر" في بلدان اخرى حسب الظروف. هكذا اختزلت ادارة الرئىس كلينتون، بعد ثماني سنوات في الحكم، عملية التغيير في العراق الى مجرد عمليات اعلامية وتدريبات يقوم بها "المؤتمر الوطني" في اوروبا واميركا! ولا اعرف اي طرف، لا يزال يعمل في صفوف "المؤتمر الوطني"، مقتنع بأن عمله سيحقق التغيير المنشود في العراق! فالطرفان الكرديان الاتحاد الوطني والديموقراطي الكردستاني يعتبران وجودهما في المؤتمر مجرد رفع للعتب وارضاء للاميركان، خصوصاً ان مشاركتهما لا تحملهما اي مسؤولية على الارض من شأنها مواجهة نظام بغداد. اما الاطراف المتبقية في "المؤتمر الوطني" غير المنسحبة او المجمدة نشاطها، فهم افراد يعانون، ربما اكثر من غيرهم، من مرارة الخذلان الاميركي. فاذا كان هذا وضع من لا يزال يتعاون مع واشنطن، فكيف حال من فقد الثقة بها منذ خذلانها انتفاضة آذار 1991. وهنا اشير الى ما كتبه الصحافيان الاميركيان وارن ستروبيل وكيفين وايتلو في "واشنطن بوست" 2 / 10/ 2000 بعد زيارتهما للعراق عبر كردستان بقولهما: "اما في الوقت الحالي، فان غضب المواطنين العراقيين موجه ضد واشنطن. فالسياسة الاميركية الحالية قد تنتج جيلاً كاملاً من العراقيين الذين لا يكنون الكراهية فقط لحكومتهم، بل للشعب الاميركي أيضاً". ان سياسة الادارة الاميركية في عهد كلينتون قد نجحت على الامد القريب في تجنب مواجهة عسكرية في العراق، ولكنها باعتمادها الاحتواء وسياسة استمرار الامر الراهن، زرعت بذور كراهية لا بد ان تحصدها، اذا لم تبدأ فعلاً بحصادها. ان مجرد عدم قدرة صدام حسين على تهديد جيرانه عسكريا نتيجة سياسة "الاحتواء" لا تعني نهاية خطره كعامل عدم استقرار، فإلى اليوم لم تعد فرق التفتيش عن الاسلحة للعراق، كما بات هو الذي يحدد مكان وتوقيت اي مواجهة مقبلة مع واشنطن من خلال تحدي الطائرات الاميركية والبريطانية في مناطق الحظر الجوي، بل استطاع طيرانه اختراق الاجواء السعودية اكثر من مرة دون رد فعل مباشر كما ان طريقة تعامل صدام حسين مع روسيا تنحو الى دفع المنطقة للتنافس الاميركي -الروسي. فقد جعل صدام من بغداد بوابة روسيا للعودة الاقليمية في الشرق الاوسط، مقابل ذلك كانت روسيا وفرنسا اول من خرق الحظر الجوي، بما يسر الامر للآخرين من دول المنطقة لاختراقه في تحد مكشوف للرغبات الاميركية. واذا ما خسر صدام حسين البعض من سلاحه العسكري، فإنه اليوم نتيجة ازمة ارتفاع اسعار النفط، يملك سلاحاً لا يقل اهمية، فالتحكم بثلاثة ملايين برميل من النفط يومياً، وبالامكان زيادتها، يعطيه دوراً في غاية الاهمية والخطورة في خلق الازمات وحالة من عدم الاستقرار لا اقليميا وحسب وانما عالمياً. كأي نظام دكتاتوري مستبد، توفر الازمات الاقليمية والصراعات الخارجية، متنفساً لترحيل مشاكل النظام الداخلية. من هنا عمل النظام العراقي على تصعيد حالة التشنج الاقليمي باستقطاب التطرف المحلي عبر اللعب بورقة العداء لاميركا، خصوصاً بعد فشل مفاوضات السلام الفلسطينية الاسرائىلية. وتحريك بعض القوات العراقية المسلحة باتجاه حدود العراق الغربية هو نموذج اخر للتصعيد، فرغم عدم اهمية هذا التحريك في موازين الصراع المسلح مع اسرائىل، الا انه يعطي صقور اسرائىل الفرصة والتبرير لشن ضربة عسكرية تفجر الوضع في الاردن وتزيد من عدم استقرار المنطقة. ان البيان الصادر عن الاجتماع المشترك لمجلس قيادة الثورة والقيادتين القومية والقطرية العراقية 22/10/2000 في اعقاب عقد مؤتمر القمة العربي الاخير في القاهرة يعكس هذا الزهو بالتطرف... ويبدو ان من ارهاصات هذه السياسة كان خطف طائرة تابعة للخطوط الجوية السعودية من قبل عناصر مخترقة عراقياً، وحصولهم على اللجوء السياسي في بغداد بما يكرس دور الاخيرة كملجأ للارهاب. * كاتب وسياسي عراقي