عندما التفّ هتلر في هجومه على فرنسا على خط ماجينو لم يكن يقدر انه سيكتسح فرنسا كلها، أو بالأحرى لم يكن هذا من ضمن مخططاته على الأقل القريبة المدى. فالانتصار السريع والمفاجئ للطرفين، جعل نظرية الدومينو المتساقط تبدو مثالية لوصف الانهيار الفرنسي. عندما قرر الارهاب وخطّط لضرب الولايات المتحدة، لم يكن يحلم بهذا المردود. لذلك تبدو العملية مثالية في ما أنتجت من مفاعيل، لأن المحقق وصل الى حده الأقصى. حتى أن الولايات المتحدة التي كان مستعدة لضربة إرهابية لم تكن تتوقع ان يحدث ما حدث. لذلك يخطئ من يعتقد ان اميركا، وخصوصاً اجهزتها الأمنية كانت مسترخية نوعاً ما قبل العملية. لكن الأكيد ان سيناريو 11 ايلول، لم يكن ضمن عواصف الدماغ Brain Storms في مواقع اتخاذ القرار. ويعود هذا الأمر الى اعتماد المخططين الأميركيين على النماذج المعروفة لديهم، وعلى أنماط تفكيرهم الثابتة Mind Set لإنتاج الحلول. فالإرهابي لديهم هو الفقير المعدم، والمستعد للتضحية بنفسه. وهو الأمّي، ذو اللحية الطويلة، والزاهد في تصرفاته. هذا لجهة الشكل، أما لجهة التنفيذ، فقد كان التركيز ايضاً على رصد ودرء ما يمهد لعملية تقليدية على غرار ما حصل في تنزانيا، أو أوكلاهوما. كيف يمكن تفسير ما حدث على صعيد المفاهيم الاستراتيجية؟ تندرج الضربة الإرهابية على الولايات المتحدة في خانة العملاني التكتيكي. فهي حتماً لن تقضي نهائياً على "العم سام" ليعود الى العصور المظلمة، فتبدو اميركا دولة عادية. وهي اي الضربة، ايضاً محدودة في الزمان والمكان، ساعات قليلة وفي نيويورك وواشنطن فقط. والخسائر البشرية وإذا ما قيست على العدد الإجمالي لسكان الولايات المتحدة فهي تشكل نسبة ضئيلة جداً. لكن الخطير في الأمر ان الحدث مهم قياساً مع مفاعيله وتداعياته. فهو شكّل للولايات المتحدة مفاجأة استراتيجية، وأفقدها زمام المبادرة. وما يفسّر هذا الأمر هو ضياع القيادة الموحدة للعم سام بعد وقوع الهجوم مباشرة. حتى أنه وحسب ما قاله الكاتب والصحافي محمد حسنين هيكل، لم يعد بوش الابن الى البيت الأبيض إلا بعد ان طلبت منه ذلك بربارة والدته. وكانت حجة الرئيس بوش بعدم العودة فوراً الى مركز القيادة في ان الحرس الشخصي منعه من ذلك. ويبدو هذا الأمر طبيعياً لأنه لا بد وقبل العودة الى واشنطن من معرفة حجم الكارثة ومداها، وما هو المقصود منها، وهل هناك عمليات لاحقة. لكن الأكيد من كل ما حدث ان نسبة المعطوبية كبيرة في اقوى دولة في العالم. فماذا لو كانت مثلاً هذه الحوادث من ضمن عملية كبيرة هدفها القضاء على اميركا بدءاً من الداخل؟ ماذا لو تبع هذه العمليات صواريخ نووية؟ هل كانت ستردّ الولايات المتحدة نووياً؟ اذا كان الجواب نعم، فعلى مَنْ سيكون الرد؟ ويعتقد الخبراء الاستراتيجيون، ان الذي حدث في الولايات المتحدة وردّ الفعل الأميركي الفوري، الذي اتسم بالفوضى، سوف يشكل حتماً نموذجاً قد يعتمد من قبل عدو تقليدي محتمل في المستقبل. وبالفعل صدر كتاب دراسة في الصين من قبل خبيرين صينيين في الشؤون العسكرية، هما كياو ليانغ، ووانغ جيانغسوي، تحت عنوان "الحرب من دون حدود" Uunrestricted Warfare. هدف الكاتبان من خلال هذه الدراسة تقديم النصائح للحكومة الصينية في كيفية تقليص الفارق التكنولوجي في حال مواجهة مع الولايات المتحدة. صدر الكتاب بعد تجربة حرب الخليج، وقبل قصف