تبدو فكرة الخصوصية كما هي مطروحة في الإطارات النظرية للثقافة العربية كأنها ردة فعل على التفوق الأوروبي. انها، وهي تستجمع قواها من بداهات التراث والأصالة والعراقة الحضارية، تبدو كأنها استيهامات ذكية من الماضي: أعاد المصري محمود مختار صياغة النحت الفرعوني وعاد العراقي جواد سليم الى بهجة الأقواس الإسلامية وانهمكت مجموعة كبيرة من الفنانين بإستلهام الحرف العربي. تبدو فكرة الخصوصية، ضمن هذا التصور، كأنها تشخص نقيضاً غير مُصَرَّح به لعالمية اللغة البصرية. لنتوقف في البدء امام الزعم القائل ان التشكيل يمكنه مخاطبة المتلقين من دون ترجمان وبتفاهم بدهي. ان اللغة البصرية، خلاف ما يذهب اليه الكثيرون، ليست بالضرورة لغة مفتوحة الآفاق وليست نظام اتصال عالمي الا بمقادير نسبية كما انها ليست في متناول غير المنحدرين من ثقافتها. ان كونها بصرية يوحي خداعاً، بالامكان المتاح لجميع الثقافات بقراءة جميع الأعمال التشكيلية القادمة من مختلف اصقاع المعمورة. هذا وهم حقيقي خصوصاً اذا لم يتعلق الأمر بلوحات تجريدية. غدت مقاربة اللغة البصرية باللغة المنطوقة مقاربة عتيقة في الفكر الغربي لكنها ما زالت صالحة لإنارة الفكرة في الثقافة العربية. إذن فإن اللغة البصرية لها قواعد مثل المكتوبة ولذلك تحيل الى إرث تاريخي، الى حساسيات محلية، والى طريقة نظر معينة الى اشياء العالم. نتحدث عن هذه اللغة بإستخداماتها المتنوعة بما فيها اللوحة والمنحوتة والتصميمات الوظيفية والصورة الفوتوغرافية. يصعب للغاية على مشاهد عربي متوسط اقتناص المغازي المجازية للكثير من لوحات عصر النهضة الأوروبي التي تستمد طاقتها التعبيرية مستندة الى الإرث الاسطوري الأغريقي بل إلى رمزية الحركات الجسدية. اننا نزعم ان الرسائل البصرية للكثير من دعايات السيارات والعلكة والحافظات النسائية والجينز وغيرها مما نشاهده على الشاشات الأوروبية وبعضها يستند الى لغة البصر وحدها يمكن ان لا تصل البتة الى ذاك المشاهد العربي نفسه. اللغة التشكيلية، مثل المكتوبة، تتكون من مفردات مُنتَخَبة وتفضيلات بيانية وقياسات بلاغية، فحضور الأزرق الشذري في الفن الإسلامي مثلاً ثم الميل اليه في المزاج العام إنما هي مفردة من المفردات. لمفردات هذه اللغة إشتقاقات تاريخية إيتيمولوجيا مثلما لمفردات القاموس إشتقاقاتها، ذلك ان وحدة زخرفية تضرب في الوجدان الثقافي الاسلامي تصير مفردة مرجعية مقارنة بعمل آندي وارهول الشهير المستند الى تصميم علبة الكوكاكولا في الوجدان الذي لن يعير عمل الفنان الأميركي بالاً. كونها بصرية لا يعني أنك ستصير مفهوماً أي مقروءاً بصرياً حالما تقدم لوحتك الى مشاهد أوروبي او ياباني، او حالما يقدمها إليك. هذه اللغة التشكيلية مثلما للموسيقى علاقة عضوية بمناطق إنبثاقها وهمومها. لا احد يستطيع الزعم ان الموسيقى الصينية وهي بالطبع نوع تجريدي تماماً مفهومة ومسموعة ومحبوبة على المستوى الكوني. ان مقاربة الرسم بالموسيقى مثال ممتاز آخر لتوضيح هذه الفكرة. سوى انه من الناحية الموضوعية لا احد يستطيع الزعم للحظة القدرة على تجاوز التجربة التشكيلية الأوروبية التي مرت منذ القرن الرابع عشر وحتى نهايات قرننا هذا بتحولات بنيوية وتساؤلات نظرية عميقة وانجازات جوهرية، بعضها في غاية الإثارة. علينا القول صراحة ان معظم هذه التحولات