بعد مرور عشر سنين على انطلاق عملية السلام في الشرق الأوسط وإحدى عشرة سنة على فرض العقوبات الدولية على العراق إثر غزوه الكويت، يبدو التحول الاستراتيجي في سياسة واشنطن، في ظل الإدارة الجديدة، بمثابة محاولة لفك ارتباط غير معلن بين السياسة الأميركية تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي من جهة، والمصالح الأميركية في منطقة الخليج من جهة أخرى. ففي مقابل فشل العقوبات الدولية في إطاحة النظام العراقي، فشلت عملية السلام في تحقيق أهدافها، ما وجه ضربة إلى نفوذ الولاياتالمتحدة ودورها في المنطقة. وفي مقابل تمرد إسرائيل على شروط التسوية السلمية التي أقرتها واشنطن في مدريد، وانتخابها شارون رئيساً لحكومتها، يتمرد العرب على سياسة واشنطن تجاه بغداد، بتطبيع العلاقات مع العراق وتوقيع اتفاقات تجارة حرة معه وتصعيد الحملة لرفع العقوبات الاقتصادية. من هنا يبدو الفشل الأميركي المزدوج تجاه تل أبيب وبغداد، الدافع الأساسي لمبادرة واشنطن، تحت عنوان "العقوبات الذكية"، والتي تستهدف رفع العقوبات الاقتصادية عن العراق وابقاء الحظر العسكري والعزلة السياسية. لذلك فإن التراجع الأميركي عن الشق الاقتصادي من العقوبات هو محاولة لإنقاذ سياسة الاحتواء الأحادي تجاه العراق والحفاظ على التحالف العربي والدولي مع واشنطن، من خلال ازالة أهم أسباب انهياره في ظل فشل التسوية السلمية. لم يعد بإمكان الإدارة الأميركية اقناع حلفائها العرب بضرورة تطبيق قرارات الشرعية الدولية على العراق، فيما تواصل إسرائيل التمرد على تلك القرارات، خصوصاً بعد وصول شخص من نوع شارون إلى رأس السلطة. وواضح أن بغداد نجحت في اقناع العراقيين والعرب والعالم بأن واشنطن هي المسؤولة عن استمرار معاناة الشعب العراقي، على رغم ان برنامج "النفط للغذاء" يسمح للعراق بتصدير أكبر كمية ممكنة من النفط لتلبية الاحتياجات الإنسانية لمواطنيه. وباستثناء الأميركيين والبريطانيين، ليس هناك من يتساءل عن الأسباب التي تمنع الحكومة العراقية من انفاق الجزء الأكبر من عائدات النفط المتوافرة في صندوق الأممالمتحدة، فالعقود التي طلبت بغداد إقرارها في لجنة العقوبات لا تتعدى قيمتها ربع العائدات النفطية، ما يكشف أن العراق يصر على مواصلة سياسة الابتزاز على حساب شعبه، الأمر الذي تسعى واشنطن ولندن الآن إلى معالجته من خلال "العقوبات الذكية". فرفع العقوبات الاقتصادية يستهدف تحويل مسؤولية معاناة الشعب العراقي من واشنطن إلى بغداد، مع ابقاء الحظر العسكري الذي يحظى بدعم اقليمي ودولي. ويبقى السؤال: هل ستشترط واشنطن عودة المفتشين الدوليين إلى بغداد في مقابل رفع العقوبات الاقتصادية؟ والأهم هل يوافق العراق على رفع العقوبات الاقتصادية بمعزل عن الحظر العسكري؟