كان الرئيس بوش فاجأ العرب قبل بقية العالم عندما تحدث فجأة في الثاني من هذا الشهر عن ان فكرة دولة فلسطينية كانت دائماً "جزءاً من الرؤية"، وافترضنا جميعاً أنه يتحدث عن رؤية الولاياتالمتحدة بصفته رئيسها، وهو اشترط ان تعترف بحق إسرائيل في الوجود، وهذا اعتراف قائم ومكرر. غير ان تصرفات الإدارة الأميركية قبل هذا الإعلان المفاجئ وبعده مباشرة بدت وكأنها تسير عكس الرؤية والفكرة، وقد فصّل الصديق باسل عقل في هذه الزاوية سلبية التصرفات الأميركية والمواقف بشكل وافٍ لم يترك زيادة لمستزيد. الوضع بدأ يتحسن تدريجاً، وهو يذكرني بعبارة انكليزية عن "طابور النقر". فالحمام يقف جنباً الى جنب على شريط او حائط، وتنقر الأقوى حمامة الى جانبها، وتنقر هذه بدورها، وهكذا حتى ينتهي النقر عند آخر حمامة، وهي الأضعف التي لا تجد الى جانبها من تنقر. وكنت دائماً أرى الرئيس عرفات في آخر سلسلة "النقر" فهو الأضعف بين الدول العربية وإسرائيل والولاياتالمتحدة. إلا ان الإرهاب الذي ضرب الأميركيين في 11 من الشهر الماضي وأفاقهم من سباتهم ربما حسّن وضع ابو عمار، فإسرائيل اليوم في آخر الطابور، وبما انها لا تجد من تنقر، فأعضاء الحكومة ينقرون بعضهم بعضاً ويتناقرون مع الجيش. جورج بوش لم يكتف بالقول ان فلسطين "جزء من الرؤية"، وإنما أتبع ذلك بالقول "يجب اقامة دولة فلسطينية والشرط ان تعترف بحق اسرائيل في الوجود، وتعيش بسلام داخل حدودها". ثم جاء رئيس وزراء بريطانيا توني بلير، وزاد ان الدولة الفلسطينية هذه يجب ان تكون "قادرة على البقاء"، أي دولة حقيقية. في مقابل موقف اميركا وبريطانيا الذي تؤيده اوروبا، وربما كرره الرئيسان جورج بوش وألكسندر بوتين في مؤتمر للدول الآسيوية الأسبوع المقبل هناك موقف رئيس وزراء اسرائيل آرييل شارون الذي قال انه "مستعد لقبول دولة فلسطينية ضمن اطار اتفاق شرط ألا تهدد أمن إسرائيل، وتكون دولة مجردة من السلاح تسيطر على حدودها كجزء من الاتفاق". العرب والفلسطينيون يرفضون كلام شارون هذا بالمطلق، وهو على رغم سفالته ربما كان غير مقتنع به، إلا انه يشعر بأن العالم ضد اسرائيل منذ 11 ايلول سبتمبر، وقد اعترف بأنه طلب من الولاياتالمتحدة معارضة انضمام سورية الى مجلس الأمن فلم تفعل، وطلب منها إدراج حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي في قائمة المنظمات الإرهابية فرفضت. وهو وصل الى قناعة بأن الإدارة الأميركية موحدة في حملتها ضد الإرهاب، وتحتاج الى الدول العربية والإسلامية، وأن الشعب الأميركي موحد وراء إدارته. ومع اكتشاف الإسرائيليين انهم في آخر "طابور النقر"، فقد أخذوا ينقرون احدهم الآخر، ويتناقرون. فبدأ التراشق بشارون وهو يتهم وزير خارجيته شمعون بيريز بأنه اعطى ابو عمار شرعية اوصلته الى 10 داوننغ ستريت، وستوصله الى البيت الأبيض. وفيما كان بيريز يرد مفنداً كلام شارون اندلع خلاف اخطر كثيراً بين شارون ووزير الدفاع بنيامين بن أليعيزر من جهة، ورئيس الأركان شاؤول موفاز من جهة اخرى. واكتشف شارون ان موفاز أصدر بياناً يعارض الانسحاب من ضواحي الخليل ويقول ان من شأن ذلك ان يعرض أمن الجيش الإسرائيلي والمواطنين، يقصد المستوطنين، الى الخطر. وقال شارون ان موفاز يستعد للعمل السياسي، وهدده بالطرد اذا عاد الى مثل هذا الكلام. أما بن أليعيزر فمنع قادة الجيش من الإدلاء بتصريحات صحافية حتى إشعار آخر. كان أغرب ما في أمر النزاع الإسرائيلي الداخلي ان شارون هاجم بيريز قبل ان ينشغل بموفاز، فإذا باثنين من وزرائه يستقيلان لأنه في صف بيريز. وقال افيغدور ليبرمان ورحبعام زئيفي انهما اضطرا الى الاستقالة احتجاجاً على الانسحاب من تلال الخليل، ما جعل شارون يقتنع بأن ثمة مؤامرة عليه يدبرها بنيامين نتانياهو، وهو على الأرجح مصيب لأن رئيس الوزراء السابق قريب من الثلاثة، موفاز وزئيفي وليبرمان. وكان أقصى اليمين الإسرائيلي أسقط حكومة اسحق شامير، كما أسقط حكومة نتانياهو. ولعل المواجهة الحالية لا تنتهي إلا بانهيار الحكومة، مع الملاحظة ان شارون بات يرأس ائتلافاً يؤيده 76 عضواً في الكنيست، بعد انسحاب الوزيرين، ما يعني ان حزب شاس الذي يحتل 17 مقعداً اصبح يقرر مصير الحكومة لأن انسحابه سيترك حكومة شارون ومعها 59 نائباً من اصل 120 في الكنيست. ويبدو ان شارون في وضع يكاد يكون مستحيلاً، فهو إذا "تشدد" يخسر في الخارج، وإذا "اعتدل" يخسر في الداخل. وأنصار إسرائيل في الخارج يدركون خطر الوضع، فأنا لا أجد في الحملة الهائلة على المملكة العربية السعودية اليوم، والحملة التي سبقتها على مصر والرئيس مبارك شخصياً، سوى إدراك أنصار إسرائيل ان الصعوبات الحالية التي تواجهها سببها اصرار مصر والسعودية والأردن على ربط تعاونها مع التحالف الدولي ضد الإرهاب بتقديم الولاياتالمتحدة شيئاً ايجابياً للفلسطينيين. وقد لعب القادة العرب وأبو عمار أوراقهم بذكاء، ولكن الأمور بخواتمها فننتظر لنرى.