ماذا تريد كل من بغدادوواشنطن من الآخر؟ سؤال بقدر ما يبدو للوهلة الأولى سهلاً، تأتي الأحداث لتزيده تعقيداً. فهل تريد واشنطن انصياع العراق لقرارات الأممالمتحدة بغرض تجريده من اسلحة الدمار؟ أم قصة الأسلحة حجة لاسقاطه؟ وكيف؟ وبالمقابل هل تسعى بغداد فعلاً لرفع الحصار ولو كان الثمن خسارة اسلحتها المحظورة، ام انها تريد الحفاظ على اسلحتها المحظورة لمقايضتها بمصالحة مع واشنطن تضمن بقاء النظام؟ فعلى صعيد الأسلحة، هناك اكثر من طرف اميركي لا يعتقد بامكانية نظافة العراق من اسلحة الدمار الشامل. يقول دانيال بايمان، الخبير السياسي في مؤسسة راند الاميركية النافذة في الأوساط الرسمية، في دراسة له في مجلة "فورين افيرز" في عددها الأخير في شباط فبراير 2000، تحت عنوان "وداعاً للتفتيش عن الأسلحة"، ان ضرر عودة مفتشي الأممالمتحدة للأسلحة المحظورة الى العراق هو اكثر من فائدته، وان خير سياسة تعتمدها الولاياتالمتحدة هو استمرار حال الجمود الراهنة، وذلك للأسباب التالية: - أي محاولة للكشف عن اسلحة جديدة سوف لا يحالفها الحظ وذلك لغياب الارادة الدولية باستعمال القوة ومزيد من العقوبات. - أمام أي حال من التحدي العراقي للمفتشين ستجد واشنطن نفسها في مأزق، شبيه بالمواجهة التي أدت الى عملية "ثعلب الصحراء" في كانون الأول ديسمبر عام 1998. فواشنطن امام احتمالين، تجاهل تحديات بغداد بما يمهد الطريق الى الاعتراف بنظافة العراق من اسلحة الدمار الشامل، او استخدام القوة والتي بالتجربة لم تؤد الى عودة المفتشين او التفتيش. اضافة الى ان مثل هذا الوضع سيترك زمام المبادرة وتوقيت المواجهات مع واشنطن بيد بغداد. - الخوف من ان يتوصل المفتشون الدوليون الى اقرار نظافة العراق من اسلحة الدمار الشامل، على رغم قناعة واشنطن بامتلاك العراق لتلك الاسلحة، بما يعني رفعاً للعقوبات وحرية صدام حسين في التصرف بعوائده المالية بما يمكنه من اعادة بناء اسلحته المحظورة. وعليه، كما يقول الخبير الاميركي بايمان، من مصلحة الولاياتالمتحدة بقاء حال الجمود القائمة الآن، وإلقاء اللوم على صدام الذي اعلن رفضه السماح للمفتشين الدوليين بالعودة، وبذلك يصبح صدام وليس الولاياتالمتحدة "الشيطان"، وفي ذات الوقت تحتفظ واشنطن بالعقوبات وتكسب تأييد الآخرين في معاقبة بغداد وعزلها. ويؤكد بايمان ان مجرد تدمير قدرات العراق الحالية لا يلغي قدرة العراق في المستقبل على اعادة بناء ترسانته من الاسلحة المحظورة، فحسب تقديراته يحتاج العراق الى بضعة اعوام لاعادة بناء اسلحته النووية، بينما عودة تشغيل برنامج التسلح البيولوجي لا تحتاج سوى ايام، وانتاج اسلحة كيماوية كغاز الخردل والسارين قد تتطلب بضعة اشهر فقط. وعليه من حسن حظ الولاياتالمتحدة ان صدام حسين لم يتعاون مع اونسكوم في عام 1991، بما كان سيؤدي الى نهاية العقوبات وبالتالي استرجاع العراق لقدراته التسليحية الى سابق عهدها او اكثر. المأزق الأميركي في التعامل مع العراق ان اهمية مقولة بايمان، لا تكمن في موقعه السياسي، على رغم اهمية مؤسسة راند، بل في تشخيصه لأحد