ظلت الحركة التشكيلية العراقية المعاصرة بحضورها الإبداعي اللافت، احدى أبرز علامات الانجاز الثقافي العراقي في القرن الماضي، ومن هنا كان تأليف كتاب عن هذه الحركة يبحث في جوهر التجديد الفني الذي اقترحته ومن ثم تأصيل ذلك التجديد إضفاء ملامح عراقية محلية عليه، لا يقل أهمية عن التجربة التشكيلية العراقية ذاتها. وإذا كان كتاب "التشكيل العراقي - التأسيس والتنوع" الصادر حديثاً في بغداد يحاول قراءة التجربة فيكتسب بذلك أهمية ما، فأنه يعمق تلك الأهمية لجهة المكانة التي يشغلها مؤلفه، وهو الفنان التشكيلي والناقد والقاص عادل كامل الذي كانت مدوناته عن التشكيل العراقي تنظيراً أو نقداً تطبيقياً، ومن المؤشرات اللافتة في ثقافة التشكيل المعاصر وتعميق ذائقة المتلقي الذي كانت المعارض والغاليرهات مادة تدخل في زاده الثقافي. ويبدو ان قرابة المؤلف الى النقد، دفعته الى أن يضع النقد التشكيلي في أول فصول كتابه، فيرى في فصل "النقد كرؤية أسلوبية" ان لا تحديدات نقدية تخص الأساليب التشكيلية كالتي استطاع النقد تثبيتها في اشتغاله على الأدب والفكر وفنون أخرى، مؤكداً ان نقد اللوحة والعمل التشكيلي ظل معنياً بالشكل المنجز من الخارج ولم يستطع كما حصل في نقد الشعر مثلاً أن يدخل في صميم البنية التشكيلية. قصور النقد لا يراه عادل كامل في حدود التجربة التشكيلية العراقية بل يؤكد انه يكاد يسم حال النقد التشكيلي في الوطن العربي بعامة. ويوزع عادل كامل مسؤولية "الذعر من النقد" بين متلق خامل وفنان يضيق بالحوار ومؤسسة باتت تذهب الى تأطير العمل الفني ضمن اطار السلعة، من دون أن ينسى تأكيد ابتعاد النقد عن المعرفة وتحوله الى معلّق على حدث تشكيلي وغير قادر على احداث نقلة في الأساليب أو في تذوقها لدى المتلقي، لكنه وان كان يقرّ بانفصال النقد عن دوره التحليلي يتحدث بإسهاب عن اكساب النقد للاتجاهات الفنية والأسلوبية رسوخها الإبداعي.... وحين تبدو قضية التحديث الأبرز حضوراً في التجربة التشكيلية العراقية فإنها في الوقت ذاته تثير تساؤلات وسجالات لا تنتهي عن قضية "الهوية الفنية" و"الملامح الوطنية" في الرسم أو النحت وحتى الخزف لما للأخير من موروث رافديني؟ ضخم. والقضية هذه يوليها عادل كامل فصلاً ثانياً في كتابه وضعه تحت عنوان "الهوية الفنية - اشكالية التنوع"، مشيراً الى ان "طبيعة التطور ومتغيرات العصر" هي ما أحدثت بلبلة بين شعوب أو أنظمة حياة تجهد في الحفاظ على طابعها الوطني، ومن هنا كان طبيعياً وجود أكثر من مقترب لقراءة التحديث في الأساليب الفنية التشكيلية، مع أن المؤلف مال نحو فكرة تقول ان التراكم الحضاري ودور المنعطفات التاريخية الحاسمة في حياة مجتمعات معينة كفيلان بحسم تأكيد الملامح الوطنية والمحلية وتضمينها ابداعياً في العملية الفنية.... وليس بعيداً عن جدل التحديث/ الملامح الوطنية الثقافية جاء الفصل الثالث ليناقش الموروث الفكري والفني وكيف تعاطى التشكيل العراقي معه. وهنا بدا عادل كامل صريحاً في تأكيد "طليعية" الفنان العراقي الذي لم ينظر الى الموروث بطريقة الاحترام حد التقديس، وانما النظر الى الموروث كخزين بصري ينشط المقترحات الجديدة، وأحياناً يتصاعد هذا الانفصال عن الموروث ليصبح قطيعة ترجمتها سيادة التجريد في التشكيل العراقي المعاصر. وفي هذا الصدد درس عادل كامل ما اتصل بالحداثة من أشكال وأساليب متوقفاً عند بصمات عراقية في التجريد والسوريالية والتعبيرية، مضمناً دراسته هذه في فصل هو الرابع في كتابه بعنوان "المشكلة الجمالية في العمل الفني". ولئن كان التجريد النتاج الأبرز وضوحاً للتحديث في التشكيل العراقي، فالمؤلف أولى هذا الموضوع عناية فائقة يستحقها بحث جاد كالذي أراده في موضوعة حميمة وقريبة اليه، ولافتة لجهة تأثيرها في الثقافة العراقية ككل، وهي موضوعة التشكيل العراقي المعاصر، فهو وان أثنى على سعي تحديثي للفنان العراقي، لكنه لاحظ ميلاً الى جعل "التجريد" قالباً جاهزاً وليس اندراجاً في رؤية تجريدية لا تتوقف عند ثوابت محددة. وإذ يصبح الرسم أكثر الأشكال التعبيرية التشكيلية قرباً الى الحداثة فأن الخزف في التشكيل العراقي أقربها الى الموروث الرافديني على وجه التحديد، ومع هذا اجتهد الفنان والناقد عادل كامل في متابعة أشكال التحديث وأساليبه التي أدخلها خزّافون عراقيون، دارساً تجارب نقلت الواقع وعبرت عنه في أعمال الخزف مثلما اتصلت عبره بالموروث الخزفي الذي عرفه العراق منذ مراحل حضارته الأولى. النحت في العراق كأحد عناصر التجربة التشكيلية توطدت مكانته مع اتساع حركة العمران المعاصر في المدينةالعراقية وهذا ما لاحظه المؤلف في الفصل السابع من كتابه، ورأى في "أساسيات النحت المعاصر في العراق" ان أبرز الانجازات التي حققها نحّاتون عراقيون، كانت فردية وهو ما دفع للتنوع في الأساليب وتفردها، مؤكداً على ان ارتباط النحت العراقيبالمدينة المعاصرة بغداد بخاصة واشغال الأعمال النحتية مساحات لافتة في فضاء المدينة العربية، منح النحت العراقي خصوصية لم تعرفها تجارب النحت في دول عربية أخرى. وإذ يبدو كلام المؤلف على "التقنية" بحاجة الى تدقيق لا سيما وانه مبني على افتراضات يراها وكأنها بديهيات مثل كلامه على "تقنيات الهواة"، "تقنيات المتلقي"، "تقنيات التجربة" و"تقنيات الرؤية" فأن عادل كامل كان دقيقاً في تأكيده على ان "التقنية من السمات الأساسية للعمل الفني وخصوصيته". وفي الفصل التاسع من كتابه الذي يأتي مضيئاً لغير جانب من التجربة التشكيلية العراقية التي ما زالت تقدم معطياتها خارج نمطية تزحف عليها من كل جانب، وخارج عوامل احباط ليس أقلها محاولة تجيير الرسم والنحت في العراق لمصلحة اعلاء شأن "القائد" ووضع "الهالة الملائكية" على ملامحه المفزعة اضافة الى الطلب من الفنانين وضع الأعمال التي تخلد مآثره في "أم المعارك" و"القادسية" الحرب مع ايران. عمّان - علي عبدالأمي