رسمت التيارات التشكيلية منذ بداية القرن خارطة جمالية، تعكس تطور تاريخ الفن العربي، ولا بدّ من استعادتها بأكبر قدر من التبسيط بغية رسم خريطة تمثل أبرز المحطات والتجارب التشكيلية خلال قرن عربي، وإذا كان الفنانون اللاحقون يحتلون مواقع السابقين بحكم تعاقب الأجيال، فإن التيارات التي خلفوها استمرت في اللقاح والتنازع. واننا نعثر حتى اليوم على الواقعية الرومانسية التي ابتدأ بها تاريخ اللوحة والمحفورة والمنحوتة في العالم العربي. 1 - التأسيس النهضوي يمثّل تأسيس معهد فنون القاهرة 1908 منعطفاً مهماً، باعتباره أول مؤسسة تعليمية للفنون في الوطن العربي. وقد تخرج منه رواد النهضة: عياد وكامل، ناجي ومختار وسواهم، ثم افتتحت معاهد الفنون كما يلي: 1937 بيروت، 1939 بغداد، 1959 دمشق، 1963 تونس، وتأسس البعض أثناء الاستعمار مثل وهران وتطوان 1945. والمعاهد أنشأها الرواد الذين درسوا سواء في معهد القاهرة المذكور أو في معاهد روما أو باريس، مدريد أو لندن أو برلين، وقد استقطبت بسبب وجودها في العواصم العربية الحركات الفنّية في كل قطر، ما خلا الإسكندريّة وتطوان واربد، وقد أدّى اجتياح "فن الحامل" الغربي الى تراجع الصناعات الفنية التقليدية، سواءً النخبوية منها كالإيقونة والمنمنمة، والمثبت، واللوحة الخطّية، وخيال الظل، أم النفعية، ولا نعرف عن أصحاب هذه المهن إلا القليل مثل المشخّصاتي المصري ابن دانييل والسوري أبو صبحي التيناوي. تحفل بداية القرن بأسماء الهواة الذين كانوا ينقلون عن اللوحة الرومانسية الغربية، خصوصاً الإستشراقية منها، لذلك فإن التأسيس الحقيقي ابتدأ مع وصول النزعة "الإنطباعية"، وبعد أكثر من نصف قرن على نشوئها في فرنسا، ثم استعادة مساجلاتها مع الأصولية الكلاسيكية. ارتبطت الانطباعية العربية بالخصائص الضوئية الجغرافيا المحلية، كما هي حال الرائد يوسف كامل، فقد انهلت صباغاته من مادة الريف المصري واستمرت تعاليمه من خلال تلميذيه السوريين الجعفري وشورى" وهما سيؤسّسان عند عودتهما مع حماد كلية فنون دمشق، وتقتنص مناظرهما خصائص الشمس في غوطة الشام. لقد كان هذا الاتجاه معارضاً للمناظر الوصفيّة التي كان ينجزها معاصروها: جلال، قصيباتي ومؤذن. أما في لبنان فقد التصقت "الإنطباعية" منذ بواكيرها بسمات المحترف، وهي التي تتميّز حتى اليوم بالمقامات المتوسطية، والمستلهمة من لازورد البحر وصقيع الجبل وفردوس الأرز، ابتدأت مخالفتها لكلاسيكية قرم وجبران ابتداء من روادها: سرور والجميل والأنسي، ثم أبرزهم الدويهي، ويعكس تطوره تسلسل تيارات النهضة والمعاصرة اللبنانية: والتحول من المشهد العيني الى الإنطباعي ومن التعبيري اللوني الى الهندسي الروحي، منتقلاً من التضاريس اللبنانية الى الخطوط السريانيّة عبوراً بالزجاج المعشّق، وقد ارتبط محترف الأردن في الثلاثينات بعمر الأنسي قبل أن ترسخ تقاليده فخر النسا زيد. تبدو "الإنطباعية" في العراق أقل تأثيراً فقد التأم جمعها على يد حافظ الدروبي عام 1952، أي بعد عام من تأسيس "جماعة بغداد للفن الحديث" وعلى رأسها جواد سليم. يسجّل المحترف المغربي تعارضاً آخر ما بين الرومانسية الوصفية لأمثال الجلاوي وبن يوسف، والمناظر الإنطباعية الاستشراقية من جهة، والفنون الشعبية من جهة أخرى. وكذلك الأمر في تونس فقد ابتدأت موجة الفنون الشعبية منذ الثلاثينات بفضل علي بن سالم القرجي ثم الزبير والهادي التركي. ولعل من الجدير بالملاحظة أن الإنطباعية في بلاد المغرب العربي كان يمارسها الأوروبيون المهاجرون خصوصاً في الجزائر لذا مثلت التشخيصية الشعبية نوعاً من المقاومة الثقافية، واعتبرت "باية" رمزاً للثورة الجزائرية. لعل هذا ما يفسر دور الرائد محمود راسم في بعث تقاليد المنمنمات الإسلامية. 2 - روّاد المعاصرة - لمنازعة بين التعبيرية والتجريد: يشهد النصف الثاني من القرن الاستقلال النسبي لملامح اللوحة العربية وذلك لاتصال حساسيتها بخزان التراكم الثقافي، وارتباط مفهوم المعاصرة بالمعاش، وتحول العمل التشكيلي الى شهادة مرحلية. نتحول مثلاً مع تعبيرية حامد ندا من الخصائص الجغرافية الإنطباعية الى حرائق الشمس الفرعونيّة وإشاراتها السحرية المعصرنة، وسيعيد آدم حنين تصفية او اختزال موروث محمود مختار والنحت المصري حتى حدود الهندسة، أما محمود سعيد فستؤكّد صوره الحميمة "مصرية" العالم الموشّحة بأغلفة الحلم والأسطورة. خرجت رمزية عبدالهادي الجزار من الوشاح نفسه، وحمل نذير نبعه هذا الوشاح الى التعبيرية السورية، وحمله الحلاج الى الفلسطينية، وقد يكون بلغ أقاصي الخليج مع المحرقي البحرين وقطّان الكويت، ويمثل عارف الريس في لبنان نظيره السردي. تتعايش في مصر نوازع التجريد مع التعبيرية حتى أن آدم حنين يمارس الإثنين معاً، ونعثر في المعارض نفسها على ذخائر كل من محمود سعيد ومنير كنعان جنباً الى جنب. لعل هذا ما يفسر تداخل "الإنشائية" الهندسية مع التعبيرية في ثمانينات "جماعة المحور": نوار، رزاز، فرغلي، نشار. ولكن هذه العلاقة كانت صدامية في المحترف السوري، وذلك ابتداء من انسحاب الجعفري من كلية الفنون، تاركاً إياها لمؤسّسي التجريد: جماد وشورى وزيات، ذلك أن انطباعيته كانت بداية للتعبيرية، وذلك لسبب سلوك فرشاته وعجائنه العصبية، ولكن سرعان ما تخلى زيات عن التجريد مسترجعاً تعبيريته الإيقونية، ومتحالفاً مع "جماعة العشرة" في أعقاب هزيمة حزيران، وهي الجماعة التي أسست للتعبيرية الاجتماعية والملتزمة: نبعه، الزعبي، سباعي، عرابي، إسماعيل، علواني، أخرس، وبقي فاتح المدرس خارج المجموعة بسبب وجوده في باريس. ولعل من المثير مقارنتها بجماعة "الرؤية الجديدة" التي تشكلت في بغداد على أعقاب الكبوة الثانية 1973. لقد اجمع الطرفان على رفض الهزيمة، والخروج من القمقم الحضاري، على رأس هؤلاء عزاوي وناصري، وطالب ومهر الدين والترك. وقد بدت تجارب التعبيرية العراقية أشد سطوعاً مشرقياً من توأمتها السورية وذلك بسبب الارتباط بالسيراميك الرافدي والعباسي. علينا أن ننتظر تعبيرية الجيل التالي في سورية حتى ترجع الحساسية اللونية الى حرائق الشمس المشرقية. لم يقد هذا التعارض في لبنان الى أية مماحكة، يحتل أمين الباشا موقعاً متوسطاً بين تعبيرية غيراغوسيان أو ماضي، وتجريدية عبود أو أشقر، ويمثل شاكر حسن مع "جماعة البعد الواحد" الدور المتوسط في العراق بين التعبيرية والتجريد وكما هو في الأردن وفلسطين حيث نعثر على التقابل المسالم بين نعواش وتجريدات شومان، وبين تعبيرية ما بعد الحلاج أي بركات وسليمان وتجريدات شحادة وأفنان. أما في المغرب فلا نعثر على نظير للتعبيرية المشرقية، وذلك بسبب غياب هذه الأطروحة، فقد أخذ التنازع صيغة مغايرة تقع بين التشخيص الشعبي المتصل باللاوعي الجمعي، والتجريد المثقف الذي يدعي القدرة على المشاركة في المعاصرة الغربية. تجسّد حركة "الدار البيضاء" في الستينات هذه الصبوة بأقطابها: المليحي وشبعا وبلكاهيه وسواهم. وقد تبين مع الأيام خطأ مواجهة التصوير الشعبي لأنه يقود عملياً الى إخصاء الذاكرة الباقية، وقاد هذا الى تحالف المليحي مع أطروحة الشرقاوي التي ترتشف الرسوم وهي توشم ذاكرة الأجيال، وتعثّر بلكاهية في الفولكلورية السياحيّة، وضاعت خصائص تجريدات غرباوي في "مونمارتر" باريس، أما تجريدات ميلود وسلاوي وربيع فتقع بين الطرفين. ولم يستطع التجريد أن يصمد أمام رسوخ قوة التصوير الشعبي ابتداء من الرباطي والإدريس ومولاي أحمد وابن علال وانتهاء بحسن وصلادي مروراً بسعيد والوريغي. يعكس المحترف التونسي هذا التنافس بين التشخيصية التي عكست الحياة المحلية منذ الخمسينات وانتهت بشطحات الحجري والتريكي من جهة، والتجريد الهندسي الذي استثمر إيقاع المفردة الهندسية في موروث الرقش. اختص بالثانية كل من الفخفاخ وهاني وسمير التريكي، وأبرز فناني المحترف رفيق الكامل يمارس الإتجاهين في آن واحد. تملك الجزائر خصوصيتها ضمن هذا الصراع، فقد شكّل طرفه الأول كل من رسام المخطوطات محمد راسم والمصورة الشعبية باية، أما الطرف الثاني فكان على رأسه محمد خده، كتيار الصيغة الرسمية للمقاومة والتقدميّة، كان محمد خده يزرع رموزه شجرة الزيتون والأحرف العربية في خرائط التجريد الغنائي الباريسي مثله مثل الحروفيين الذين أسسوا الاستشراقيّة تجريدية جديدة. ولعل هذا ما يفسّر أن أقطاب التجريد يقيمون في المهجر الفرنسي: بن بيللا، أكسوح وبن عنتر. واتجه المحترف السعودي منذ تأسيسه الى الواقعية الوصفية، التي تحولت فيما بعد باتجاه تعبيري اختص بالسعي خلف مدينة فاضلة على مثال: رضوي، مغربل، نواوي، سيام، صبان، جاها، الصفار، وذلك بالتعارض مع التجريدية الحروفية التي أسسها موسى السليم، واستمرت في تجارب عاشور وسواه أما تجارب حماس وسليمان فتقع بين الحدّين. كذلك الأمر بالنسبة الى البحرين فقد تحول الوصف الواقعي الى تعبيرية ناصر اليوسف، وأحمد باقر وغضبان وذلك مقابل تجريدات الشيخ راشد وعبدالرحيم شريف، وتقع مدن بلقيس بدورها بين الطرفين. نلاحظ التعارض نفسه في الإمارات، فتعبيرية كل من الريّس وسالم جابهت تجريدات او تجارب ما بعد الحداثة. 3 - مخاضات الحداثة وما بعدها تفوقت معاناة العقود الثلاثة الأخيرة على محنات النكبة والهزيمة والنكسة، وترافق التشكيل مع الهموم الشمولية: إبادات المدن وتدميرها، الفساد البيئي، أعراض الجحيم الكوكبي المرتقبة الخ... مثّلت البينالات والمهرجانات الأعراض الأولى "التوتاليتارية" الأسلوبية، وتسارعات أزمة الفن المعاصر: كساده، تواطآته المؤسساتيّة والإعلامية والاقتصادية. وفي وقت لم ينج أي نهر من سرطان التلوّث ولا أي منظر من هجمات التصحّر، وأصبح من التعسّف الإمعان في تصوير الطبيعة على الطريقة الانطباعية، تظاهرت أولى نتائج هذه المحنة في استيراد عقيدة الخروج من حدود اللوحة، وتدمير تراكمها التصويري، وإحلال المواد الاستهلاكية الدادائية المحدثة، وتهجين الفنون بدعوى توليفها، وبتحول اللوحة الى طقس مسرحي إعلامي عبثي يغلب عليه التنظير النقدي. تأسس محترف الإمارات على هذا التناقض الحاد الذي أطلق نظريته حسن شريف، ولم يثمر إلا مع إنشاءات أحمد ابراهيم "الإيكولوجية"، ولكن أشد المحترفات ترحيباً بهذه الموجة كان المحترف الفلسطيني وعلى الأخص فنانو الشتات: منى حاطوم لندن، ناصر السومي باريس، ديجاني بيروت، رنا بشارة رام الله وغيرهم. كانت خسائر المحترفات العربية بهذه الموجات المراهقة مضاعفة، اذ لم تقتصر على تأكيد غربة المتلقي عن تغريبات الحداثة المدعية، وإنما تجاوزته الى قطع التواصل مع سعي الفنانين العرب منذ البداية الى استملاك المحترف خصائصه الشمولية المتميزة. وقد تبدّت حيوية الصراع الأشد ضراوة ما بين دعاة العولمة وإخصاء الذاكرة وعصبية الحداثوية مهما كان الثمن وقد اعتمد معظم هؤلاء على الضجيج الإعلامي والمسرحي، وعلى التواطؤ المؤسساتي كطرف أول. أما الطرف الثاني في الصراع، فتمثّل في مجابهة الرواد الجدد الذين اقتحموا حساسية ما بعد الحداثة من دون أن يتخلّوا عن مسؤولية التراكم، وخصوصاً أن نشاط معظمهم يقع بين الداخل والخارج. وسأقتصر في ذكرهم الرمزي على الأسماء، لأننا تعرضنا لدراسة معظمهم على صفحات "الحياة" في السابق وهم: عادل السيوي، عبله، النمر مصر، فاديا حداد، ندره لبنان، عبدلكي أحمد معلا، صابور سورية، آمال عبدالنور، منصور، بركات فلسطين، سليم العبدالله، كريم رسن منصور العراق، محمد القاسمي، الوزاني المغرب، رشيد كمون الجزائر، الساحلي، بودربالا تونس، عمر خليل السودان. والأهم من ذلك أنهم أعادوا الاعتبار الى "الفنون البكر" المتصلة باللاوعي الجماعي، وأُعتبرت تجارب هؤلاء جزءاً من حداثة المحترف العربي على مثال: شادية عالم السعودية، شلبية ابراهيم سورية، رباب النمر مصر، ناصر اليوسف البحرين، أيوب ملنج سلطنة عمان، أحمد نعواش الأردن، أحمد الحجري تونس، عباس صلادي المغرب، فناني السجون فلسطين. لم يعد التجريد بالنتيجة حداً مطلقاً للحداثة، ولم يكن الإذعان الى المستوردات المراهقة لما بعد الحداثة الغربية سهلاً، فقوة تبصيمات الحفار السوداني - الأميركي عمر خليل تفوقت على متانة تجريدات شبرين والصلحي، لسبب بسيط أنها تستمد نفسها من تراكم صور اللاشعور الجماعي في المخيلة الأفريقية السودانية. ولعل هذا ما يفسّر صبوة الخروج من عقيدة التجريد الغنائي التي يعاني منها المعلم عبود، والتي جنت ثمارها لدى جورج ندره وفرزات وآخرين. لقد ابتدأ القرن التشكيلي العربي بتبني "فن اللوحة"، وانتهى اليوم الى الاندفاع الحداثي في تمزيق أصولها. ولكن الرواد الجدد يرفضون الإذعان الأرعن "لفيروسات" فنون ما بعد الحداثة وأزماتها المزمنة. بل يؤثرون الإلتزام بشرعية تراكم التعبير الفني الإنساني، والذي يمتد خلف ذاكرتنا بآلاف السنين، ومنذ أن اكتشف انسان الكهوف غرائزه الوجودية الأولى عن طريق التصوير.