السفارة الصينية في بلغراد. وعندما سئل احد الكاتبين عن صورة الحرب التي يقترحها أجاب: "القاعدة الأولى في الحرب من دون حدود، هي في عدم وجود قواعد، لا شيء ممنوع". يعتمد هذا النوع من الحرب على الأمور الآتية: مهاجمة صفحات الإنترنت، استهداف المؤسسات المالية، عمليات إرهابية داخلية، استعمال الصحافة، اعتماد حرب المدن. إذاً وبمقارنة بسيطة يمكننا ان نلاحظ وجه التشابه التام بين ما ورد في الكتاب الصيني، وبين ما حدث في 11 ايلول. فتلك الحوادث قد تكون جزءاً بسيطاً من العملية الشاملة في الحرب المستقبلية. يقال في العامية "لا يُعيد الإنسان الى واقعه الفعلي، إلا المصيبة". ويقال ايضاً، ان المنتصر مفقود، اما الخاسر فيعيد دراسة حساباته، تحضيراً للمعركة المقبلة. ينطبق هذان القولان مع وضع الولايات المتحدة. فهي خرجت منتصرة من الحرب الباردة، فبدا العالم امامها كراحة كف اليد. تؤثر فيه كما تشاء، وتحاول تغييره بدل إدارته. وهي اعتقدت ان مخاطر المستقبل تجابه بوسائل الماضي. ونسيت التجارب المستقاة من تاريخ الحروب الأوروبية، ومن عدم التعديل على صعيد الفكر السياسي والاستراتيجي، نظراً للمتغيّرات الجوهرية التي طرأت. فعلى سبيل المثال اعدت فرنسا نفسها لمرحلة ما بعد الحرب الأولى، بعقلية الحرب الأولى. فهي اعتقدت ان الحرب ستكون دفاعية بامتياز، وبنت لذلك الخط الدفاعي الشهير "ماجينو". لكن وللمفاجأة الاستراتيجية الكبرى، حصل الهجوم والانتصار الألماني بعقلية وعقيدة قتالية جديدة اعتمدت على الحركية، وعلى الثنائي: الدبابة، والطائرة. وكما وقعت فرنسا بالمفاجأة الاستراتيجية، كذلك لم يتوقع هتلر هذا النصر السريع الذي اعطاه فرنسا كلها. وبدا التساؤل على صعيد القيادة الألمانية في كيفية الاستمرار في الحرب، ماذا بعد فرنسا؟ بدا هذا الوضع مشابهاً للنتيجة غير المتوقعة من عملية 11 ايلول. استيعاب الصدمة بدت الحكمة الأميركية بعد "الثلثاء الأسود"، في اخذ الوقت لاستيعاب الصدمة، تقييمها، سبر ابعادها البعيدة المدى، وذلك بهدف التحضير للردّ عليها وخلق وضع معين في مرحلة ما بعد الردّ يكون مناسباً للدولة المهيمنة. انطلقت استراتيجيتها الكبرى للرد من اسس ثلاثة هي: 1- العمل على حماية الداخل الأميركي وهي فعلاً أسّست هذا القرار عبر خلق الجهازية وتعيين مسؤول، وتحديد المهمات. اتبعت ذلك بسلّة من اقتراحات القوانين، تصب كلها في خانة التضييق على الحريات العامة الأمر الذي أثار الكثير من الانتقادات، لأن هذا الأمر يخالف ما أراده الآباء المؤسسون. 2- تحديد العدو على المدى القريب الواجب ضربه في مرحلة اولى لاسترداد الهيبة، ورفع معنويات الداخل الأميركي. لكن العدو لا شكل، ولا مكان له. ولا يمكن تحقيق نصر عليه يرضي غرور "العم سام". فكان لا بد من تحديد اطار العدو، في التسمية والشكل. فكان أسامة بن لادن، الذي يؤويه نظام طالبان في بقعة جغرافية هي امة - دولة تتمثل بأفغانستان. إذاً الهدف هو في تحويل وجهة الصراع من عدو من دون شكل، لا يمكن قياس النصر عليه، الى عدو معروف تكون نتيجة الضربة عليه قابلة للقياس. 