فيما تستبدل القيادة الإيرانية الانطواء بالانفتاح وتتعاطى مع البيئة الاقليمية والدولية بعلم ومعرفة ودراسة عملية لكيفية فرض التعاطي مع أهمية إيران في الاعتبارات الاستراتيجية، تقبع القيادة العراقية في جهل مميت وتبقى منغلقة على هوسها تتصرف بعقلية الحصار وتنصاع كأمر واقع للاستدراج. الفارق الرئيسي أن لدى القيادة في طهران رؤية وخطة تنفيذ واستراتيجية واعية لإيران الغد التي تريدها. أما القيادة في بغداد فإنها انفعالية، دفاعية وهجومية في آن، تمارس حنكة الانتصارات الصغيرة، ليس في بالها أو في سياساتها تصور مدروس لعراق المستقبل وهو يدخل القرن الواحد والعشرين مفككاً، مهاناً، مستضعفاً، محزناً، وطموحاته مكبلة كقدراته. بؤس العراق ليس حصراً نتيجة قرارات قيادته ومغامراتها، وإن كانت المسؤولة الأولى عما حلّ على العراق من مآسٍ. فالسياسة الأميركية ساهمت كثيراً في "نفخ" بغداد اثناء اجتياحها لها لصدّ تصدير الثورة الإيرانية، وأفرطت كثيراً في المساهمة بتحطيم العراق بذريعة "شيطنة" رئيسه. العراق وقيادته لم يؤذ الولاياتالمتحدة ويهينها كما فعلت إيران وقيادتها. وأثناء فترة العشرين سنة الماضية أمضت واشنطنوبغداد أكثر من نصفها في علاقات طيبة وشبه "تحالف" أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، فيما خيّم العداء بين واشنطنوطهران على العقدين الأخيرين. الإيرانيون احتجزوا الرهائن الأميركيين وأهانوا أميركا، وليس العراقيين. بل ان حرب الخليج الثانية بين الولاياتالمتحدة والتحالف ضد العراق كاد لا يذهب ضحيتها أميركي فيما عدد الضحايا العراقيين الكبير لا يزال مجهولاً. على رغم هذا، ان العراق اليوم هو "العدو" المنبوذ، وإيران في صدد التأهيل ترجو واشنطن منها أن تحاورها رسمياً. قد تشعر القيادة العراقية بأن الإدارات الأميركية المتعاقبة مضغتها وبصقتها، وبهذا خانتها وأهانتها. وقد يوافق العراقيون على هذا التقويم، إذ أن آلاف العراقيين قضوا ضحية الحرب مع إيران كي يكون العراق "المنطقة العازلة" لمنع تصدير الثورة الإيرانية إلى الدول الخليجية المهمة للولايات المتحدة. والقصص والروايات عديدة عما إذا كانت واشنطن ورطت بغداد بغزو الكويت، وعما إذا سارت القيادة العراقية بخطى رُسمت لها للتورط وتورط العراق في مأساته. النظريات وفيرة، كذلك منطق المؤامرة بدءاً بأسعار النفط مروراً بامتصاص الأموال العربية وانتهاء بالاتكال الأمني على أميركا وتحييد العراق من المعادات العسكرية العربية - الإسرائيلية. مهما كانت الرواية أو الحقيقة، فإن القيادة في بغداد تزيد من مأساة العراقيين لعدم وضوح تصور ورؤية واقعية وعملية لعراق اليوم والمستقبل. المهاترات والمواجهات والاستفزازات المتبادلة بينها وبين اللجنة الخاصة المكلفة بإزالة الأسلحة العراقية المحظورة باتت مسرحية دراما هزلية لا تفيد العراق بلداً وسلطة وسيادة وكرامة. فالاحتجاج على عدم توازن جنسيات فرق التفتيش الدولية مسرحية خصوصاً ان الحجة هي استخدام فرق التفتيش لغايات استخبارية أميركية وبريطانية، ذلك ان العراق، للأسف، مباح في جنوبه وشماله لأكثر من الاستخبارات. والرقابة البعيدة المدى على برامج السلاح العراقي، التي وافقت عليها بغداد، تنقل مفهوم السيادة خارج التعريف التقليدي الذي تلوح به السلطات العراقية كلما شاءت. أما المزاعم بأن هدف الخلل في تركيبة فرق التفتيش هو إطالة أمد الحصار على العراق، فإنها مزاعم هزيلة أمام الطرح المنطقي بضرورة التعاون الكامل مع فرق التفتيش وتسليم كل وثيقة وجرثومة يمكن استخدامها لتصنيع أسلحة الدمار لتنظيف سجل العراق في مسألة السلاح المحظور كلياً. عندئذ، وعندئذ فقط، يمكن لبغداد الرهان على انقسام في صفوف مجلس الأمن في شأن متطلبات رفع الحظر النفطي