اهم جوانب الأزمة التي تعيشها الادارة الاميركية بشأن العراق. فاذا كانت اولوية الادارة الاميركية هي نظافة العراق من الاسلحة المحظورة وليس تغيير النظام، فالأمر يتطلب مرونة شبيهة بتلك التي مارستها مع كوريا الشمالية حيث قايضت الامتناع عن التجارب النووية مقابل التعايش السياسي، بل وحتى تقديم المساعدات. وكذلك الحال مع ميلوشيفيتش حاكم صربيا حين اعتبرت واشنطن اجراء انتخابات حرة بإشراف دولي هو السبيل لرفع الحظر. اما اذا كانت الادارة على قناعة بأن لا ضمان لنظافة العراق من اسلحته المحظورة الا بتغيير النظام، فالأمر يتطلب استعداداً أميركياً للتدخل العسكري المباشر بما يحقق التغيير، وهذا ما رفضته وترفضه الادارات الاميركية المتعاقبة منذ نهاية حرب الخليج الثانية. وإذا كان بمقدور واشنطن حسم الأمر في بداية التسعينات، فإن انفراط التحالف الدولي وتحالف المعارضة العراقية، اضافة الى تحول الشأن العراقي الى ورقة في الصراع الحزبي الداخلي في الولاياتالمتحدة، شلا قدرة ادارة الرئيس كلينتون على الحسم، بما جعل اي انفتاح على بغداد هزيمة اميركية، وأي عمل عسكري مباشر مغامرة مرفوضة اميركياً وإقليمياً ودولياً، وهكذا اصبح الانتظار خيار واشنطن الوحيد. ان سياسة الانتظار التي عرفت باسم "الاحتواء" وفي ما بعد "الاحتواء زائد التغيير"، تقوم على استمرار العقوبات المفروضة على العراق بحجة عدم استجابة العراق بكشف وتدمير اسلحته المحظورة، وقد استفادت واشنطن من تلكؤ بغداد ومراوغتها في التعامل مع اللجنة الخاصة أونسكوم لإطالة أمد العقوبات. لكن استغلال واشنطن للجنة الخاصة أونسكوم لضمان بقاء سقف العقوبات بحجة او اخرى، افقد الاخيرة الكثير من صدقيتها خاصة في اوساط الأممالمتحدة، وقرار مجلس الأمن 1284 تشكيل لجنة التحقق والتفتيش والمراقبة انموفيك هو شهادة على فشل اللجنة الخاصة أونسكوم. اذا كانت سياسة "الانتظار" او "الاحتواء" تعفي الادارة الاميركية من مواجهة متطلبات الحسم وتبعاته على الأمد القريب، فان استمرار هذه السياسة كنهج ثابت انعكس سلباً على الصعيد الاقليمي والدولي، كما تجلى في اعتماد قرار مجلس الأمن 1284 بغالبية 11 صوتاً وامتناع ثلاث دول دائمة العضوية، وحتى على الصعيد العراقي وجدت معظم فصائل المعارضة العراقية التي تعاملت مع واشنطن نفسها مضطرة الى رفض الحصار اسلوباً لمقاومة النظام العراقي، وأخذ البعض منها ينأى بنفسه عن الولاياتالمتحدة او يعيد مد الجسور مع بغداد، كما تجلى في نهج الحزبين الكرديين الرئيسيين. ان ثمن سياسة "الاحتواء" هو بدون شك اطالة معاناة الشعب العراقي، وهذا يبقى بالنسبة للولايات المتحدة كما قالت مادلين اولبرايت مندوبة الولاياتالمتحدة في الأممالمتحدة آنذاك في مقابلة تلفزيونية مع CBS في ربيع 1997، "ثمناً يستحق الدفع من اجل استمرار العقوبات المفروضة على العراق". ولكن يبدو ان هذا الثمن تحول الى أداة بيد بغداد لكسب الرأي العام العربي والاسلامي وحتى الاميركي مطالبة 70 عضواً في الكونغرس الأميركي بتخفيف العقوبات، الأمر الذي يفسر مراجعة الادارة الاميركية لأسلوب تعاملها مع لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن، كما جاء في تصريح الرئيس الأميركي كلينتون للصحافة بتاريخ 25 شباط فبراير باستعادة ادارته للنظر في اسلوب تسهيل وتسريع مصادقة الأممالمتحدة على عقود الشراء العراقية، علماً ان الادارة الاميركية كانت عائقاً امام الاستجابة لطلبات العقود العراقية بحجة الاستخدام المزدوج لبعض المواد، حتى بلغت العقود المجمدة اكثر من الف عقد قيمتها اكثر من بليون دولار تشمل قطع غيار للصناعات النفطية والبنى التحتية كالكهرباء والماء، بينما العقود التي اوقفتها بريطانيا لا تزيد عن 120 عقداً، ثم اجازت معظمها في ما بعد. النظام كرس الحصار وسيلة للاستمرار في الحكم وفي الوقت الذي ادركت واشنطن ان العقوبات وحدها لا تكفي لاسقاط النظام، استطاع الأخير تحويل العقوبات الى اداة لفرض هيمنته السياسية وإدامة حكمه وكسب العطف العربي والاسلامي. وهذا ما اكده فيدرين وزير الخارجية الفرنسي 7 شباط 2000 بقوله "ان النظام العراقي يستمد من الحظر قوته على البقاء وعلى رفض أي تطور داخلي ومواجهته بالقمع". ويتبجح كل من وزير الخارجية العراقي نزار حمدون في حديث له مع محطة CNN التلفزيونية في 14 شباط 2000، بالقول: "العراق يستطيع الحياة مع العقوبات الى الأبد". ان عراق الشعب، وليس عراق النظام الذي يعاني من العقوبات، فالموارد النفطية الشرعية بموجب برنامج النفط مقابل الغذاء، خصوصاً بعد التحول الاميركي، كفيلة بتوفير الحد الادنى لإدامة حياة الناس من غذاء ودواء. اما ما يحتاجه النظام من اموال لتوفير مستلزمات القمع والتسلح فبإمكانه توفيرها عبر شبكة من قنوات التهريب مع جيران العراق وغيرها، فبهذا المعنى يستطيع عراق نزار حمدون العيش في ظل العقوبات الى الأبد. بل ان العقوبات أزاحت عبئاً اقتصادياً كبيراً كان يتوجب على النظام الاستجابة له، الا وهو تسديد الديون او على الأقل خدمة الديون بما يقارب عشرة بلايين دولار سنوياً، اي معظم عوائد العراق النفطية. بينما سمح له استمرار العقوبات ببيع نفطه من دون ملاحقة من دائنيه، وتعليق كافة استحقاقات الاعمار على شماعة "الحصار"، الأمر الذي سيتغير بمجرد رفع العقوبات. وإذا كان النظام يعول على دعم مالي دولي فإن اشتراطات الصناديق الدولية ستقيد حريته في الصرف الأمر الذي ليس بالسهل على حاكم العراق. كل ذلك يؤكد ان استمرار العقوبات ليس هم النظام الأول، بل الأهم من ذلك، كيف يخرج من عزلته ويعاد تأهيله؟ وهنا يصبح دور الولاياتالمتحدة مركزياً. فبغداد أبدت في اكثر من مناسبة رغبتها في الحوار مع واشنطن، وآخرها ما جاء في افتتاحية جريدة "الثورة" الناطقة باسم حزب البعث الحاكم بتاريخ 23 شباط 2000، من دعوة واشنطن للحوار، مؤكدة ان "أبواب بغداد ما زالت مفتوحة" من اجل "تبادل المصالح المشتركة"، ملوحة بالمنافع المادية بالقول، "ألم يكن العراق يستورد ربع صادراته من الرز وأبرز مستورد لحنطتها ولما تنتجه من مواد غذائية حتى نهاية الثمانينات؟"