بعد الهجوم المذهل الذي تعرض له البنتاغون ومقر التجارة العالمية، اعلن الرئيس جورج بوش الحرب على "الإرهاب" في كل مكان، ووضع أسس الاصطفاف الدولي الجديد حين قال: "من ليس معنا ضد الارهاب فهو في معسكر الارهابيين"، ولم يوضح الفواصل بين الارهاب الذي ينبغي محاربته - لأنه يبغي تحقيق أهداف سياسية وعقائدية بالقوة ولا يكترث لقتل الأبرياء - وبين حق الشعوب في النضال لرفع الظلم والاضطهاد الواقع على كاهلها، الذي تمنحه لها كل الشرائع السماوية والأرضية وميثاق هيئة الاممالمتحدة والقانون الدولي. منذ اللحظة الأولى لإعلانه الحرب، واجه بوش "القائد الأعلى للتحالف الدولي ضد الارهاب" معضلة النزاعات الاقليمية ودورها في بعث الارهاب وتوسيع رقعة أعماله. وأدرك هو وأركانه في المعسكر الدولي، متأخرين ان النزاع العربي الفلسطيني - الاسرائيلي، ببعده الديني، كان ولا يزال أحد العوامل المساعدة على انبعاث الارهاب الاسلامي والقومي من منطقة الشرق الأوسط وفيها، وان الهروب من معالجة هذا النزاع في ملعبه وفي اطار الاممالمتحدة ينقله الى اكثر من بقعة من بقاع الأرض، وضمنها الأراضي الاميركية والأوروبية. فهل ستعمل الادارة الاميركية على حل هذا النزاع التاريخي، أم ان شروعها بالحرب ضد الارهاب ومطاردته في المستنقع الافغاني سيشغلها عن حل المسألة الفلسطينية، جوهر النزاع العربي - الاسرائيلي؟ وهل لدى هذه الادارة في عهد بوش تصور متكامل لحل هذا النزاع المزمن؟ وهل بإمكانها إلزام اسرائيل في عهد شارون بقبول هذا التصور، ان وجد، والانصياع لقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالنزاع؟ أسئلة كثيرة يتداولها الفلسطينيون في الضفة وقطاع غزة، حول تفاعلات "الزلزال" الرهيب الذي ضرب الولاياتالمتحدة يوم 11 ايلول سبتمبر 2001، ويجمعون بمختلف اتجاهاتهم الفكرية على ان الهزة القوية التي أحدثها في أسس العلاقات الدولية ستطال منطقة الشرق الأوسط. ومعظم الفلسطينيين مقتنعون بأن ادانة قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية لهذا العمل الارهابي الذي راح ضحيته آلاف الابرياء كان موقفاً صحيحاً اتخذته في الوقت الصحيح، وعبرت بوضوح عن آلام الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، من الارهاب الاسرائيلي متنوع الصنوف والأشكال، الذي تعرض له على مدى النصف الثاني من القرن الماضي، والذي يمكن تسميته بحق قرن الإرهاب الصهيوني العالمي ضد الفلسطينيين. ويعتقد بعض الفلسطينيين ان هذا "الزلزال" وتحقيق النصر على الارهاب النابع من المنطقة العربية يفرضان على أركان "التحالف الدولي الجديد" مضاعفة الجهود لمعالجة النزاع العربي - الاسرائيلي. ويتوهم بعضهم بأنه سيفرض حلاً نهائياً وشاملاً على الطرفين يتضمن تجريد الارهابيين من مقومات الصمود خلف متاريس الاسلام، وإلزام شارون بالانسحاب من القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، لتمكين نحو مليوني حاج مسلم يؤدون فريضة الحج سنوياً من تحقيق حلمهم بزيارة المسجد الأقصى لتقديس حجهم. ويرى أنصار هذا الرأي ان المصالح الوطنية العليا تفرض على كل القوى الوطنية والاسلامية تسهيل مهمة أركان التحالف الدولي بحل النزاع لأن الحل المطروح في مصلحة