عن العراق. وعندئذ تضعف الورقة الأميركية ومعها معارضتها رفع الحظر النفطي طالما النظام في السلطة. هذا يتطلب قراراً سياسياً ضمن رؤية متكاملة لكيفية نقل العراق إلى التعافي وضمن تصور واضح لطبيعة عراقب المستقبل الذي تخطط له الحكومة العراقية. المؤسف ان لا مؤشر على مثل هذا التفكير من بغداد. كل الانتصارات هامشية أو وهمية، وكل المناورات محدودة ومحصورة في المكابرة وحلقة الانتقام. والمحزن ان نسيج المجتمع في تآكل مضين. الاحباط يقصف الاحلام، والكراهية تزرع بذور الفوضى واللااستقرار، والفقر يتربع على ثروات مُصادَرة، والبؤس يمارس السلطة الحقيقية في العراق. لو كان آية الله الخميني على قيد الحياة لسجّل ما يشاهده على أنه الهزيمة المؤجلة للعراق وقيادته ولأعتبر تشرذم العراق وافتقاده البصيرة والتصور لمستقبله لعنة الانتقام نتيجة حربه مع إيران. فالعراق اليوم في تدهور، بينما إيران في تعافٍ. القيادة العراقية تتمنى لو توافق الإدارة الأميركية على الحوار معها، فيما الإدارة الأميركية تكاد تتوسل القيادة الإيرانية أن ترضى بحوار بينهما. السلطة في العراق تسلط الأضواء الإعلامية عليها في إطار اجراء هنا واحتجاج هناك وأراضيها مباحة للقوات التركية في الشمال، وأحياناً الإيرانية في الجنوب. والسلطة في طهران تخترق آسيا الوسطى وبحر قزوين اقتصادياً ودفاعياً وترمي الشباك لعلاقة ود مع الولاياتالمتحدة. إيران اليوم تفكر وتمارس السياسة بذهن استراتيجي، فيما العراق اليوم يعتمد التكتيك سياسة. والولاياتالمتحدة تمزج الاستراتيجية بالتكتيك فتتجاوب مع طهران استراتيجياً وتتعاطى مع العراق تكتيكياً، تفك طوق سياسة "الاحتواء المزدوج" عن عنق إيران تدريجياً وتضيق الخناق على العنق المتبقي في معادلة الاحتواء متلذذة بكل ذريعة تقدمها لها بغداد. نظرية الانفتاح الأميركي على إيران بهدف تضييق الخناق على العراق ساذجة من ناحيتي التحليل والاستراتيجية. أولاً، لأن علاقة واشنطن بكل منهما في هذا المنعطف لا تسمح بلعب دولة ضد الأخرى كما سبق وفعلت. وثانياً، لأن الدول الخليجية العربية لا تثق بإيران لدرجة التحالف معها ضد العراق. وثالثاً، لأن إيران تلعب ورقتين أكبر من ورقة استخدامها لتضييق الخناق على العراق، هما ورقة العلاقة مع دول مجلس التعاون الخليجي وورقة آسيا الوسطى وبحر قزوين. حصانة إيران الأكبر هي بريطانيا التي تجمعها بها علاقة متينة ذات خصوصية مميزة. وبريطانيا الشريك الأوروبي الأهم للولايات المتحدة، كانت حريصة على ألا ترتكب الولاياتالمتحدة أخطاء كبرى مع إيران، وهي حريصة اليوم على تهذيب علاقة ما بين واشنطنوطهران تكون مفيدة للأطراف الثلاثة. وبما أن بريطانيا تترأس الاتحاد الأوروبي لهذه الفترة، فالأرجح ان تترسخ العلاقة الإيرانية - الأوروبية المبنية على تقاليد البراغماتية السياسية والاقتصادية. وهذا مفيد مع الولاياتالمتحدة. وعي القيادة الإيرانية في قراءة العلاقات الدولية جعلها تضع العلاقة السياسية مع الدول العربية الخليجية في مطلع أولوياتها على قدم المساواة مع العلاقة الاقتصادية والسياسية والدفاعية مع دول القوقاز وآسيا الوسطى. فالاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط في حال انحسار، واهتمام أميركا ينصب في اتجاه منطقة الخليج ومنطقة بحر قزوين حيث الثروة النفطية وأدوات النفوذ. إيران قرأت العناوين والتفاصيل وقررت أن تكون لاعباً مهماً، إن لم يكن حاسماً، في المنطقتين، فعرضت نفسها كعامل بناء أساسي للاستقرار وذكّرت بأنه في حال استبعادها عن عمقها الاستراتيجية الطبيعي في المنطقتين، فإن دور المخرِّب يمكن ان يكون خيارها أيضاً. ولطالما احاطت القيادة الإيرانية المصالح بالتهديد أو بالترغيب. فطموحاتها شملت بناء روابط استراتيجية