ليس ضرورياً ان "تبصم" القيادات العربية على كل تفاصيل السياسية الاميركية نحو ملفات الشرق الاوسط والخليج والمغرب العربي حتى وان وافقت على عناوينها العريضة. وليس مفيداً دائماً ان يكون الصمت العربي على بعض هذه "التفاصيل" السبيل لتجنب الاحراج أو للهروب من المسؤولية. فإذا تلاقت الرغبات العربية والاميركية في احياء عملية السلام وانقاذها، هذا لا يبرر التقاعس العربي في ابراز الرفض القاطع لأي استمرار لسياسة الاستيطان الاسرائيلية وفي رفض منطق عدم تمكن اسرائيل من هضم أكثر من مسار في المفاوضات في آن واحد. واذا كانت الرغبات العربية تلتقي ضمناً مع السياسة الاميركية المعلنة الهادفة لاسقاط النظام في بغداد، هذا لا يبرر الموافقة الضمنية على استخدام العقوبات على العراق أداة من ادوات التمنيات بإطاحة النظام، خصوصاً ان "استراتيجية" استبدال الحكم ركيكة ليس لها برنامج زمني محدد او معقول. فكلفة هذه التفاصيل باهظة عربياً. والاستدراك ضروري لأكثر من هدف وغاية. ما يقوله اقطاب الادارة الاميركية في شأن السياسة نحو العراق ان العقوبات الاقتصادية المفروضة منذ ثماني سنوات، والتي هي أشد نظام عقوبات في التاريخ، تشكل عنصراً رئيسياً في سياسة "الاحتواء والاستبدال". وبالتالي، اوضحت الديبلوماسية الاميركية في الأممالمتحدة ان لا مجال لتخفيفها او تعليقها او ازالتها طالما ان الرئيس صدام حسين في السلطة. وكما قال المساعد الخاص للرئيس الاميركي، بروس رايدل، في حديث الى "الحياة" قبل اسبوعين "ان العقوبات حرمت صدام حسين من السيطرة على الثروة النفطية في العراق. فاذا استعاد السيطرة عليها، نعرف ماذا سيفعل بالعائدات. فهو لن ينفقها على الغذاء والدواء للشعب العراقي… وهدفنا هو ابقاء العقوبات مفروضة على العراق لمنع صدام حسين من السيطرة مجدداً على العائدات النفطية، وفي نفس الوقت نعزز برنامج النفط للغذاء والدواء كي يحصل الشعب العراقي على المساعدات الاضافية". واقعياً، ان موقف بغداد من "صيغة النفط للغذاء والدواء" اساسي في مصيرها. حتى الآن، ترى بغداد انها مستفيدة من هذه الصيغة التي تسمح ببيع 5.2 بليون دولار من النفط كل ستة اشهر علماً بأن معداتها النفطية غير قادرة على ضخ هذه الكمية المسموح بها في اي حال. اما اذا نجحت المحاولة البريطانية بجعل هذه الصيغة المعززة بديل الأمر الواقع لرفع العقوبات في قرار يصدره مجلس الأمن، فليس مستبعداً ان تتخذ بغداد قرار وقف العمل كلياً مع صيغة النفط للغذاء والدواء، فترفض بذلك "الوصاية" الدولية على العراق، وتؤجج مشاعر الاحتجاج على تجويع الشعب العراقي. عملياً، ان سياسة العقوبات فشلت في العراق، اولاً، أنها لم تؤد الى اسقاط النظام وفي الوقت الذي أدت فيه الى دمار البنية التحتية المدنية وانهيار النسيج الاجتماعي في العراق. ثانياً، لأن خرق نظام العقوبات، عبر التهريب، عزز الفساد والسيطرة لقطاعات مهيمنة في العراق. قد يقال ان العقوبات نجحت في تدجين العراق واحتوائه واضعافه عسكرياً ومنعه من استئناف تهديد جيرانه. وقد يقال انها ساهمت جذرياً في دفع بغداد الى الكشف عما كان في حوزتها لجهة اسلحة وبرامج اسلحة الدمار الشمال. هذا