سيكون حتماً من النتائج المباشرة لما ارتكبه بن لادن في نيويورك وواشنطن نهاية "الحلم الأميركي"، لكن ليس الذي ابتغى زعيم "القاعدة" وأترابه تدميره، بل حلم ملايين البشر خصوصاً من العرب والمسلمين الذين توجهوا الى تلك البلاد طلباً لرزق عسير في بلدانهم او لحريات وكرامة دونها ديكتاتوريات صعبة المراس. فصاروا، بسبب بن لادن وأوهامه، مشبوهين وعرضة للتحقيق والتمييز تبعاً للعرق أو الدين، وما عادوا يستحقون الاجراءات القضائية الأميركية العادلة التي رعت حقوق المقيمين في الولاياتالمتحدة وكرامتهم. فأحداث 11 سبتمبر وما لحقها أوجدت المبررات الكافية لقرار انشاء محاكم عسكرية يحاكم فيها الأجانب المتهمون بممارسة الارهاب او يحال إليها المقيمون للاشتباه بتعاطفهم مع المرتكبين. وهذا القرار الخطير، بالمعايير الأميركية، يستجيب رغبة دفينة لدى الرئيس الأميركي المحافظ والميّال الى الانعزال، في تشديد الرقابة على الأجانب وترحيل غير المرغوب فيهم. فكيف اذا امتزجت هذه المشاعر مع النزعات العنصرية لوزير العدل جون اشكروفت الذي لا يخفي هوسه في تقديم الأمن على القانون، وعلى الحريات المدنية. وهي النزعة التي جعلت عدد الذين حُقق معهم حتى الآن يبلغ 1200 شخص، ووضعت خمسة آلاف شرق أوسطي على قائمة التحقيق، ودفعت سياسيين أميركيين الى استفظاع هذه الاجراءات ووصفها ب"الستالينية" واعتبار ان اميركا بدأت تعيش "عصر اشكروفت" الذي يذكّر بالمكارثية. قد يستغرب عرب كثيرون يعيشون في ظل احكام عرفية معلنة او غير معلنة وفي ظل محاكم عسكرية جاهزة سلفاً السجال الدائر حالياً في الولاياتالمتحدة بين مؤيدي المحاكمات العسكرية ومعارضيهم. لكن لن يكون مستغرباً ان تفشل هذه المحاكمات في القضاء على الارهاب، وفي دحض الحجج التي تجعل مشاعر العداء للولايات المتحدة تبرر لدى كثيرين في العالمين العربي والاسلامي فعلة جماعة "القاعدة" وارتكاباتها. ولا يبدو ان الولاياتالمتحدة تستفيد من تجربتها التاريخية في هذا الاطار. فهي مرّت بتجربة تجاوز القوانين في زمن الحرب، لكن أولوية الحلول السياسية كانت دائماً حاضرة، وكان التشديد على تفنيد حجج الخاسرين في الحرب ومقارعتها أمراً أساسياً. وهكذا حصل في محاكمات نورمبرغ واليابان. وهي تنسى ان انشاء المحكمة الدولية التي تحاكم حالياً المسؤولين عن جرائم يوغوسلافيا ورواندا لم يكن إلا دليلاً الى الحاجة لعدالة دولية علنية تتجاوز المنتصرين، ولمفهوم شامل للحق يتجاوز رغبة دولة ما في تطبيق عدالتها الخاصة. وإذا كان المشكو منه دائماً في العالم العربي هو تفرد الولاياتالمتحدة في إصرارها على الدعم اللامحدود لإسرائيل، فإن ما سيصير عرضة لشكوى اكبر وأخطر، هو التفرد الأميركي في عدالة انتقامية خاصة في وقت يمكن محاكمة الجرائم المطروحة على بساط البحث في محكمة العدل الدولية في لاهاي وفي اطار من العلنية يفضح اهداف الارهابيين، ويجعل من المحاكمة مناسبة لإثارة نقاش موسع ينشر الوعي بأهمية التعايش بين الأديان والحضارات ويسلّط الضوء على الكوارث التي يسبّبها الارهاب. يفهم العالم العربي الجرح الذي اصاب الولاياتالمتحدة. وقد يفهم كذلك قول ديك تشيني "ان مرتكبي الاعتداءات لا يستحقون التمتع بالاجراءات القانونية التقليدية". لكنه لا يستسيغ ان يكون الخصم هو الحكم وأن تقام محاكمة اميركية بحتة لجريمة دولية في غياب تعريف موحّد للارهاب. ولن يكون مفيداً اجراء محاكمات سرية لاعتداءات ارهابية مدوية، لسبب بسيط، وهو ان محاكمات كهذه ستحوّل المعتدين مظلومين طالما لم تعلن الأدلة ضدهم، وستجعل منهم بالتأكيد "شهداء" وأبطالاً بدل أن يبقوا في عداد المجرمين الموصوفين. وهذا آخر ما يتمناه اي عاقل. اما غير العاقل، فتمنياته كثيرة، ومنها كان تدمير "الحلم الأميركي".