3- إعلان الحرب البعيدة المدى على الإرهاب في كل العالم فعلى العالم ان يكون مع او ضد الولايات المتحدة. لا يوجد مكان في الوسط للمترددين. وبدأت ملامح الحملة هذه عبر فتح الدفاتر القديمة، وتجميد الكثير من الحسابات المصرفية التي يشك في امرها، وأخيراً وليس آخراً في هذا السيل من البرقيات المرسلة من الأنتربول الى الدول التي يشك في رعايتها للإرهاب حسب ما تسميه اميركا. وكان لا بد ايضاً من حشد التأييد الدولي للحملة الإجمالية، خصوصاً التأييد العربي عموماً والإسلامي خصوصاً. وراحت نتيجة لذلك تتبدل بسرعة الخرائط الجيوستراتيجية، وارتفعت اسهم بلدان كانت مهملة من قبل "العم سام" نتيجة لسقوط السوفيات، كباكستان مثلاً، وتراجعت الأهمية موقتاً لبلد كالهند. وشعرت اميركا انها بحاجة لمن كانت تحتويهم لفترة طويلة، ولمن كانت تدرجهم على لوائح الدول التي تدعم الإرهاب لوائحها، وعلى رأسها ايران. وراحت اميركا ايضاً تشهر عن قرارها بالحرب، ولكن بعد إعلانه وتحديد العدو، وذلك عبر الضغط على مجلس الأمن لإصدار القرار الشهير، الذي لم يحدد بدقة ما هو الإرهاب، ليترك الباب مشرعاً للأقوى لتحديد الإرهاب وتسميته بشكل يتطابق مع مصالحه. كذلك الأمر سارعت دول كثيرة الى إعلان موافقتها للانضمام الى الحملة الأميركية، لكن من ضمن الأجندات والأهداف المختلفة لكل منها. في ظل هذا الوضع يبدو ان هناك صورتين لا بد من الحديث عنهما، هما الماكرو والميكرو. الماكرو هو الصورة الكبرى لمرحلة الإعداد للمرحلة على الإرهاب سياسياً وعسكرياً. الميكرو وهو صورة المعركة على المسرح الأفغاني. لنستنتج تقريباً ملامح صورة العالم في مرحلة ما بعد الحملة العسكرية. الماكرو في مرحلة الإعداد ضُربت اميركا في مقتلها، وعلى أرضها. أعلن الرئيس بوش الحرب والاستراتيجية الكبرى لحربه وذلك من ضمن شعار عام قام على مبدأ: "معنا ام ضدّنا". راح العالم المذهول يدرس السلوك المعتمد تجاه الحرب المعلنة، فأي موقف هو مناسب، وكيف يمكن المساعدة، هل الخطاب السياسي يكفي، ام لا بد من المشاركة العسكرية؟ أسئلة كثيرة تختلف اجاباتها حسب موقع كل بلد، واختلاف اجندته مع الأجندة الأميركية، كذلك في نظرته لمرحلة ما بعد الحدث، وفي نظرته الى نفسه والى الدور الذي يتوقعه في المستقبل، كيف بدا الماكرو؟ على الصعيد الأوروبي: بدا مؤيداً من دون حدود، خصوصاً في بعده الإنكليزي. فالديموقراطيات لا تقاتل بعضها كما يقال، لأن المصالح المشتركة هي اكبر بكثير من الفوارق. وهي الدول التي رسمت صورة العالم منذ امد بعيد، ولا تزال تستغله من اجل مصالحها. ويبدو ان اي فوضى عالمية قد تحصل، خصوصاً على صعيد الطاقة ومصادرها، سوف تؤثر سلباً على مجتمعاتها. ولا تزال ازمة النفط عام 73 ماثلة في الأذهان. كما ان انهيار الولايات المتحدة يعني انهيارها هي ايضاً. فالولايات المتحدة هي الزعيم الأول في العالم. وهي التي تؤمّن الاستقرار المالي على صعيد الأسواق العالمية. وهي من رعت وساهمت في قيام المؤسسات المالية العالمية التي نظمت الاستقرار المالي منذ مرحلة ما بعد الحرب الثانية. على الصعيد الروسي: لا يمكن قياس الاندفاع الروسي للتحالف مع الرئيس بوش، إلا من خلال القراءة المتأنية لأهداف الرئيس بوتين. ففي هذا الإطار تعتبر روسيا الرابح الأكبر من عملية 11 ايلول على الولايات المتحدة. فهي تحيط جغرافياً بمسرح العمليات العسكرية الأميركية، في الوقت الذي تبدو فيه الولايات المتحدة بعيدة جداً. لذلك لا بد من الموافقة الروسية المسبّقة لأي عمل عسكري في محيط نفوذها. الى ماذا يهدف بوتين من هذا الاندفاع؟ يريد بوتين استعادة دور روسيا كدولة كبرى على الأقل على صعيد التعامل معها. يريد يالطا مصغرة تعطيه مناطق نفوذ خاصة به، خصوصاً في وسط آسيا. يريد يده حرة في الشيشان. يريد منع دول البلطيق من الانضمام الى الأطلسي، لكنه يفكر في الانضمام الى هذا الحلف إذا ما عدّلت صورة ودور هذا الحلف ليصبح سياسياً أكثر منه عسكرياً. لكن انضمام روسيا الى الناتو يؤسس في مرحلة لاحقة الى تحقيق نظرية هالفورد ماكندر التي تقوم على مفهوم الهارتلاند او السهل الأوراسي، الذي يعتبر حيوياً لمن اراد السيطرة على العالم. فلنتأمل صورة اوروبا الغربية مندمجة مع روسيا، وما تعنيه هذه الكتلة الضخمة الممتدة من بحر الشمال في غرب اوروبا حتى الباسفيك من جهة الشرق. هذا عدا الخوف من السيطرة الروسية على مستقبل التغذية بالطاقة لأوروبا الغربية بعد ان بدأت بضخ الغاز من سيبيريا الغربية. فهل تقبل به اميركا؟ - على الصعيد الصيني: تخاف الصين من مفهوم الامبراطورية المهيمنة Hegemonic. حتى انها لا تعترف بهذا المفهوم. فالعالم بالنسبة لها كان وسيكون متعدد الاقطاب. وهي تخاف من اميركا لأنها تعتقد انها ستمنعها من الصعود الى مصاف الدول العظمى. لكن المميز لدى الصينيين في انه ليست لديهم مطامع توسعية، ومشكلاتهم اتت منذ امد بعيد من المحيط القريب. كما انهم قلقون من تفكك الداخل الصيني خصوصاً في الشق الغربي من البلاد حيث الاقليات الاسلامية التي تحاول الانفصال. لكن المشكلة الاهم تتمثل بتايوان التي تدعمها الولايات المتحدة. الصين ضد الارهاب، فالعدو مشترك مع "العم سام" والمتمثل بالاسلام الاصولي. لكن الصين تريد محاربة الارهاب عبر الاممالمتحدة، فخلال هذا المنبر تستطيع لعب الدور الذي يليق بها، فهي من الاعضاء الدائمين في مجلس الامن. لكن ترك الاميركيين العمل بحرية مطلقة، وتوقيع شك على بياض لهم لا يدخل من ضمن التفكير الرسمي. لذلك وخلال انشغال "العم سام" بحربه التي قد تستهلك الكثير من قواه، تعمد الصين الى تركيز دورها والافادة من الوضع. فهي بحاجة لأميركا سوقاً اساسية لبضائعها، وهي بحاجة لرأس المال الاميركي المستثمر. وهي تحاول التقارب مع المنافس الاقليمي والمتمثل باليابان، وصبت زيارة رئىس الوزراء الياباني والحفاوة التي لقيها في هذا الاطار. وقد يكون انشغال اميركا في افغانستان مناسبة لانتقال سلس للسلطة في الصين. ومن يدري فقد تعمد الصين الى اتباع سياسة اقتصادية في محيطها تؤمن لها السيطرة بدل اتباع سياسة القوة. الهند وباكستان على الصعيد الهندي: قررت الهند، وهي اكبر ديموقراطية في العالم من حيث عدد السكان، ان تتبع سياسة عقلانية لتحقيق اهدافها في العالم وفي المنطقة المحيطة بها. فهي على وفاق تام مع روسيا التي تمولها بالاسلحة الحديثة. لكنها حاربت باكستان، ولا يزال الوضع متوتراً بين الاثنين في منطقة كشمير. الدولتان نوويتان وهذا ما قد يهدد المنطقة اذا ما تطور الصراع. والهند ايضاً على خلاف مستفحل مع الصين حول التيبت. لكن الهند حيوية من حيث الموقع الجيوستراتيجي. فهي تسيطر على الممرات البحرية في المحيط الهندي. فمن الشرق تتحكم بالمداخل الى شرق آسيا، ومن الغرب بالمدخل الى منطقة الخليج. ولحسن حظها ارتفعت قيمتها الاستراتيجية في التفكير الاميركي. فهي ستكون اساسية في استراتيجية الاحتواء التي تعدها واشنطن ضد الصين، وذلك بعد ان اعلنها الرئىس بوش كمنافس استراتيجي. بعد 11 