، وبأن واشنطن خسرت في العراق "شريكاً". ان تلويح بغداد بالمصالح التجارية غير كاف لتحول الولاياتالمتحدة، خصوصاً وان نفط العراق والكثير من عقود قطع غيار الصناعات النفطية يذهب الى الولاياتالمتحدةوالعراق لا يزال في ظل الحصار. السؤال ماذا عند بغداد تقدمه لإقناع واشنطن بتغيير نهجها لصالح الحوار وفي ما بعد التأهيل؟ - كانت معاداة ايران اهم ورقة بيد النظام العراقي، وقد تم استنفادها بحرب الخليج الأولى، وبمجيء خاتمي للحكم ونجاح الاصلاحيين في الانتخابات الأخيرة في ايران اصبح احتمال الانفتاح الاميركي على ايران اكثر واقعية من استغلال نظام البعث لمحاربة ايران. - أما ورقة الشارع العربي او حتى الاسلامي التي طالما لوح بهما النظام العراقي، فقد استنفدت مداها وهي عملة غير قابلة للمقايضة، خصوصاً وان هذا الشارع لم يكن قادراً على التأثير في قضية اكثر حساسية وهي السلام مع اسرائيل. - اما ورقة التهديد للمصالح الاميركية في الخليج، فإن العراق اضعف من ان يهدد احداً، بخاصة بعد تدمير معظم آلته العسكرية وفي ظل التواجد العسكري الاميركي في كافة دول الخليج العربية. بل ان البعض يعتقد بأن تأهيل صدام سيفقد واشنطن مبرراً لاستمرار التسلح الخليجي والوجود العسكري الاميركي هناك. وحتى الدول العربية التي تعاطفت مع صدام حسين، كالسودان واليمن تراجعت عن مواقفها لصالح مد الجسور مع الكويت. - اما قضية السلام مع اسرائيل، فإن العراق المهمش لم يعد عاملاً معيقاً للتسوية، بل كانت هزيمته العسكرية عام 1991 سبباً لنجاحها، والاشارات التي تصدر هنا او هناك عن استعداد النظام لاستيعاب الفائض من اللاجئين الفلسطينيين لا تكفي لتأهيله اميركياً، فهي قد تكون نتيجة لسقوط صدام وليست سبباً لتأهيله. - ان ورقة النظام العراقي الأخيرة هي اسلحة الدمار الشامل، بخاصة ان الاسلحة الكيماوية والبيولوجية لا تحتاج لأكثر من اسابيع لاعادة تشغيلها. وهذا يفسر قول طارق عزيز نائب رئيس الوزراء العراقي رويترز 3/2/2000، ان "بلاده تفضل العقوبات على استئناف عمليات التفتيش عن الاسلحة". ان اهمية هذا السلاح لا تكمن فقط في تهديد اي هجوم للإطاحة بالنظام من الخارج، بل كذلك في قدرته على تهديد وسحق اي تمرد داخلي باعتبار "الغازات الكي آخر العلاج". من الصعب على النظام التخلي عن هذه الورقة من دون ثمن، بخاصة وانه يسعى، وقد نجح الى حد ما، في اقناع واشنطن بأن العقوبات لا تسقط النظام بل اصبحت عبئاً معنوياً على صانعي القرار الاميركي. ان مثل هذه الصفقة سيكون حتماً على حساب حرية الشعب العراقي وآماله بالديموقراطية واحترام حقوق الانسان، اما قول البعض راغدة درغام، "الحياة" - 25 شباط بأن الحوار بين واشنطنوبغداد الذي "يشترط مسبقاً اجراءات الانفتاح والاطلاع على حال حقوق الانسان وضمان الحريات الأساسية وتفعيل دستور التعددية في العراق" هو السبيل الى انقاذ الشعب العراقي فهو من باب التمنيات، فالتعددية تعني تداول السلطة وافتراض استعداد النظام ورأسه للتخلي عن السلطة!! ان من دفع أراق من دماء الشعب العراقي للبقاء في السلطة هل سيرضى بالتخلي عنها لمجرد رضا واشنطن عليه!! * كاتب عراقي، لندن.