صحيح، انما الصحيح ايضاً ان العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق انزلت الدمار الشامل به، وانها استخدمت لغايات ليست حصراً ضد النظام واني ضد العراق كبلد في موازين القوى الاقليمية والاقتصادية. والأخطر ان استمرار العقوبات المدنية على العراق يمثل اسوأ استثمار في اجياله المقبلة التي تتراكم في نفوسها مشاعر الحقد والانتقام ليس فقط من القرار الدولي بإركاعها وانما من الجيرة المباشرة التي وافقت ضمناً على استخدام العقوبات سلاحاً في معركة الاطاحة بالنظام. فالاستدراك في محله. المنابر الاميركية والاوروبية بدأت تتنبه الى خطورة استخدام سلاح العقوبات في المعركة مع النظام في العراق بكلفته الانسانية الباهظة كما بإفرازاته السياسية المستقبلية. والسؤال المطروح اخلاقي بمقدار ما هو عملي وواقعي: هل يجوز استخدام العقوبات الاقتصادية الواسعة كأداة لاسقاط حكومة او نظام؟ ومسؤولية من هي رفض استخدام معاقبة بلد بكامله لتحقيق هدف ليس له قاعدة قانونية في قرارات مجلس الأمن. بعض الاطراف العربية الرسمية والمنابر الفكرية تهمس هذا السؤال بصوت خافت في الفترة الاخيرة. فموضوع العراق دخل متاهات الصمت وعدم الاكتراث منذ مطلع السنة. حتى مجلس الأمن تناول الموضوع العراقي على اساس تجنب المواجهة مع السياسة الاميركية القائمة منذ كانون الاول ديسمبر الماضي على استخدام كل الأدوات لاسقاط النظام في بغداد. الكل تفادى تحدي الأرضية القانونية للعمليات العسكرية الاميركية - البريطانية، لمنطقتي حظر الطيان في شمال وجنوب العراق التي تفرضهما الدولتان ولاعلان سياسة الاطاحة بالنظام واستخدام العقوبات جزءاً منها. فالكل اعطى الولاياتالمتحدة فسحة زمنية لتحقيق اهدافها، والمشكلة التي تواجه مجلس الأمن هي ان الفرصة الزمنية طالت بلا نتائج ملموسة وطال معها غياب الأممالمتحدة عن مراقبة برامج التسلح في العراق. لكن غياب الأممالمتحدة وانهيار اللجنة الخاصة المكلفة ازالة الأسلحة العراقية المحظورة اونسكوم وبرامج الرقابة البعيدة المدى لم يعد يقلق الادارة الاميركية. وحسب بروس رايدل "لدينا وسائلنا الخاصة نتعرف من خلالها على ما يحدث في العراق. فنحن الطرف الذي اعطى لجنة اونيسكوم المعلومات، مع غيرنا من اصدقائنا في المنطقة. واننا مستمرون في مراقبة ما يحدث هناك". هذا الكلام ينسف كل ما قالته الادارة الاميركية في السابق بأن لجنة "اونسكوم" اساسية لمنع احياء برامج التسلح العراقي وان القدرات العسكرية العراقية تشكل الخطر الاكبر والمبرر الاول لاستمرار العقوبات. فالسياسة الاميركية الجديدة، كما عبر عنها رايدل، هي "ان نزع السلاح الحقيقي في العراق يتطلب تغيير القيادة". ولذلك فإن موت "اونسكوم" ليس سيئاً من وجهة النظر الاميركية لأن قتلها يزيل مفتاح رفع العقوبات كما نص القرار 687 الذي ربط بين شهادة نظافة السجل من "اونسكوم" وبين رفع الحظر النفطي عن العراق. روسياوفرنسا والصين تحركت الاسبوع الماضي في محاولة اعادة موضوع العراق في مجلس الأمن الى سكة قانونية واخراجه من ارتهان الولاياتالمتحدة له في موضوع العراق، فتقدمت بمشروع قرار "يعلق" العقوبات الاقتصادية مقابل عودة المفتشين واثبات تعاون بغداد مع فرض آلية شفافية مالية على استخدام العائدات قريبة من آلية صفة النفط للغذاء والدواء، مع بقاء العقوبات العسكرية الصارمة وادخال عنصر التدريجية عند تناول ملفات الاسرى والمفقودين والممتلكات الكويتية. ولدى رفض الادارة الاميركية قطعاً اي تعليق "للعقوبات طرحت فرنسا افكاراً انطوت على تنازلات اكبر لإقناع الولاياتالمتحدة انطلقت من اجراءات على بغداد اتخاذها قبل التوصل الى "تعليق" العقوبات. ورغم مرونة الطرح الفرنسي وأوجه الشبه الكثيرة بينه وبين مشروع القرار البريطاني - الهولندي، تشبثت واشنطن بالرفض القاطع للنظر في مسألة العقوبات بشكل او آخر وراهنت على انحسار اهتمام مجلس الأمن بالمسألة من ناحيتي العقوبات ومنطقتي حظر الطيران طالما ان القاعدة الاقليمية متينة. ورايدل اوضح ذلك في عدم اعطاء الاجماع في مجلس الأمن الأولوية بل حتى الاهمية عند قوله "ان دول المنطقة الحيوية في سياسة الابقاء على العقوبات مستمرة في دعم هذه السياسة كما هي مستمرة في توفير التسهيلات التي ننطلق منها لفرض منطقتي حظر الطيران". قد يكون كلام اقطاب الادارة الاميركية مبالغاً فيه للتغطية على وهن القاعدة القانونية في قرارات مجلس الأمن للسياسة الاميركية المعلنة، وقد يكون صحيحاً في العمق خصوصاً لجهة قوله ان احداً في المنطقة على مستوى القيادات سيذرف "دمعة" على رحيل صدام حسين من السلطة. انما انتهاء النظام في بغداد شيء، واستخدام العقوبات الاقتصادية أداة لاسقاط النظام شيء آخر. وليس في مصلحة القيادات العربية ان تكون شريكاً او حتى مشاهداً على استخدام العقوبات الاقتصادية سلاحاً في معركة تغيير نظام بغض النظر ان كان قرارها اطاحته او التعايش معه. فمشهد السفير الروسي في الأممالمتحدة. سيرغي لافروف. يحاول اقناع السفراء العرب وجامعة الدول العربية بقليل من التحرك لخلاص الشعب العراقي من العقوبات بطرح يحافظ على المصلحة الوطنية لدول المنطقة، فيلاقي التهرب والتملص والاعتذار، مشهد صعب هضمه. صحيح ان الانقسامات في الصفوف العربية تقيّد ايادي السفراء العرب في الأممالمتحدة. لكن فشل المجموعة العربية في الجرأة على مجرد مناقشة مشروع قرار تدعمه روسياوفرنسا والصين مشهد حزين. كذلك صمت المنابر العربية في التمييز بين معاقبة العراق وشعبه على نظامه وبين عقوبات مقننة في النظام. ثم ان هدف العقوبات اصلاً يجب الا يكون العقاب وانما الاقناع بتغيير نمط، في حال العراق جاءت مطاطية العقوبات في اهدافها لتمحو اصول استخدامها انما لتغيير نمط في صالح البلد وجيرته او لترغيب حكم فيه بالمزيد من التعاون في اطار المكافأة المدروسة على نسق معادلة العصا والجزرة. واذا كانت الموافقة الضمنية على السياسة الاميركية المبعثرة في صدد العراق مبنية على التمنيات لها بالنجاح، يجدر عدم نسيان الضباب الذي يرافق هذه السياسة. فإذا انحسر، قد لا يكون مرور السحاب في مصلحة المنطقة ومستقبلها. فهذه سياسة بلا أطر زمنية. والزمن قد يأتي بمعادلات ومفاجآت وسيناريوات من الضروري جداً ان تبقى في الاذهان العربية ان رفض استخدام العقوبات الاقتصادية اداة في سياسة الاطاحة اضعف الايمان.