لم يجر استيعابه ودرسه في العالم العربي المشغول بفن الكلام - اللغة بشكل أساسي. ان الثقافة التشكيلية لم تغد بعد مكوناً من مكونات الوعي الثقافي، من الثقافة العامة الضرورية للفرد المتوسط. وتاريخ الفن لا يشكل في العالم العربي جزءاً من التاريخ المدروس في الثانويات والجامعات، والمواهب الواضحة لكثير من الفنانين العرب، وبعضهم من جيل الرواد، ينقصها بشكل دراماتيكي الوعي النظري التشكيلي والمقاربة الدقيقة لتاريخ الفن الاوروبي والاسلامي. ان ندرة المؤرخين، مؤرخي فنون الحضارات القديمة والفن الاسلامي، علامة دالة على مشكل واقعي. ما يعقد الأمر برمته هو إستحالة القفز على افكار الحداثة وتجربتها التي تصير، شئنا أم أبينا، حدثاً مشاعاً للبشرية جمعاء. لقد انهمك جل الفنانين العرب بمشكلات وتعاليم المشاغل الأوروبية وتحت وصاية أساتذتها. الخيار الوحيد الذي يبدو متاحاً امام الفنان العربي هو الانفتاح على التجربة الغربية والتهامها التهاماً، بوعي شديد. واذا كان التوجه التشكيلي العربي نحو التجربة الفنية الأوروبية ورصد البصرية في مختبراتها الأصلية الدؤوبة يعني تعطشاً الى المعرفة فإنه يشير، من جهة اخرى،الى الفقر المدقع في التجربة التشكيلية المحلية وانصراف الثقافة العربية عن البحث الفني ولو زعمت، مكابرة، عكس ذلك. قاد التوق الى المعرفة الفنان العربي الى ممارستين بارزتين: اما التقليد الكامل للأساليب والتقنيات وسبل التناول الأوربية، أو الاستناد بشكل كامل الى المهارات الحرفية، او المراوغة والإيحاء بالأصالة الفنية، وهو يلجأ الى ما يحسبه إرثاً وطنياً مُفترِضاً قطيعة مع الطريقة الأوروبية، مثل استخدام الحناء والجلد والأبواب والحروف العربية واستيهام الأبطال الشعبيين… الخ، معتقداً بأنه يشيد في قلب القلعة الأوروبية أساسات جذرية مغايرة لفن غير اوروبي والحقيقة ان امااستخدام حوامل supports محلية لا غير للتعبير عن تجربة غير محلية، ليس سوى اعادة استلهام لتجربة أوروبية مماثلة أقدم وأكثر جرأة احياناً. هل من الإفراط القول أن التجربة التشكيلية العربية الحديثة كلها مستمدة من الفن الأوروبي؟ مثل هذا التوصيف القاطع لا يريد ان يتهم بأي شكل من الأشكال التجارب الشخصية للفنانين العرب لكنه يريد القول أنها تحضر من دون استمرارية تاريخية. فنحن، في أساس المشكل، لم نطور ما توصل اليه أسلافنا الشرقيون في الحضارات الرافدينية والمصرية والبونيقية، ولا تجربة أجدادنا المسلمين في بغداد ودمشق وأصفهان وقرطبة والقرويين. واذا كنا نؤصل اليوم للعلوم الاجتماعية وعلم التاريخ ابن خلدون والنقد الأدبي الجرجاني ناهيك عن الشعر بإرث معرفي طويل وأسماء علم أنجزت أعمالاً كبيرة سلمتها بدورها الى اجيال لاحقة، فإننا لا نستطيع تأصيلاً مماثلاً بالنسبة الى فني الرسم والنحت. ان العودة والاستشهاد من دون كلل بتشخيصية الواسطي تتناسى في الحقيقة ان التجربة العالمية الراهنة تشكل قطيعة مع تجربة الواسطية المؤسسة على رؤية للعالم صارت بعد اكتشاف المنظور الخطي او تطبيقه في الرسم في حكم الماضي. وغير المنظور كلياً منحى الرسم وقبل ذلك معناه لأنه سيحل الواقعية محل اللاواقعية المتلبسة لبوسات مشابهة. حضور الاتجاه الواقعي منذ القرن الرابع عشر يعني كذلك حلول تأويل مختلف للعالم مقاربة مع تأويلات العالم السابق. ان المسافة بين رؤية النمنمات الإسلامية التشخيصية والرؤية الواقعية الجديدة كل الجدة في تاريخ البشرية لهي مسافة معتبرة. علينا التذكير هنا ان توصيفنا لا يريد التقليل كذلك من شأن التجربة التشكيلية الإسلامية ذات الفلسفة المختلفة لكنه يريد الإشارة الى المأزق الموضوعي لمحاولات التأصيل في الوعي التشكيلي العربي المعاصر. ثمة قطيعة تاريخية تصيب صميم ما يعتبر ثقافة تشكيلية عارفة وراقية ومتعلمة لأن الثقافات الشعبية الخزف والسجاد واشغال المعدن والخشب إستمرت على طريقتها الخاصة وبخفر باستيهام الماضي من دون قطيعة مماثلة. تتجلى هذه القطيعة عندما نعلم ان التجربة العثمانية/ التركية هي التي أمدت العالم العربي بمفهومات للحداثة السياسية تركيا الفتاة المنقولة تحت اسم مصر الفتاة.. وللتجربة الإجتماعية التحررية تحرر المرأة التركية المقلد في مصر على يد هدى شعراوي ولفن الرسم الذي هجر في تركيا الممارسة الزخرفية المنمنماتية السابقة تحت تأثير الضغوط الحضارية الأوروبية، والتفجر المتسارع للبحث التشكيلي. اتجه الرسم العثماني ومقلدوه في العالم العربي الى حداثة شكلانية في جوهرها، أي من دون مفهومات نظرية متماسكة. كان بعض الرواد التشكيليين ضباطاً في الجيش العثماني مثل العراقي عبدالقادر الرسام الذي أدخل للمرة الأولى، على ما يبدو، الألوان الزيتية صبغ بويه الى العراق وأدخل معها تلك الحداثة التشكيلية. لم تؤثر هذه الحداثة بطبعتها الأتاتوركية كما التقليد الصارخ لروح عصر النهضة الإيطالي على يد الرواد اللبنانيين سوى نتف يسيرة في "الحداثات" العربية اللاحقة. على سبيل المثال فإن الرسم العراقي الحديث لم ينشأ على يد عبدالقادر الرسام بل قام فعلياً بعد عودة جواد سليم ومحمد غني حكمت والرحال ثم شاكر حسن آل سعيد من اوروبا. قبل ذلك لم تكن توجد أية حداثة. كانت هناك ممارسات نقلية باهتة لا اهمية لها. حدث الأمر نفسه في مصر وسوريا ولبنان مع فروقات قادمة من طبيعة التطور الثقافي والخصوصيات الأقليمية لكل بلد. اما في مغرب العالم العربي وفي خليجه فتأخر وصول قطار الحداثة هذه كثيراً. هكذا فإن ما ينقص التجربة التشكيلية في العالم العربي هو الإستمرارية والتواصل التاريخي كما الأساس النظري. ان ما يعتبر انجازاً لا يناقش وما يحسب إضافات جذرية في الفن العربي مأخوذ، إجمالاً، بتقنياته وأفكاره من الفن الأوروبي. التجربة الأكثر لصوقاً بالماضي وبالتالي بما يزعم انه خصوصية محلية في الفن التشكيلي العربي هي تجربة استخدام الحرف العربي التي هرع اليها كثرة كاثرة من الفنانين بحساسيات متفاوتة. تصلح الحروفية بسبب رمزية معانيها، فحسب، لأن تكون مثالاً لخطل يصيب الوعي التشكيلي. جرى دمج الحرف ضمن هواجس الحداثة المتعلمة في المشغل الغربي، ضمن نزعة تجريدية هندسية كمال بلاطة او في سياق تصميمي رافع الناصري او ضمن بعد تأويلي آل سعيد او في ممارسات زخرفية وتزيينية باهتة كما لدى الكثيرين. تخفي العودة الى الحرف، بل التنظير له بوصفه تعريباً للوحة، تعبيراً بالمقلوب عن المقدار الذي إستعار ويستعير الفن العربي فيه من الفن الغربي. ما الفائدة من تعريب كهذا؟ من الناحية التقنية برز اختراع اللوحة المصنوعة من القماش تعبيراً عن حاجات عملية وتجارية قرينة بمستجدات عصر النهضة الأوروبي، خصوصاً بنهوض فئات إجتماعية جديدة راغبة باقتناء العمل الفني. كانت تسهل المتاجرة ونقل الرسم المعمول قبل ذلك العصر على الخشب او الموضوع على جدران الكنائس فريسك. اما من الناحية الفنية فانه استخدام محض جمالي، زخرفي، استخدام بلاستيكي، ملون واستخدام من دون أساس تاريخي في الثقافة العربية الإسلامية مرة اخرى. المسافة التي يسعى الحرفيون الى إقامتها بينهم وبين الخطاطين ذات دلالات اعتبارية ورمزية، ذلك انهم يريدون اسباغ صفة الرسام، الجديدة والحديثة في الوعي العربي، على انفسهم وليس صبغة الخطاط الحرفي. ثمة عقدة خفية من مهنة الخطاط سنفتش من دون جدوى عن معنى مباشر لها، ولو انها تخفي نزوعاً نحو "أوروبة" الخط العربي. في الإنهماك المعاصر بالحرف لا تستخدم الحوامل القديمة أي الورق والرق وانما القماشة وتهجر علبة الخطاط أحادية اللون الى التلوين المتنوع، الزاهي، ثم ان الحكم والمعاني التي كان الخطاط يسعى الى وضعها امام الجمهور عبر الآيات القرآنية والأمثال الشائعة تنتفي لصالح بحث شكلي منصب على بلاستيكية الحروف وجمالها الداخلي. هذا البحث يستحق المدح في بعض الحالات. لكن الهاجس الرئيسي الذي يحكم غالبية الأعمال الحروفية هو إنشاء "لوحة"، لوحة للأقمشة المخترعة في القرن الرابع عشر ذاتها، بإدعاء تحميلها إرثنا العربي الإسلامي. ما الفائدة من ذلك مع معرفة ان قطعة الخط القديم كانت موضع ترحيب جمالي من الثقافة الراقية وعامة الجمهور، كما كانت مصدر رزق مبدعيها؟ اما التنظير لما يسمى بالحروفية فاننا أمام إثنين: 1 - في ما يتعلق بتسمية "البعد الواحد" ليس من إشارة واحدة الى مصدر التسمية المستعار من أدبيات علم الهندسة العربي، حيث يعرف الخط الهندسي المستقيم Ligne وليس علم الخط أي الكاليغرافي Calligraphie بوصفه مقداراً ذا بعد واحد. يتجنب مطلق التسمية الإشارة الى مصادر هذه الإستعارة الصريحة، التي تطلع في الوسط كأنها اختراع من عنديات الثقافة العربية المعاصرة. في تجاهل المصدر العربي القديم ثمة ايحاء بتجاوزه والإندماج بلغة وأساليب قول البحث التشكيلي الغربي المعاصر. من جهة اخرى فان الإلتباس الشديد الذي تحيل كلمة الخط اليه بحيث اننا لا ندري إذا كان الأمر يتعلق بالهندسة ام بفن الخط وهي صعوبة برزت فجأة عندما حاول كاتب هذه السطور مرة ترجمة فقرة من أحد بيانات آل سعيد الى الفرنسية تشير الى فقر مدقع في المسطلح التشكيلي العربي. سنعود الى المأزق الذي يقود اليه هذا الفقر في التفاهم بين التشكيليين وبينهم وبين الوسط الثقافي. 2 - في التنظيم الى البعد الواحد ثمة قفز على اعمال الإسباني تابييس المشتغل لفترة طويلة على الأثر الموضوع إعتباطاً على سطح من السطوح والمصنوع تلقائياً عبر آلاف الأيدي المارة على حوامل طارئة مثل الجدران والأبواب، وهو أمر يلح عليه آل سعيد خصوصاً انه يلتقي على حيطاننا الشرقية بالكثير من الآثار العابرة والحروف المخطوطة كيفما إتفق. في حروفية ال سعيد التي تعتبر غالباً تأملاً شخصياً محض تشكيلي ثمة تعريب صريح لتجربة الفنان الإسباني. هكذا نصل الى مشكلة المرجعيات التي هي مفصل تتمحور فيه خرافة الخصوصية وتتجلى. ففي غالبية الأدبيات والمقابلات مع كبار فنانينا ثمة إغفال للتجربة الاولى، عدم إشارة الى المرجعيات خصوصاً الى الأساتذة الذين تعلم على أيديهم كبار فنانينا المحدثين. وإذا تحدثوا عنه فبصعوبة شديدة كأن الإشارة اليها ستصيب الفنان بعيب التقليد، وكأنه سيوصم بعدم الابتكار. اننا امام خاصية عربية عن جدارة. ذلك ان البراهين المقالة تود ان تلمح الى ذات متمايزة، الأمر الذي يفسر بعدم اعتبار المعرفة تجربة من التراكمات، من الخبرات ومن التفاصيل المتلقاة من أساتذة جرى تطويرها على أيدي تلاميذهم، انما هي نبوغ مفاجئ. ان التشكيل العربي المعاصر، والحال الإفتراضية هذه، هو فن من دون مراجع. لا تتعارض الخصوصية المحلية، على ما نعتقد، مع التجربة الشمولية، كما اننا نظن بأن تثبيت مرجعيات وآباء مقلدين، إنما دليل على احترام المعارف السابقة التي يغترف منها القادمون الجدد بالضرورة، يدل كذلك على ان الإضافات المستجدة، مهما كانت طفيفة، إنما هي الأساس الجوهري للعمارات الكبرى. ان جزءاً من التجربة التشكيلية العربية المعاصرة هو انجاز بطولي، متوهم طالما انه لا يضع نصب عينيه الحقائق الأساسية للثقافة التي يطلع منها والمستوى العام الذي تتسيد فيه، على رغم الفسحة النقدية التي يمتلكها الكثير من الفنانين العرب إزاء ثقافاتهم المحلية. لنعاود اذن قول البديهي عبر مقاربة بين ماض فني بائد وحاضر تشكيلي متكبر: ان ما منح الشرق القديم قوته الحضارية، اضافة الى المنجز الثقافي الجبار وعلى ر أسه اكتشاف الكتابة، انما هي التمايزات الفعلية لمنجزاته التشكيلية. فالرسم المصري يقدم رؤية خاصة بأدوات خاصة من الصعب العثور على شبيه لها في العالم القديم، وفي الوقت الذي لا يستهدي فيه النحت الرافديني بقانون Canon من قبيل قانون الجمال اليوناني اللاحق، انما يحطم عامداً؟ المعايير المألوفة في تكوين الجسد البشري لأنه مهموم بالتعبير عن المقدس. ان المتسامى به الى مصاف المثال الأثير على قلب النحات الأغريقي يتحطم لصالح ما يحسبه النحات الرافيديني جوهرياً. حتى واقعية العصر البطليموسي في مصر المتأثرة بالفن الأغريقي في ذات خصوصية محلية تاريخية انظر مثلاً تمثال بطليموس الحادي عشر في متحف الفاتيكان لا تقارب بواقعية الإغريق المثالية، المستمدة من التفكير الإفلاطوني. انها واقعية سحرية تقريباً اذا استعرنا المصطلح المطبق على الرواية اللاتينية. اما النحات الفينيقي الذي - وهو يعاود تمثيل غطاء الرأس المحلي الحاضر، وياللغرابة منذ آلاف السنين في جبل لبنان - فانما يمنح المتخيل دوراً مميزاً بأجساد طوال القامة، نحيفة وحيوية. كما ان الفن الإسلامي يشهر خصوصية عالية، على مستوى التجريد كما على مستوى التشخيص المنمنماتي الذي هو أسلبة للواقع: اي نوع من التجريد. لكن ما الذي كان يمنح هذه الفنون جميعاً تلك الخصوصية؟ ها هنا فحوى مقاربتنا: انها فنون تخرج، من بين اشياء اخرى، من رؤية فلسفية شاملة ومتماسكة للآدمي وللكوني. انها تستهدي بفكر اصلي ما، بعقيدة فلسفية مهما تلبست لبوسات دينية وقبل كل شيء بعقل نقدي، بمعنى ان العمل الفني مندغم منذ البداية بتصور متماسك للأشياء لم يقدر لكل هذا ان يتوفر موضوعياً للتشكيل العربي المعاصر الذي يستعير الأفكار والفلسفات والمقولات النقدية. ان العلاقة بين الإنجاز الجمالي والفكر تتمظهر بتبادل الخبرات والدروس بين المدارس التشكيلية المتنوعة الواقعية، الإنطباعية، التكعيبية والسوريالية.. وحركة النقد العقلاني في اوروبا. هذه المدارس هي تعبيرات عن مستوى الحوار الثقافي