ايلول اعلنت الهند استعدادها لتقديم اي مساعدة تلزم للقوات الاميركية في حربها ضد افغانستان. لكن الحسابات الاستراتيجية الاميركية تحتم استبعاد الهند مثل اسرائىل عن المشاركة والمساهمة في الحرب لأنها على خلاف مع باكستان. فباكستان هي الاهم الآن، نظراً لموقعها الجغرافي المتاخم لمسرح العمليات، هذا عدا عن معرفتها التامة والعميقة بالداخل الافغاني في كل تعقيداته. باكستان: هي مركز الثقل الاساس الآن في الحرب الاميركية. هي البلد المتاخم لمسرح العمليات والضروري لقيادة اي حرب. وهي التي أسهمت في تأسيس نظام "طالبان". وكانت الممر الاساس لكل ما يلزم لقتال السوفيات قبل انسحابهم. وهي على معرفة تامة بتفاصيل الداخل الافغاني، ومعلوماتها حيوية لأميركا كي تدير الحرب وتحقق نتيجة فيها. قبلت باكستان ان تكون رأس الحربة، من خلال ما عبّر عنه الرئىس برويز مشرف في خطابه التاريخي البراغماتي الذي يمكن تلخيصه بالآتي: اما المشاركة او السلام على النووي الباكستاني. اما المشاركة او الهند هي البديل. ايران: لا تأبه ايران لمصير نظام "طالبان". فهو الذي اباد حزب الوحدة في منطقة باميان. وهو الذي قتل 11 ديبلوماسياً ايرانياً في مزار الشريف وتركهم في الشارع. وهو الذي يهرب الافيون الى وعبر ايران. لكن ايران لا تريد نظاماً معادياً لها في افغانستان، وموالياً في الوقت نفسه للولايات المتحدة، ليكتمل تطويقها من الغرب والشرق. ايران تريد دوراً اقليمياً مناسباً لموقعها وحجمها. فهي على حدود مصادر الطاقة الأهم في العالم. من الغرب الخليج، من الشرق قزوين. وهي لا تستطيع ان تعطي شيكاً على بياض لأميركا، فالخلاف اكبر من ان يُحل في هذه العجالة. وبسبب موقعها المهم يعتقد ان ايران ستكون دولة حيوية للولايات المتحدة في المستقبل القريب. وكل ذلك بالتطورات. العرب وقضية فلسطين البلدان العربية: تختلف الاجندة بين بلد وآخر. لكن الكل يعتبر ان عدم حل المشكلة الفلسطينية هو الذي أسس هذا الشرخ بين العالم الغربي، وخصوصاً الولايات المتحدة والعالم العربي - الاسلامي. يبقى الخلاف الأساس بين الفريقين في تعريف معنى الارهاب. فالعالم العربي يعتبر المقاومة عملاً مشروعاً وليس ارهاباً، خصوصاً ان هذه المقاومة تقيدت في عملياتها داخل الاراضي المحتلة. وهي ايضاً دانت العمل الارهابي الذي وقع على اميركا. وتريد الدول العربية ان تضم ايضاً الى تعريف الارهاب، ما يسمى بارهاب الدولة، فما معنى ما تمارسه اسرائىل على الشعب الفلسطيني الاعزل في فلسطينالمحتلة؟ وما معنى كل ما مارسته اسرائىل في لبنان؟ ما معنى مجزرة قانا؟ ما معنى اجتياح لبنان، وما تركه من أثر؟ لكن لا يمكن للعالم العربي المشاركة في الحرب وليس مطلوباً منه ذلك، انما المطلوب هو التأييد السياسي. تريد الدول العربية ان لا يُستهدف اي بلد عربي خصوصاً العراق. لكن المحللين يعتقدون ان آخر ما يمكن ان تفعله الولايات المتحدة في هذا الظرف، هو ضرب العراق. فهي تريد التأييد الاسلامي، وهي تريد الاستقرار خصوصاً في العراق نظراً لموقعه في منطقة الطاقة. وان اي تغيير دموي في العراق لا بد من ان يغير الكثير من المعادلات في المنطقة، وهذا غير مطلوب الآن خصوصاً مع عدم اتضاح نتيجة الحرب في افغانستان. وقد يُترك العراق لمرحلة لاحقة، ليكون فيه التغيير سلمياً. يتحدث البعض عن استهداف سورية ولبنان وذلك عبر الرسائل