"مدينة السياسة، فصول من تطور الفكر السياسي في الغرب" محاضرات تثقيفية ألقاها السيد محمد خاتمي على طلاب دورة تخصصية عالية في قسم الفلسفة بجامعة العلامة الطباطبائي، في النصف الثاني من العام الدراسي 1992- 1993. وقد تردد الرئيس الإيراني في السماح بنشر ترجمة عربية لتلك المحاضرات نظراً لطابعها التثقيفي البحت والذي لا يمت بصلة مباشرة لهواجس السياسة الراهنة في إيران. لكن الكتاب الذي صدر عن "دار الجديد" في بيروت في مطلع عام 2000 يحمل فائدة جلى لمن يريد سبر غور الفكر الإصلاحي لدى محمد خاتمي، والسياسة البراغماتية التي قادته الى سدة الرئاسة من جهة، وإلى إطلاق تيار إصلاحي قد يتحول، إذا نجح في تحقيق ما وعد به الشعب الإيراني من إصلاحات، الى واحدة من أبرز الحركات الإصلاحية المعاصرة في الدول الإسلامية، من جهة أخرى. فمادة الكتاب ذات طابع موغل في الأكاديمية للرد على تساؤلات بعض الطلبة الجامعيين في إيران حول السمات الأساسية للفكر السياسي الغربي في مختلف الحقب التاريخية. أي أن صورة الباحث الأكاديمي محمد خاتمي في هذا الكتاب تختلف عن صورته الراهنة التي تحتل صدارة وسائل الإعلام العالمية، خصوصاً بعد انتصار تياره الإصلاحي في انتخابات 18 شباط/فبراير 2000. لكن من يطلع على مضمون الكتاب يدرك أن شمولية الثقافة الأكاديمية لديه كانت من الأسباب المهمة التي ساعدته في إدارة دفة الحكم بنجاح كبير في ظروف داخلية معقدة، فأضحى واحداً من أبرز رموز التحولات الإيجابية الكبيرة الجارية الآن على الساحة الإيرانية. لقد نجح خاتمي في اختراق التيار التقليدي المسيطر وأرسى دعائم تيار إصلاحي قد يشكل تجربة جديدة في إيران التي ما زالت تعيش إخفاقات متلاحقة طوال القرن العشرين، وتنحرف إصلاحاتها عن مسار الحداثة التي تحمي التراث أو الأصالة الى الاقتباس المفضي الى التغريب. وأغلب الظن أن مقولات خاتمي في هذا الكتاب تنم عن ثقافة نظرية قل نظيرها لدى قادة جميع دول العالم الثالث، وحتى ما يسمى العالم المتطور. ولديه معرفة أكاديمية معمقة بمختلف اتجاهات الفكر السياسي الغربي منذ انطلاقته الأولى في العهد اليوناني حتى تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر، مروراً برموز الفكر السياسي الأوروبي في العصور الوسطى. تناول خاتمي في مقدمة كتابه مسائل نظرية حول تطور مفهوم السياسة وفق منهج تحليلي قارن فيه بين نظرة كل من علماء المسلمين والعلماء الغربيين لشرح ذلك المفهوم. واستعرض فيها مقولات نظرية لشرح ماهية السياسة، وغايتها، والأهداف المرجوة منها. واستعرض بعض ما كتبه أبو نصر الفارابي في هذا المجال، والعلامة الفرنسي موريس دي فرجيه Maurice Duverger، صاحب كتابي "علم الاجتماع السياسي"، و"أصول علم السياسة"، والباحث الفرنسي أندريه فنسنت Andre Vincent صاحب كتاب "نظريات الدولة". ولم ينس تعريف مفهوم السياسة بالاستناد الى ما قدمته المعاجم الفرنسية، خصوصاً معجم روبير Robert الشهير. ثم استعرض نظريات بعض المفكرين المسلمين حول السياسة والتي يستدل منها وكأنها ليست علماً ولا فلسفة سياسية، محللاً ما قاله في هذا الجانب الطوسي في "سياستنامه"، الذي ترجم الى العربية تحت عنوان "سير الملوك"، والماوردي في "الأحكام السلطانية". في المقابل، أبرز خاتمي آراء بعض المفكرين الغربيين الذين جعلوا من السياسة علماً جديداً هو "علم السياسة" الذي هو توأم الحضارة الحديثة، ومنهم من تحدث عن "فلسفة علم السياسة" باعتبارها باباً من أبواب فلسفة العلوم، أو "العلم السياسي" باعتباره جزءاً من الفلسفة. وقدم السيد خاتمي أمثلة ملموسة تنم عن إطلاع معمق بآراء عدد من المفكرين الغربيين مع إثبات بعض مقولاتهم من دون عقد أو مركبات نقص. وعندما يشير الى أسماء بعض المفكرين كان يقرن تلك الأسماء بصفات تنم عن الاحترام العميق مثل "العلامة" موريس دي فرجيه، و"المفكر الجليل" اتيان جيلسون، ولم يستخدم أية إشارة تنم عن هزء أو سخرية بأي من المفكرين الغربيين في معرض التعريف بمقولاتهم، حتى التي تعارض بالكامل وجهة نظره السياسية. بعد مقدمة نظرية غنية برؤية موسوعية لمفهوم السياسة وتحولها من فرع في علوم أخرى، دينية ومدنية، الى علم قائم بذاته هو "علم السياسة" الذي هو من ابتكار الغرب دون منازع، حملت عناوين الفصول هواجس نظرية تجمع بين القديم والحديث، وتلقي الضوء على كثرة من رواد الفكر السياسي الغربي في مختلف حقبه. واندرجت العناوين في سياق تسلسل تاريخي يربط الفكر السياسي بالتبدلات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها المجتمعات الأوروبية منذ العهد اليوناني حتى الآن، مروراً بانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي الشرقي عام 1989. جاء تسلسل الفصول على الشكل الآتي: مدينة أفلاطون الفاضلة، معلم المدينة المدمرة، أفول الفلسفة، ملكوت الدين وملك السياسة، سياسة الكنيسة: زهد في الدنيا وحرص على أهلها، الفلسفة السياسية في الشرق، الخروج من العصور الوسطى وعليها، دنيا الدين ودين الدولة، الدولة "التنين"، "التنين" مدجناً أو الدولة حارس المصالح الحريات، الظمأ الى الحرية وسراب الثورة، وأخيراً بمثابة خلاصة: لئلا ييتمنا دوال "الحضارة الغربية". وقد تضمنت صفحات الكتاب وحواشيها تعريفاً وافياً بآراء كوكبة متميزة ومعروفة من رواد الفكر الغربي منهم، حسب التسلسل الأبجدي: أبيقور، بيار أبيلار، أرسطو، ارسطون، القديس اغوسطينوس، افلوطين، انغلز، وليم الأورانجي، وليم الأوكامي، مارسيليه البادوي، جورج باركلي، روجر بايكون، فرنسيس بايكون، بطليموس، بوليبيوس، بومارشيه، بيرون، بيريكليس، توما الأكويني، جونز، جيبون، إتيان جيلسون، دانتي، ديدرو، مدام دي ستال، جون دنس سكوت، موريس دي فيرجيه، رينيه ديكارت، ول ديورانت، آلن راين، برتراند راسل، جون جاك روسو، زينون الرواقي، جان الساليسبوري، سقراط، سنكا، سيبيون الافريقي، شيشرون، صولون، طاليس، غاليليو، مايكل فوستر، فولتير، فيلون، اندريه فنسنت، عمانوئيل كانط، كوبرنيك، أوغست كونت، أنطوني كوينتن، كبلر، هارولد لاسكي، مارتن لوثر، جان لوك، كارل ماركس، ماركوس اوريليوس، نيكولو ماكيافيللي، مونتسكيو، ميرابو، نيوتن، هوبس، هولباخ، هيغل، ديفيد هيوم. هذا بالإضافة الى أسماء أباطرة وملوك كبار، وعائلات ارستقراطية لعبت دوراً بارزاً في التاريخ الأوروبي. لقد تعمدنا تقديم هذه اللوحة شبه الكاملة لأسماء مفكرين غربيين ذكرهم السيد خاتمي في محاضراته أمام طلاب جامعة دينية في طهران يوم كان يمارس التدريس الجامعي. فدل بذلك على موقف مثقف إسلامي متنور يمتلك الجرأة في تقديم الفكر السياسي الغربي بكثير من الموضوعية والتجرد في وقت يرفض اليوم كثير ممن تربى في أحضان الجامعات الغربية تقديم ذلك الفكر على حقيقته، ومكتفياً بترديد اتهامات ايديولوجية سطحية تحت ستار إبقاء الجماهير الشعبية معبأة بالعداء الشديد لكل ما هو غربي لأن فكر الغرب يعادي العرب والعروبة والإسلام. بعبارة أخرى، حرص خاتمي على تقديم الفكر الغربي كما هو، وبشكل موضوعي محايد وليس كما يراه خصومه من السلفيين، سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين. وهذه سمة مثقف متنور ومنصف يبحث عن الحقائق العلمية من مصادر متنوعة، منفذاً بذلك نصائح كبار الفقهاء من المسلمين الذين نبهوا من رؤية الصواب في جانب والخطأ في جانب آخر. فالفكر العلمي الموضوعي لا يتطور بمثل هذا الانقسام العمودي الموصل إلى الإيديولوجيا فقط وليس الى العلم التاريخي الموصل الى الدروس والعبر. وصف خاتمي كتابه هذا بالقول: "إنه حصيلة تطواف عجول في أنحاء من فكر الغرب السياسي وحصيلة نظرات سريعة الى أبرز مواضيعه ومفاهيمه". ورداً على سؤال ذاتي قال: "هل التأمل في فكر الغرب السياسي أمر ضروري؟"، أجاب بأن "المجتمع الذي يخلو من التساؤل مجتمع خامل الذهن عديم الفكر". إنها إذن لدعوة صريحة لفتح باب الاجتهاد من موقع المدافع عن دور الفكر في تطوير المجتمع لأن غياب الفكر السياسي التنويري يقود الى الجمود. ووصف حال المسلمين في المرحلة الراهنة بقوله: "لا أريد أن أجعل من غياب الفكر السياسي في دائرة تفكير المسلمين المفتاح الوحيد لتفسير ما انحدروا إليه من المزالق والمهاوي، أو أن اتخذه معلولاً لعوامل كانت هي السبب في انحطاطهم، لكن لا ينبغي الشك أبداً في التلازم بين هذين: انحطاط المسلمين وغياب الفكر السياسي. عليه فلا بد لنا إذاً من النهوض للتوصل الى فكر سياسي أصيل ومستقل وعقلاني. ولن يتفتح بين ظهرانينا فكر مجرد عن الوهم والتقليد إلا في ظل معرفة واعية بالزمان ومقتضياته وضرورياته. وحضارة الغرب وثقافته باتت أمراً واقعاً، وحقيقة أكيدة في هذه المرحلة من تاريخ البشر، فلا مفر من التعرف على الحضارة والثقافة هاتين". ويضيف في مكان آخر: "يبدو أن إحدى المشكلات الفكرية الكبيرة التي يشكو منها مجتمع كمجتمعنا هي افتقاده للفهم الصحيح والإدراك الحقيقي لمبادئ الفكر الغربي، بما في ذلك ما يرتبط بمجال السياسة. وهذه المشكلة بذاتها من نتائج غفلتنا التاريخية... وليس يكفي النظر في فكر الغرب السياسي فقط بل لا بد من التأمل بجد في فكره وحضارته عموماً، لا سيما ما يعرف اليوم باسم العلوم الإنسانية... إن إمعان النظر في الأسس التي يقوم عليها فكر الغرب، وفي ما توصل إليه هذا الفكر، مسألة مؤدى التغافل عنها الى التجرد من القدرة على الاضطلاع بدور مؤثر في العصر". ويختم توجهه بالقول: "لقد راوحت مجتمعاتنا في علاقتها بالغرب بين حدين من رد الفعل: حد الرفض والإنكار، وحد العشق والهيام وإنكار الذات... إن التعرف على ثقافة الغرب وحضارته تكليف فكري وضرورة تاريخية. وفي مجال السياسة، فإن أية محاولة علمية وفكرية سوف لن تؤتي ثماراً ولن يكتب لها النجاح ما لم نتعرف الى فكر الغربيين ونمط سلوكهم، لأنهم، لا سيما في القرون الأخيرة، أطول من وقف متأملاً في الإنسان والشؤون الإنسانية، ولأنهم جددوا، بما لا يسع أحد إنكاره، في أبواب التأمل التي طرقوها". هكذا بدا الكتاب أبعد ما يكون عن المحاضرات الأكاديمية الباردة التي كانت مبرراً لتأليفه في البداية. وقد أبدع المؤلف في توصيف محتواه كما يأتي: "إن ما بين دفتي هذا الكتاب ليس بحثاً في تاريخ السياسة أو الأفكار السياسية، ولا هو بتقرير لوقائع سياسية حدثت في التاريخ، أو شرح للأنظمة السياسية ووصف لها... غايتي من هذا الكتاب دراسة بعض الأفكار السياسية بأسلوب فلسفي، أو قل على الأصح إنه نظرات فلسفية في تراث عدد من أبرز رواد الفكر السياسي وأفكارهم". فالفكر الغربي ليس شراً مطلقاً كما يسميه البعض لأن فيه رواداً كباراً ما زالت مقولاتهم موضع دراسة معمقة لدى المصلحين في مختلف العصور، ومنهم السيد خاتمي الذي درس تجربة أولئك الرواد لاستنباط نهضة إيرانية تستفيد من تجارب الغير بقدر ما تتعلم كيف تحمي تراثها من التغريب. ختاماً، ليس من شك في أن مثل هذا التوجه الفكري السليم في النظر الى فكر الغرب السياسي وحضارته يساعد على بناء نهضة حقيقية طال انتظارها في العالم الإسلامي. وتذكر مقولات خاتمي الفكرية هذه بتوجهات الإمبراطور الياباني المصلح أو المتنور مايجي الذي نهض باليابانيين طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر على قاعدة شعار مزدوج هو: "إلحقوا بالغرب وتجاوزوه"، ثم: "التكنولوجيا غربية أما الروح فيابانية". فالنهضة وليدة تفاعل خلاق ما بين المقولات الوطنية أو القومية لحماية الذات والتراث والأصالة، ومقولات الفكر العالمي الشمولية بعد أن دخلت جميع المجتمعات مرحلة التاريخ الكوني منذ بداية القرن التاسع عشر وهي تعيش الآن عصر العولمة الكونية. وقد أدرك الرئيس خاتمي أن الليبرالية، في جميع تجلياتها هي نتاج الفكر الغربي بامتياز، وهي مطلب ملح تسعى إليه جميع الشعوب، ومنها الشعب الإيراني. لكن الليبراليات الغربية تعيش الآن مرحلة صراع وتنافس حاد يصفها خاتمي في نهاية كتابه بالقول: "إن "الليبرالية" أطول نظام سياسي تفتقت عنه الحضارة الجديدة عمراً، وأكثرها انسجاماً مع الطبيعة، لم يخل من منافسين في ساحة الفكر ومجال العمل... الليبرالية واقعة مهمة في تاريخ الإنسان ومصيره... لكن لا بد من الالتفات الى مسألة مهمة جداً هي نسبية الليبرالية. فالنظر الى النسبي على أنه مطلق آفة من آفات الفكر، وحائل دون السير نحو الحقيقة، وسبب مصائب كثيرة في التاريخ البشري... لا ينبغي لنا أن نشك في أن سياسة كل مجتمع ترتبط بالحضارة الناشئة منه، وأن حصول أي تغيير أساسي في السياسة منوط بالتحول الذي يصيب هذه الحضارة... إن الحضارة التي تسيطر اليوم على العالم اجتازت في تاريخها أزمات كثيرة، وهي لا تخلو اليوم من أزمات. لكن يبدو أن الأزمة الحالية تختلف عن الأزمات السابقة التي كانت أزمات ولادة وبلوغ، لا بل يمكن القول إن الأزمة التي تواجهها اليوم خليقة بأن تسمى أزمة الهرم". وينهي كتابه بتوجه مستقبلي في غاية الأهمية: "لا نشك أن المستقبل يحمل في طياته الكثير من المفاجآت، وأن السياسة لن تبقى على ما هي عليه. ولأنه كذلك نتساءل بقلق: ماذا ترانا أعددنا، ونعد، لنشارك في صياغة مستقبل الإنسان، أو مستقبلنا على الأقل؟ وبأي زاد ترانا تزودنا ونتزود على عتبة هذا التحول الخطير؟". حين طرح خاتمي هذه التساؤلات كان في موقع الباحث الأكاديمي المتنور. أما الآن فهو في موقع من يدير دفة الحكم في إيران بتفويض شعبي قل نظيره في أي من دول العالم، على اختلاف تسمياتها. لذا، فهو مطالب بوضع أفكاره الإصلاحية موضع التطبيق العملي. وأغلب الظن أن إيران في عهده ستشهد مزيداً من الليبرالية والانفتاح في مختلف المجالات. كما أن باب الاجتهاد السياسي والديني سيكون أكثر اتساعاً لإخراج إيران من الجمود الذي لفها في ظل هيمنة التيار المحافظ. فقد قدم نموذجاً حياً عن المثقف المتنور المؤمن بالحرية وحق الاختلاف من جهة، وعن السياسي الهادئ والبارع في اعتماد الأسلوب البراغماتي لمواجهة القوى المعارضة للإصلاح من جهة أخرى. لكن سؤال الإصلاح يبقى مطروحاً بحدة: كيف ستقوم إيران بتحديث مجتمعها واقتصادها وجامعاتها وإدارتها وجيشها تحديثاً شاملاً بالاستناد الى قواها الذاتية أولاً مع الاستفادة من الخبرات التكنولوجية العصرية المتوافرة لدى الشعوب الصديقة من دون خوف أو مركب نقص؟ وكيف ستستطيع بناء نظامها السياسي الليبرالي الخاص مع تلافي تقليد أنظمة الغير والسقوط في دائرة التغريب؟ ليس من شك في أن من يقرأ هذا الكتاب يدرك أن إيران في عهد خاتمي مقبلة على تغيرات بالغة الأهمية هي نتاج جهد فكري قل نظيره بين قادة الدول الإسلامية. فهل تصمد مقولاته الإصلاحية في مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية والدولية التي تعيشها إيران في المرحلة الراهنة؟ * مؤرخ لبناني.