مع الأطراف الآسيوية الرئيسية من أجل تشكيل "كتلة آسيوية"، أركانها الصينوإيران والهند وروسيا. واستراتيجيتها اليوم تفتح الباب على تعاون إيراني - أميركي في آسيا الوسطى من دون التخلي عن ورقة الكتلة الآسيوية. بكلام آخر، ان إيران أخذت عبرة من الصين في علاقاتها مع الولاياتالمتحدة، ومن بريطانيا في رزانة حنكتها وبراغماتيتها، ومن تاريخها في موازين المد والجزر والترغيب والتخويف وتغليب الاستراتيجية على التكتيك. إيران اليوم تخترق طاجيكستان دفاعياً بعدما تغلبت على معادلة العداء والتنافس الروسي - الإيراني في طاجيكستان، واستفادت من استبدال المواجهة بتعاون وتنسيق مع روسيا. وإيران اليوم تتمركز للعب دور في مستقبل أفغانستان وهي تتعالى على كبريائها وغضبها من مذابح الشيعة في باكستان وتعمل على تقارب وتنسيق إيراني - باكستاني يكسبها استراتيجياً في أفغانستان ومحيطها. فهي تلعب الشريك مع الولاياتالمتحدةوروسيا في آن، وتبدو حكيمة في اسلوب تعاطيها مع حكومة باكستان. اقتصادياً، اخترقت إيران تركمنستان على رغم المنافسة القوية مع إسرائيل هناك، وهي تستثمر سياسياً واقتصادياً بالقدر نفسه في اذربيجان التي تنصبّ عليها أنظار الشركات الأميركية النفطية فمنها ستنطلق أنابيب النفط والغاز عبر إيران، إذا أثمرت الاستراتيجية الإيرانية. وإيران "المنبوذة" أمس تلعب دوراً أساسياً في الاعتبارات الاستراتيجية، الاقتصادية والسياسية والدفاعية، للولايات المتحدةوروسياوالصين وأوروبا في آن. والسبب الرئيسي عائد إلى تفكير القيادة الإيرانية في إيران اليوم وإيران الغد بوعي ومعرفة واتقان للصبر والتخطيط واستخدام التكتيك جزءاً من الاستراتيجية من دون السماح للتكتيك ان يصبح الهدف. في كل هذا دروس إيرانية عديدة للسياسات والقيادات العربية. ففي التجربة العربية في التاريخ الحديث ليس هناك ما يقترب من التجربة الإيرانية خلال العقدين الماضيين، ولن تكن في العقدين المقبلين، إذا استمر النمط العربي في الفكر والرواية والسياسة والاستراتيجية على ما هو عليه. المقارنة بين العراقوإيران ليس سوى مثال على قصر النظر العربي وبعد النظر الإيراني. ولربما كانت سورية وحدها استثناء، إذ أنها حرصت على علاقة مميزة مع إيران وبنت علاقات وثيقة مع المؤسسات فيها بما جعل العلاقة الاستراتيجية أعمق مما يبدو سطحياً. إنما هذا لا ينفي أن العمق الاستراتيجي لسورية، كما لمصر أو العراق أو دول مجلس التعاون الخليجي، يبقى عمقاً عربياً مهمشاً في موازين القوى الاقليمية والدولية. ولربما كان تدجين العراق وتحييده وسلبه من المقومات العسكرية قراراً أساسياً استراتيجياً للولايات المتحدة خصوصاً ان العراق عمق أساسي في الخيار العسكري العربي ضد إسرائيل. ولربما يكون انهيار العراق استراتيجية مدروسة كي يكون لعملية السلام للشرق الأوسط فرصة للنجاح. ولربما يكون في ذهن القيادة العراقية فكر استراتيجي ينطلق من أن العراق ورقة في أيدي من يريد السلام والتفاوض في عملية السلام للشرق الأوسط كما في أيدي من لا يريده. كل هذا لا ينفي أن أسلوب التعاطي مع مثل هذه الأهداف خاطئ. خاطئ لأن النسيج الاجتماعي في العراق في حالة تفكك وانهيار. خاطئ لأن ما تقوم به السلطات العراقية يسقط دائماً ذريعة في أيادي الدول الاعضاء في مجلس الأمن ويؤدي إلى إطالة العقوبات وارتهان العراق. خاطئ لأن القيادة في بغداد تسقط دوماً في كل فخ يُنصب لها، أميركي أو اقليمي كان. إن القيادة العراقية مطالبة بتصور أوضح للعراق الذي تشرف عليه وعلى مستقبله. وان الدول العربية أيضاً مطالبة بالكف عن الالتحاق بالتطورات لتقول ما هو دورها ازاء العراق بعدما نسفته من المعادلة العسكرية ضد إسرائيل، وأي عراق تتصوره غداً، فمستقلبها أيضاً على المحك.