العام ولكن بأسئلة لصيقة بالفن. جميع الحركات الفنية لم تطلع الا من حركة دؤوبة للعقل، من اسئلة فلسفية مترابطة، من مساءلات جذرية للمعقول في البداية، ثم المعقول المرئي في الإنجاز الفني. ما حدث لدينا هو اننا جئنا الى إنطباعية جاهزة، مقطوعة الجذور عن أصولها وعن التساؤلات التي سبقتها ونجمت عنها، واعتبرنا أنفسنا في صلب العملية التاريخية ذاتها - وهي معقدة وذات فصول مثيرة - التي بلورت الفكر الغربي بكل تجلياته خصوصاً تجليه الفني. يخيل الينا انه مهما توغل الدارس التشكيلي العربي في الوثائق والتفصيلات التي رافقت مخاض مدرسة مثل الإنطباعية فانه لا يستطيع المثول تماماً في داخل التجربة الإنطباعية الأوروبية طالما ان السياقات الثقافية والمستويات الإجتماعية ليست متناظرة هنا وهناك. إننا نظل في مقام التقليد. نتبقى من دون الشروط التاريخية، وحتى النفسية التي ولدت الإنطباعية. عندما عاد الفنان العراقي فائق حسن من باريس الى بغداد، كان يخرج مع جماعته الفنية الى بساتين الضواحي ليراقب غروب الشمس، ليرسم التحولات البصرية الطارئة على مرأى الأشياء. كان في الحقيقة يستعيد حرفياً ما كان الإنطباعيون الفرنسيون يسعون اليه قبل عشرات السنين. ألسنا في معرض تقليد كامل؟ واذا توفر له، هو شخصياً، الفهم للتجربة الفيزيقية الإنطباعية على أساس انه درسها نظرياً وربما بجدية في فرنسا، فمن اين يتهيأ لأصحابه الآخرين هذا الفهم طالما انهم يندرجون في سياق ثقافي لم يزل ملتبساً في نظرته الى اساسات العمل التشكيلي وبداهاته؟. شهدت ولادة المدارس الفنية الاوروبية نوعاً من الإتساق الداخلي، المنطقي القادم من عمل الفكر النقدي الذي كان مؤثراً في كل مرة على نشوء حركة جديدة، بل سبباً لها. وبمعاودة فحص وتقليب ونقد أساسات وطروحات هذه الحركة كانت تظهر بوادر حركة جديدة صارت بدورها مدرسة فنية، وهكذا دواليك. ليس ثمة من مصادفات مثيرة ولم تكن الأمزجة الفردانية تؤثر لوحدها في خلق مثل هذه الحركات. في حين انه لم تتهيأ للوعي العربي الشقي قاعدة للإتساق. ولدت كل المدارس دفعة واحدة تقريباً في العالم العربي حسب أمزجة الرواد وحساسيات دارسي الفن الآخرين اللاحقين. لقد فرضوا قواعدهم على عالم ثقافي تشكيلي جنيني من دون قواعد. اننا نتساءل عن العلة التي جعلت كثرة من فناني منطقة الخليج يلجأون الى الغرائبية وسوريالية في نتاجاتهم. ثمة وهم في ان الثقافة العامة التي هم جزء منها تصور العميق انسانياً وفكرياً.، وان الجدير بالإعتبار بالدرجة الأولى يقع بالضبط في المخيال السوريالي. طالما تغيب المراجعات النقدية التشكيلية ولا تصير عنصراً من عناصر الثقافة العامة، فلن تكف النزعات السوريالية المولودة منذ بداية القرن في أوروبا عن الحضور في منطقة الخليج. لنلاحظ من الناحية السوسيولوجية ان ثمة مفارقة بين السوريالية بصفتها محاولة لتغليب الحلمي او الكابوسي او الغرائبي او حلم اليقظة ودوما في إطار رسم تشخيصي وبين الواقع الاقتصادي والبنى العائلية والأخلاقية ومستوى تطور المدينة في بلدان الخليج العربي. تلك السوريالية العربية لا تستشهد بمفردات الواقع لتشييد عمارتها ولكنها تشيح بوجهها عنه وهي تستلهم مكاناً وزماناً سورياليين مختلفين. اننا في معرض التقليد ذي الدلالة هناك. اذا كانت البرجوازية العربية، خصوصاً الإرستقراطية