غير المباشرة التي توجه من قبل بعض المسؤولين في الادارة الاميركية ارميتاج. لكن لا يمكن للمحلل المتابع الا ان يلاحظ التناقض في السلوك الاميركي تجاه سورية. فأميركا تمنعت عن التصويت خلال انتخابها عضواً لمدة سنتين في مجلس الامن، الامر الذي اغاظ اسرائىل، علماً ان سورية هي على لائحة اميركا. على الصعيد الفلسطيني، يبدو حتى الآن ان ياسر عرفات اتخذ قراره بالوقوف مع اميركا عله يحصل على مبتغاه. اسرائىل: غضب شارون غضباً شديداً عندما عرف انه لن يكون من ضمن التحالف ضد الارهاب. ويعني هذا الامر ان اسمه لن يدرج على لائحة الفواتير التي ستدفع للمساهمين في هذه الحرب. وأدى غضبه الى تشبيه بوش الابن بشامبرلين الذي حاول تهدئة هتلر فكانت تشيكوسلوفاكيا الثمن. لكن يقال ان وراء هذا الهجوم من شارون على بوش، هو محاولة اختبار وسبر اغوار ما يعد ويخطط للمنطقة. لكن لا يمكن لنا القفز والاستنتاج ان اسرائىل لم تعد مهمة للولايات المتحدة فقد يكون لاسرائىل دور اساسي في المرحلة الثانية من استراتيجية الولايات المتحدة للقضاء على الارهاب. الميكرو على المسرح الافغاني سلّم وزير الدفاع الاميركي رامسفيلد مراجعته لاستراتيجية الدفاع الاميركية QDR، فأبقى على تشكيلة القوى التي كانت قائمة خلال الحرب الباردة، كذلك ما يتعلق بالتسليح والتجهيز. والجديد هو اضافة عدو جديد تمثل بالارهاب. وعد الوزير بمزيد من الرجال والمال للحرب السرية ضد العدو الجديد. وشدد ايضاً على اهمية آسيا في المراجعة مشدداً على اعتبار الصين منافساً استراتيجياً حتى ولو وقفت مع اميركا في حربها ضد الارهاب. ابقى رامسفيلد على الاستراتيجية العسكرية التي تقوم على امكان خوض حربين اقليميتين في الوقت نفسه والانتصار فيهما 2MRC. في ظل هذه المراجعة يبدو المسرح الافغاني اساسياً، والانتصار فيه حيوياً وضرورياً. لذلك جرى الحشد الكبير الذي لا يتناسب مع امكانات العدو. حتى قيل ان الهدف ردعي اكثر منه حربي. والهدف من الحشد هو ابعد من افغانستان. ويذكر، على سبيل المثال، ما قاله رامسفيلد عن عدم وجود اهداف للطيران الأميركي. أين تكمن مشكلة الولايات المتحدة في افغانستان؟ تعاني اميركا في افغانستان من امور حيوية غالبيتها في المجال العسكري الاستراتيجي، خصوصاً على الصعيد التكتيكي، وهي: 1- عدم جهوزية القوى العسكرية لقتال هذا النوع من العدو، خصوصاً على المستوى التكتيكي. هذا عدا عن انها أعدّت للقتال ضد عدو مختلف وفي ظروف مختلفة. 2- عدم امكان قياس النجاح في هذه الحرب. فمتى تنتهي المهمة، ومتى يُعلن النصر، وهل ستُوقّع وثيقة استسلام، او هدنة مع هذا العدو؟ 3- عدم تناسب الوسائل الموضوعة مع الأهداف المعلنة. 4- خطر الفشل التكتيكي الأميركي الذي سيؤثر سلباً على المستوى الاستراتيجي الأميركي. 5- عدم امكان المشاركة العسكرية لغير الأميركيين والإنكليز، وذلك بسبب عدم رغبة الأميركيين بمشاركة الغير، لأن المسألة اصبحت تقريباً شخصية مع بن لادن، والنصر لا بد ان يكون من نصيبها. 6- عامل الوقت، الذي يلعب ضد اميركا. فكلما كانت العملية سريعة كلما كانت التداعيات السلبية أقل، لكن هذا الأمر غير متوافر. 7- اختلاف الأجندات بين المؤيدين خصوصاً القوى الكبرى، فهي تريد المساعدة ... من بعد. في ظل هذا الماكرو والميكرو، والعوائق امام الولايات المتحدة، هل هناك انتهازية استراتيجية اميركية من خلال الحملتين السياسية والعسكرية على افغانستان؟ إذا ما افترضنا ان الولايات المتحدة هي دولة عاقلة، تسعى الى مصالحها بعقلانية تامة، فإن من المحتّم عليها ان تستفيد من اخطاء الغير. فهي الدولة المهيمنة وعادة تركّز الدولة المهيمنة على هدفين استراتيجيين حيويين لاستمرارها هما: اولاً الاستقرار، حيث مصالحها الحيوية. ثانياً، عدم السماح بقيام دولة كبرى، او مجموعة تحالفات تهدد موقعها كزعيمة للعالم. والدولة المهيمنة تتجنّب عادة خوض المعارك الكبيرة، لأن هذه المعارك او نتيجتها هي التي تحدد توزيع القوى، وترسم صورة النظام الدولي الذي سيليها. فعلى سبيل المثال، كانت الحرب الثانية ونتيجتها السببين الأساسيين في رسم صورة الحرب الباردة. لكن عدم خوض المعارك الأساسية والكبيرة، يحتم في المقابل على القوة المهيمنة ان تتورط في الكثير من التدخلات الجانبية، غالباً عسكرية، كي تُبقي السيناريو القائم الذي هو عادة لمصلحتها. في هذا الإطار، تدخلت اميركا عسكرياً عبر تاريخها اكثر من 234 مرة خارج ارضها اصبحوا 235 مع افغانستان، لكنها أعلنت الحرب رسمياً خمس مرات. ماذا تعني كثرة التدخل؟ تعني كثرة التدخل استنزاف القدرات في كل المجالات، خصوصاً على صعيد الثروة. كما تعني تآكل الردع بسبب كثرة التورط، الأمر الذي يجعل من صورة المقدرة الأميركية المرعبة، صورة عادية لا تثير الخوف في قلب أحد. وإذا ما تآكلت الثروة، والقوة التي تحميها فهذا يعني ان السقوط محتّم. كما ان التورط المستمر والكثير، قد يعني وصول الولايات المتحدة الى امتدادها الأقصى، نقطة الذروة Over-extended، الأمر الذي يرفع من نسبة معطوبيّتها في حال امتدت اكثر. بدأت روما بالسقوط عندما وصلت الى امتدادها الأقصى، فارتدت قوة الامتداد الى الداخل وبدأ الصراع على السلطة. لكن روما سقطت فعلاً عندما كثرت التهديدات، الخارجية منها والداخلية. من الخارج القبائل الجرمانية المتخلفة آنذاك، والعقيدة المسيحية الصاعدة آنذاك في الداخل. ويقال في هذا المجال ان فيتنام كانت في وقت من الاوقات تشكل نقطة الذروة للامتداد الاميركي. لكن الصورة المتشابهة مع روما اكتملت حين بدأ التهديدان الداخلي والخارجي يقضّان مضاجع العمّ سام. إذاً، وانطلاقاً من القناعة بأن الولايات المتحدة عاقلة وهي تريد استغلال ضربة 11 ايلول سبتمبر الى مداها الأقصى، فهي ستعمد الى انتهازية استراتيجية تقوم على الآتي: 1- تنفيذ عسكري يُظهر صورة مرحلة ما بعد افغانستان في شكل ان تستمر هي على رأس الهرم العالمي. فكل تصرف حالي هو اساس للنظام العالمي المرتقب. فخلال الحرب الثانية، ساعدت اميركا روسيا عسكرياً كي تنتصر على الألمان، لكن هذا الانتصار، شكّل نقطة انطلاع للصراع خلال الحرب الباردة. 2- التصرف بشكل لا يلقي عليها فواتير ثقيلة تدفعها بعد المرحلة العسكرية. فهي لا تريد عودة مؤثرة لروسيا في آسيا الوسطى، ولا تريدها ضمن ال"ناتو" مع أوروبا الغربية، ولا تريدها مرتاحة في بحر البلطيق، ولا تريدها الى جانب الصين على المسرح الأوراسي. 3- حشد عسكري، يعطيها خيارات متعددة وحرية عمل كبيرة. فالحشد هو قريب جداً من إيران والخليج. لكنه حتى الآن مركّز على المسرح الأفغاني. فتعدّد الجبهات قد يوزّع القوى الأميركية فتخف فاعليتها، ويحتمل ان هذا من اهداف بن لادن. 4- سوف تستغل اميركا هذا الوضع لتصيفة الحسابات القديمة مع كل مَنْ كان على عداء معها، إن كان على صعيد الأنظمة او على صعيد المنظمات التي ترعى الجريمة المنظّمة، وتجارة المخدرات. 