كانت السياسة الخارجية الأميركية تجاه العراق، منذ التخلي عن انتفاضة آذار مارس 1991، ولا تزال ثابتة، على رغم تغيير الإدارات، وذلك باعتمادها الاحتواء وليس التغيير بالقوة وسيلة للتعامل مع العراق. هناك اقتناع أميركي ثابت برفض التدخل العسكري البري من أجل اسقاط النظام الحاكم في بغداد، وان خيار الاحتواء هو الأصح، خصوصاً أنه أثبت جدواه في اسقاط الاتحاد السوفياتي، فكيف الحال بدولة من العالم الثالث صغيرة كالعراق. وبذلك دشنت واشنطن "حرباً باردة اقليمية"، حسب وصف مساعد وزير الخارجية الأميركية السابق ريتشارد ميرفي، متوقعة سقوط النظام العراقي في غضون شهور. ولكن خطأ التقدير الأميركي بقرب سقوط صدام حسين ليس كافياً لإعادة النظر في سياسة الاحتواء، وذلك لغياب البديل المقبول أميركياً، إضافة الى أن تغيرات اقليمية ودولية، خصوصاً انفراط عقد التحالف الدولي والتحول في الموقف الفرنسي والروسي، جعلت من اعتماد القوة خياراً أكثر صعوبة، في وقت توفر العقوبات تحت غطاء الشرعية الدولية سلاحاً فعالاً لاستمرار الاحتواء، الأمر الذي لا ينطبق على الحال السوفياتية أو الكوبية. ولكن مرور حوالي عشرة أعوام من دون تغيير في العراق، جعل من أحد أهم أسلحة الاحتواء، وهي العقوبات الاقتصادية، سلاحاً ذا حدين، فاستطاع النظام العراقي توظيف معاناة الشعب العراقي إلى ورقة سياسية للضغط من أجل فك العزلة الاقليمية والدولية عن نظامه. وإذا كانت واشنطن تعوّل على تحول الحصار إلى اداة للضغط الشعبي، وبالتالي الثورة على النظام، فالأعوام العشرة الماضية كرست عزلة من يطالب بإبقاء العقوبات، في وقت لبس النظام عباءة "الدفاع" عن الشعب ضد سياسة التجويع الأميركية. ومهما حاولت واشنطن اقناع العالم بأن صدام حسين مسؤول عن معاناة الشعب العراقي، يبقى الانطباع والاقتناع الشعبيان بأن أميركا هي المسؤولة أولاً عن ذلك، وإن كل الديكتاتوريات التي شنت حروباً، من هتلر وموسوليني واليابان، انتهت بسقوط تلك الأنظمة إلا الحال العراقية. وإذا كانت واشنطن تعول على المعارضة العراقية من أجل التغيير، فإن سياسة الاحتواء وطول انتظار ثمارها أخذ يفت من عضد تلك المعارضة التي عوّلت أصلاً على واشنطن للتعاون في مشروع التغيير وليس انتظار ثمار "الاحتواء". كما أصبح استمرار العقوبات موضوع خلاف بين العراقيين أنفسهم، فالمنطقة الكردية التي هي خارج سلطة صدام حسين لها مصلحة في استمرار الوضع بما يبقيها خارج هيمنته، خصوصاً استمرار العمل بالقرار 986 النفط مقابل الغذاء الذي ضمن للاكراد حق التصرف بنسبة 13 في المئة من موارد النفط العراقية من دون قيد حكومي. وهذا ما أكده عماد أحمد، وزير الصناعة والطاقة في حكومة اقليم السليمانية، بقوله "الاتحاد" 16/6/2000: "في رأيي هناك وجهتا نظر حول القرار 986، ووجهة نظرنا نحن الكرد المستفيدين من هذا القرار على رغم النواقص التي تكتنفه، فهذه أول مرة نستفيد فيها من عائدات نفطنا ونصرفها على المشاريع الخدمية في مناطقنا، ووجهة نظر الحكومة العراقية التي لا تريد النجاح لهذه التجربة وتسعى إلى إفشال هذا القرار لأنه لا يحل لها مشاكلها ولا يرفع الحصار المفروض عليها". فإذا كانت للأكراد مصلحة في استمرار الوضع القائم بعيداً عن سلطة بغداد، فإن غيرهم من الخاضعين لحكم صدام حسين يعتبرون استمراره بمثابة انتحار بطيء. وبدلاً من تعبئة المنطقة الكردية الخارجة عن سلطة النظام للعمل من أجل التغيير، نجد ان سياسة الاحتواء بمواصفاتها الحالية تحول دون أن يلعب الأكراد دوراً فاعلاً في اسقاط النظام، الأمر الذي عزز ضعف المعارضة وانقسامها. وإذا كانت كردستان العراق تعيش، بفضل الحماية الأميركية، وضعاً أفضل مقارنةً بحكم صدام، فإن القيادات الكردية تدرك تماماً ان الوضع القائم الذي تكرسه سياسة الاحتواء الأميركية لا يقدم حلاً دائماً للأكراد، ولا يمكن أن يدوم، وسيفرض عليهم في أي وقت مواجهة خيارات صعبة قد تعيدهم لسيطرة الحكومة العراقية أو تدفعهم مجدداً للاقتتال الأهلي، لذا أخذ بعض الأطراف الكردية يمد الجسور مع بغداد تحسباً للمستقبل. كما دفعت الخيبة من الإدارة الأميركية، خصوصاً بعد أحداث كردستان في عام 1996 وخروج "المؤتمر الوطني" منها، بعض أطراف المعارضة العراقية إلى اقحام القضية العراقية في لعبة الصراع الحزبي بين الديموقراطيين والجمهوريين، ما زاد تفكك المعارضة العراقية. والقرارات التي اتخذها الكونغرس، خصوصاً "قانون تحرير العراق"، انحازت إلى طرف من دون آخر، في محاولة لفرض جهة من دون أخرى. والإدارة، على رغم توقيعها على القانون في اواخر عام 1998، لم تكن مقتنعة به أصلاً، وبالتالي لم تتعامل معه إلا شكلياً. واليوم، ونحن على أبواب انتخابات الرئاسة الأميركية، تجري محاولة لإثارة القضية العراقية، ولكن هل في الإمكان أن يصبح الشأن العراقي قضية انتخابية أميركية؟ الجواب، ربما. خصوصاً إذا أقدم صدام حسين على ارتكاب "الخطأ" الذي تنتظره واشنطن. ولكن الاحتمال الأرجح هو عدم رغبة الطرفين في التورط في التزامات بشأن مستقبل العراق بأكثر من السياسات المعلنة سابقاً، أي الاحتواء واستمرار العقوبات المفروضة على العراق والمساعدة على إطاحة نظام صدام بالتعاون مع المعارضة العراقية من دون استعداد للتورط العسكري. أما على الصعيد الانتخابي، فقد عمل معسكر آل غور على تحييد الشأن العراقي من خلال تبني واجهة "المؤتمر الوطني" والتقاء قادته، مؤكداً أن المشاكل التي يواجهها الشعب العراقي هي نتيجة فشل بوش الاب في حسم المشكلة في وقت كانت الفرصة متاحة. كما ليس من مصلحة بوش الابن، ويبدو أنه الآن أوفر حظاً في الفوز، تذكير الناخبين بفشل والده في اسقاط صدام حسين. فعلى رغم تصريح بوب زيليك، مستشاره السياسي، قبل شهور، بأن بوش سيدلي بتصوره في هذا الشأن، امتنع الأخير عن ذلك. ولكن احتمال إثارة الأمر يبقى وارداً من خلال المقابلة التلفزيونية بين المرشحين، عندها يستطيع رجال الصحافة طرح السؤال. وإذا كان المزاج السياسي الأميركي معادياً لصدام حسين، إلا أنه ليس مستعداً لقبول التدخل العسكري المباشر، بل ان هناك قطاعات أميركية أصبحت أكثر ميلاً الى المطالبة بمراجعة سياسة العقوبات المفروضة على العراق. كما انعكس في مذكرة وقعها أكثر من 70 عضواً في الكونغرس. السؤال الذي سيواجه الزعامة الأميركية الجديدة: ما هي الخيارات المتاحة أمام الإدارة الجديدة في ضوء المعطيات السابقة؟ * الخيار الأول: استمرار ذات النهج القائم على الاحتواء والردع بالقوة، والعقوبات مع رفض التعامل أو تأهيل نظام صدام حسين، وذلك للاعتبارات الآتية: - أي تراجع أو تساهل مع صدام حسين يعني انتصاراً له، وبالتالي اضعافاً لهيبة الولاياتالمتحدة. - إعادة تأهيل صدام ستكون على حساب استقرار المنطقة، خصوصاً الخليج وإسرائيل. - ان مصالح الولاياتالمتحدة والدول الحليفة تم تأمينها عبر الوجود العسكري الأميركي المباشر في الخليج، وأي تجاوز عراقي للخطوط الحمر تهديد المصالح الأميركية، النفط، تهديد حلفاء أميركا في المنطقة، استخدام الأسلحة المحظورة، تهديد مناطق الحظر الجوي والمنطقة الكردية الآمنة، سترد عليه واشنطن بضربة عسكرية رادعة. - ليست هناك حاجة ماسة للنفط العراقي في ضوء الوفرة النفطية. - حرمان العراق من السيطرة على أمواله ضمان لعدم تطوير أسلحة الدمار الشامل وغيرها من أسلحة. - الثبات على ربط رفع الحصار عن العراق بتغيير النظام، يعطي رسالة واضحة للقوى العراقية للعمل من أجل التغيير. - ان قرار مجلس الأمن 1284، الخاص بربط تعليق العقوبات بعودة فريق التفتيش الدولي انموفيك للعراق يضع مسؤولية معاناة العراقيين على صدام حسين في رفض تطبيقه. * الخيار الثاني: مقايضة التعامل مع صدام، وليس التأهيل، على غرار الحالة الكورية، مقابل خطوات محددة يتخذها النظام العراقي: - الهم الأساسي لحاكم العراق هو الحفاظ على السلطة، وليس التأهيل. ومقابل عدم العمل على اسقاطه سيكون على استعداد للتعاون مع قرارات الأممالمتحدة، خصوصاً عودة مفتشي الأسلحة. - رفع العقوبات لا يعني استرجاع العراق عافيته، بل يبقى بحاجة إلى المساعدة الخارجية. - اعتماد سياسة التدرج في خطوات التعامل بما يعزز الثقة من دون التضحية بمصالح الأصدقاء. - تحديد خطوات الاصلاح الداخلي المطلوبة، كأن يعتمد نظام الحكم الذاتي للأكراد برعاية الأممالمتحدة. - ان المعارضة العراقية غير قادرة على تحقيق التغيير المطلوب من دون تدخل أميركي عسكري مباشر، وهذا أمر مرفوض دولياً واقليمياً. - تدفق رأس المال الغربي من أجل إعادة بناء العراق سيخلق حالة جديدة تساعد على خلق طبقة اجتماعية صحية قادرة على الاصلاح. - مساهمة العراق في التسوية السلمية بين إسرائيل والفلسطينيين، بما في ذلك استيعاب عدد من اللاجئين الفلسطينيين. - إعادة حال التوافق في مجلس الأمن، بما يعزز مكانة الأممالمتحدة. - استعادة التوازن الاستراتيجي في الخليج في مواجهة إيران. الخيار الثالث: أي نظام إلا صدام: - ليس في الإمكان تدهور الوضع العراقي أكثر مما هو عليه، وأي حاكم بديل سيكون أفضل من صدام، خصوصاً أنه سيحتاج إلى المعونة الخارجية للبقاء، وهذا أمر يمكن أن توفره واشنطن بالتعاون مع بعض الدول العربية وتركيا. - خلق تحالف دول الطوق من تركيا والكويت والسعودية والأردن. - تحسن العلاقات مع إيران يصب في ضمان التغيير المقبول اقليمياً. - العمل والتحضير لتوجيه ضربة عسكرية قوية كفيلة بإسقاط النظام أو على الأقل إضعافه وتراجعه وتنفيذ قرارات مجلس الأمن. - وهذا الخيار يعتمد بالدرجة الأولى على ارتكاب صدام حسين "خطأ" يبرر هذا الاجراء. - اسقاط النظام العراقي يفتح المجال واسعاً لاستقرار المنطقة ضمن نظام اقليمي جديد. - عمل سري استخباراتي لدعم مساعٍ داخلية لإطاحة النظام العراقي. - العمل على تعبئة المعارضة العراقية في إطار سياسي وعسكري ينطلق من الشمال والجنوب في آن واحد تزامناً مع الضربة العسكرية. قد لا تكون هذه الخيارات دقيقة بالكامل، وربما يتداخل بعضها بعضاً، ولكل من هذه الخيارات محاذير وحسنات، ولكن من الواضح ان المراجعة الأميركية ستكون مطلوبة ومتوقعة بانتخاب رئيس جديد في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. ويبقى السؤال الأخير: ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه فصائل المعارضة في بلورة الموقف الأميركي، وبأي اتجاه سيكون؟ إن الخطاب الإعلامي والسياسي لمعظم فصائل المعارضة لا يزال أسير انتكاسة انتفاضة 1991، والاقتتال الكردي - الكردي وفشل تجربة "المؤتمر الوطني". وقد يكون من الصعب تحقيق وحدة المعارضة في إطار سياسي جبهوي شامل، ولكن من الممكن المبادرة في مراجعة تبدأ بتشخيص الوضع أولاً، ومن ثم دراسة الخيارات المتاحة، ومثل هذه المراجعة قد تبدأ بالبعض لتتسع للآخرين بعيداً عن التهويل أو التهميش لأي طرف. ان تاريخ العراق مليء بالمعارضات الفاشلة، وعسى ان لا نضيف نموذجاً آخر للفشل. * كاتب سياسي عراقي