التجارية إمتلكت الذكاء الكافي وقبل ذلك المال الكافي، وهو ما يصدق على مصر في بداية القرن، لتقبل افكار ما يسمى لاحقاً الحداثة، فانها لم تكن الا اقلية لا تعبر عن موقف الأكثرية الساحقة، بما فيها المتعلمة التي لم يتقبل وعيها الا النقل الفوتوغرافي للواقع المرئي بصفته، لوحده، الابداع التشكيلي العالي. وظلت، حتى الآن، تسخر من اي نزعة تشخيصية حرة ناهيك عن التجريد. يستحق هذا الموقف دراسة شاملة ومسحاً لصفاته المقالة كتابة وشفاها وتصوراته المكتوبة. ان دراسة منهجية عن الكتابات المتعلقة بالفن التشكيلي منذ بداية القرن وحتى اليوم ترينا حقيقة اغتراب الفن البصري عن الوعي السائد. هذا الموقف هو الموقف الحقيقي، الموضوعي للثقافة العربية امام العمل الفني. انها تعاود طرح البسيط التشكيلي ويفصلها بون شاسع عن اللغة البصرية المعقدة . يبدو من الواضح الآن ان العمل التشكيلي هو عمل ثقافي يفكر بطريقته الخاصة ولكن بعمق شديد وبحساسية عالية. ويبدو ان مثل هذه الوظيفة للعمل التشكيلي غائبة او غائمة في العالم العربي. اننا نعلم ان الكثيرين يشكون جهاراً من عدم امتلاك الكثير من الفنانين العرب، خصوصاً الأوائل منهم، هذا الزاد الثقافي وانهم اذا امتلكوا فضيلة الريادة فانهم هم انفسهم، موضوعياً، نتاج لتقاليد التخلف العربي، وان بعضاً منهم لا يستطيع تكوين جملة عميقة عن العمل الفني، لكي لا نقول أنه ليس قادراً على طرح مشروع نظري كامل. البعض يهجر قناع المثقف والمفكر الى حقل محض حرفي. ففي جواب للفنان الكبير شفيق عبود هل كان يرى المعرفة النظرية ضرورية أم لا يجيب أنه "لا يراها ضرورية" وانه "لا يفهم الفن نظرياً. أحاول ذلك وأقرأ كثيراً من اجل فهم ذلك، لكنني قبل الوصول الى نتيجة أستمر بالرسم". الإستمرارية في الرسم من دون غطاء نظري يحكم المزيد من الفنانين العرب شيوخاً وشباناً ربما نستثني جيلاً جديداً في المغرب. هكذا يمكننا الاستنتاج أن ثمة إلتباساً في الحركة التشكيلية في المفهومات ذاتها وعلى رأسها الفرق بين المثقف والحرفي. وفي الحقيقة فإن المهمة البديهية للفنان مزدوجة: بالقدر الذي يتوجب عليه ان يمتلك ثقافة معقولة لأن العمل التشكيلي هو مناسبة لاستحضار الكلي، الذهني والعقلي والحسي بأدواته الخاصة، فعليه ان يعرف كذلك كيف يستحضر كل ذلك مادياً اي في العمل المؤسس على تقنيات متقنة، اللوحة او المنحوتة او قطعة الخزف وما الى ذلك. غير ان المستتر في قضية الخصوصية هذه يكشف عن دلالة ايديولوجية. ففي مفهومي الأصالة والحداثة المزدوجي العلاقة يتجلى تأثير الفكر القومجي العربي الذي لم ينفك يلوي عنق التاريخ طواعية وكرها، من اجل تثبيت مفهوماته الأيديولوجية. لم يثبت التاريخ الواقعي فكرة الأصالة نفسها على الطريقة المتداولة طالما انه تاريخ اختلاف خلاق للثقافات والأعراق والحضارات والأديان. اننا مع هذه الفكرة، في فضاء ايديولوجي من دون تماسك منطقي. تحيلنا الفكرة القومية الضيقة على المستوى السايكولوجي الى بحث يائس عن ذواتنا المفقودة حضارياً، والى حالة استلاب يعي مقدار هيمنة الآخر عليه. من هذه الزاوية قد تمتلك الأصالة مشروعية ما ولكن شرط امتلاكها برنامجاً حقيقياً. سنقول البداهة لو قلنا ان وعي الذات الشخصية والوطنية يمر في البدء بنقدها. الغائب الكبير في الوعي العربي المعاصر هو النقد.