الشعب الفلسطيني. والى جانب هذا الرأي، هناك تيار أقوى يشكك أصحابه بالجهود الدولية الجديدة، وضمنها جولات توني بلير والمبعوثين الأوروبيين والروس في المنطقة، ويستبعدون إمكان ان تسفر عن نتائج سياسية نوعية ملموسة. ويعتقد هذا التيار أن ادارة بوش لا تملك تصوراً متكاملاً لحل النزاع العربي - الاسرائيلي، وان حديث أركانها ومعهم أقطاب الحكومة البريطانية عن حق الفلسطينيين في دولة هو ذر للرماد في عيون العرب والفلسطينيين، ولا يتضمن جديداً، خصوصاً انه يربط قيام الدولة باستئناف المفاوضات فيما يمنح شارون حق تقرير مواصفاتها الجيوسياسية. ويلفت هذا التيار الى انه اذا كان الرئيس بوش وأركانه في التحالف الدولي الجديد لم ينجحوا في إلزام الحكومة الاسرائيلية بزعامة شارون باستئناف المفاوضات على المسار السوري، على قاعدة التفاهمات التي توصل اليها الطرفان في عهدي الرئيس كلينتون والرئيس الراحل حافظ الأسد، فمنطق الأمور يقول انهم لن ينجحوا في اقناع شارون وأركان اليمين الاسرائيلي في استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين من حيث توقفت في عهد باراك في قمة كامب ديفيد ومحادثات طابا. ومن لم ينجح في معالجة المسائل السهلة على الجبهة السورية الباردة، لا يتوقع ان ينجح في حل المسائل المعقدة على جبهة مشتعلة. ومن فشل في إلزام شارون باحترام الاتفاقات التي وقعتها الحكومات الاسرائيلية السابقة مع الفلسطينيين، وعجز عن اجباره على وقف حرب الاغتيالات وسحب قواته من أحياء المدن والمناطق الأخرى المصنفة "أ"، التي احتلتها بعد زلزال 11 ايلول، وفك الحصار الخانق المضروب حول الفلسطينيين منذ شهور، غير جاد في حديثه عن حل شامل للنزاع السوري اللبناني - الاسرائيلي يقوم على اجبار اسرائيل على النزول من هضبة الجولان السورية واعادتها الى أهلها. لذا، يمكن اعتبار الحديث عن قيام دولة فلسطينية مستقلة في عهد شارون نكتة اميركية - بريطانية "بايخة"، قيلت في مجالس العزاء بالشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا نتيجة صمت الحكومتين الاميركية والبريطانية، وتخاذل دول الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة على جرائم شارون - بيريز، وتفكك النظام الرسمي العربي وعجزه عن اتخاذ موقف موحد حازم من الممارسات الاسرائيلية المتواصلة منذ أكثر من عام. وتخطئ ادارة بوش وحكومة بلير ان اعتقدتا ان الأوضاع بالغة القسوة التي يعيشها الفلسطينيون والخسائر البشرية الغالية والخسائر الاقتصادية الكبيرة التي لحقت بهم كفيلة بإجبار عرفات والسلطة وقيادة منظمة التحرير على قبول دولة فلسطينية يتم فبركتها وفق شروط شارون ومقاييسه. ولعل من المفيد تذكير الجميع بأن عرفات والقيادة الفلسطينية رفضوا "أفكار الرئيس كلينتون" التي تضمنت دولة فلسطينية عاصمتها القدس على اكثر من 96 في المئة من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وخالية من المستوطنين ومعظم المستوطنات، ولها سيادة كاملة على معابرها وحدودها الدولية... الخ. والفلسطينيون، الذين يكتوون يومياً بنار الاحتلال أمام سمع العالم وبصره، مقتنعون تماماً بأن لا أفق لتسوية نزاعهم مع الاسرائيليين طالما بقي اليمين الاسرائيلي بزعامة شارون يتربع فوق قمة الهرم السياسي الاسرائيلي، ويعتقدون ان بإمكان الادارة الاميركية، وحدها ومن دون حلفاء، تخفيف معاناتهم في عهد شارون، اذا أرادت. فبإمكانها ببساطة اجبار حكومته على سحب قواتها في غضون ساعات من كل المناطق التي احتلتها أخيراً، تماماً كما اجبرتها على الانسحاب من بيت حانون قبل بضعة اسابيع ومن بيت لحم وبيت جالا ومخيم العزة قبل أيام. فالولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تملك أوراقاً كثيرة لم تستخدمها في الضغط على شارون وحكومته، وفي التأثير في الرأي العام الاسرائيلي. ان مقياس الحكم على جدية الموقف الاميركي - الأوروبي ليس الحديث عن دولة فلسطينية، بل موقف يتضمن موافقة على ارسال مراقبين دوليين، أو اميركيين وأوروبيين الى الأراضي الفلسطينية لحماية الفلسطينيين من بطش شارون ووقف المجازر اليومية التي تتفنن أذرع الأمن الاسرائيلية في ارتكابها. واذا كانت هذه الأطراف غير قادرة على الزام شارون بتنفيذ رغباتها بالانسحاب من مناطق "أ" بإمكانها ببساطة رفع الغطاء عن اسرائيل في الاممالمتحدة وعدم استخدام حق النقض "الفيتو" في وجه العرب والمسلمين. وبإمكانها ايضاً تشجيع بيريز وحزب العمل على الانسحاب من حكومة شارون ومحاصرتها في الشارع. ويتذكر الفلسطينيون جيداً الدور المهم الذي قام به بيريز واليسار الاسرائيلي عندما كانوا في المعارضة في عهد نتانياهو، ونجحوا من مواقعهم خارج الحكومة وبدورهم في الشارع الاسرائيلي بإلزام نتانياهو على الانسحاب من مدينة الخليل وتوقيع اتفاق "واي ريفر". وبغض النظر عن تفاؤل المتفائلين وتشاؤم المتشائمين بتفاعلات الهجوم "الارهابي" على اميركا يوم 11 أيلول، على الصراع العربي - الاسرائيلي، يسجل لمدبري ومنفذي هذا الهجوم أنهم نجحوا، الى حد بعيد، في دفع الوضع الدولي برمته نحو مرحلة جديدة تماماً. واذا كانت الملامح النهائية لهذه المرحلة ستتبلور تدريجياً في سياق الحرب ضد الارهاب، فهي تشبه الى حد كبير مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين انقسم العالم الى معسكرين اشتراكي ورأسمالي، خاضا على مدى نصف قرن حرباً باردة وحروباً اخرى كثيرة ساخنة صغيرة وكبيرة، حصدت أرواح ملايين البشر، ولم تبق بقعة في المعمورة لم تتأثر بتلك الحروب. ويمكن، سلفاً، لأي قاض نزيه ادانة الولاياتالمتحدة بتوفير الأرضية الخصبة لانبعاث الارهاب الشرق أوسطي وتزويده مقومات الحياة والقوة، فضلاً عن الصمت على الجريمة التي ارتكبتها اسرائيل بحق عملية السلام وإطالة أمد الصراع الجاري في المنطقة وتدهور أوضاعها، وسفك مزيد من الدماء الفلسطينية البريئة. خير للعرب والفلسطينيين توحيد مواقفهم وتحصين أوضاعهم في مواجهة العاصفة القوية المتجهة نحوهم، وعدم الركض وراء سراب حل النزاع العربي - الاسرائيلي في عهد شارون على يد التحالف الدولي الجديد. خير لهم ان يضعوا في حساباتهم التغيير النوعي الذي وقع في أولويات الولاياتالمتحدة وانشغالها بمعركة الدفاع عن النفس التي فرضت عليها. فالوقائع الجارية على أرض المنطقة تؤكد ان التباين الاميركي - البريطاني - الاسرائيلي غير قابل للتحول الى خلاف جوهري يمكن الفلسطينيين والعرب من بناء سياسة جديدة. * كاتب فلسطيني.