5- هجوم سياسي على الأصدقاء كما على الأعداء، والمدعوم بهذه الترسانة العسكرية الضخمة، مع التركيز على رسم صورة المعركة في انها ضد الارهاب، وليست موجهة ضد الاسلام. فالإسلام دين مستمر الى الأبد، وهو ليس عقيدة عابرة كما الشيوعية، يكفي ان تطلق شعارات ضدها لتسقط فيسقط معها كل شيء. ويخطئ من يعتقد ان اميركا ستضرب العراق في هذه المرحلة. فهي دولة مهيمنة كما تحدثُنا، وهي تريد الاستقرار مع الحرب الافغانية التي تتطلب تركيز الجهدين السياسي والعسكري. وأي عمل عسكري ضد العراق سيزرع الفوضى في منطقة حيوية جداً لها النفط وقواتها. لذلك يبدو ان كل ما نسمعه في هذا الصدد لا يتعدى الإطار الردعي في استخدام الكلام السياسي، لمزيد من الابتزاز. وقد يكون العراق في مرحلة لاحقة ضمن التصوّر الأميركي، لكن التغيير في نظامه إذا حصل سيأتي سليماً. 6- الاستفادة من تجارب حليفتهم انكلترا في افغانستان حين تورطت، كذلك من تجربة السوفيات. مع عدم نسيان تجربتهم المرّة في فيتنام. ويخطئ من يعتقد انهم سيغرقون في الوحول الافغانية ليتحوّل شكل الحرب الى حرب عصابات كما يرغب به نظام طالبان. ويعتقد الخبراء ان التنفيذ سيكون كالآتي: ضرب نظام طالبان، ضرب "القاعدة"، وتقديم النصر الى الشعب الأميركي والعالم، زرع الفوضى السياسية في افغانستان على ان توكل باكستان بالتسوية السياسية لاحقاً، تكليف الأممالمتحدة الجانب الإنساني، على ان تتكفّل دول عدة دفع الفاتورة المالية. تخرج القوات الأميركية من الداخل الأفغاني لتنصرف الى رسم صورة الماكرو، بعد ان تكون احتوت الارهاب داخل المسرح الأفغاني على غرار احتوائها العراق. فتتحقق بذلك استراتيجية الاحتواء للاهليلج النفطي الذي يضم دول الخليج، وثروات بحر قزوين. 7- لن تتراجع اهمية الهند كما يعتقد البعض، لتتقدم عليها باكستان. فإذا كانت العلاقة مع باكستان استراتيجية في المرحلة الحالية، فإنها ظرفية وموقتة، لأنها ستتحول في مرحلة ما بعد المعركة الى تكتيكية بحتة. فدور باكستان سيكون في خلفيتها الأفغانية. اما الهند فستستردّ دورها الاستراتيجي الذي يقوم على ضرب التحالف الروسي - الصيني، اذا حصل، وعلى احتواء الصين. فبعد ان اصدر وزير الدفاع الاميركي رامسفيلد مراجعته للاستراتيجية العسكرية الاميركية، شدد على ان الصين هي منافس استراتيجي. فتبدو الهند في هذه المقاربة حيوية، لأنها تسيطر جغرافياً على المحيط الهندي الممر الأهم لطاقة آسيا. كما انها ليست على وئام تام مع الصين في اقليم التيبت. 8- المشكلة الفلسطينية قد توضع على قطار الحل غير العادل. فالدولة الفلسطينية قائمة لا بد، لكن المشوار يبدو طويلاً. اما اسرائىل فهي الحليف الدائم للولايات المتحدة، ولها مهمات كثيرة في المرحلة البعيدة لمحاربة الارهاب، خصوصاً على صعيد المعلومات والتنفيذ على الأرض. إذ لا يوجد في المجال الجغرافي الممتد من الهند وحتى تركيا دولة حليفة بالفعل تستطيع ان تتكل عليها الولايات المتحدة عسكرياً سوى اسرائىل. لذلك يجب عدم التسرّع في اطلاق التحليلات عن المتغيرات الاستراتيجية في المنطقة. فبناء هذه التحولات وتبدّلها هو مسار وليس قراراً. * كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد.