10.1 تريليونات قيمة سوق الأوراق المالية    1% انخفاضا بأسعار الفائدة خلال 2024    تستضيفه السعودية وينطلق اليوم.. وزراء الأمن السيبراني العرب يناقشون الإستراتيجية والتمارين المشتركة    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    البرهان يستقبل نائب وزير الخارجية    كاساس: دفاع اليمن صعب المباراة    قدام.. كلنا معاك يا «الأخضر»    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة    جواز السفر السعودي.. تطورات ومراحل تاريخية    حوار «بين ثقافتين» يستعرض إبداعات سعودية عراقية    5 منعطفات مؤثرة في مسيرة «الطفل المعجزة» ذي ال 64 عاماً    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مترو الرياض    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    المملكة ترحب بتبني الأمم المتحدة قراراً بشأن فلسطين    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"إيران ورئيسها الفليسوف": مدى لقاء أو افتراق حالتي محمد خاتمي وميخائيل غورباتشوف
نشر في الحياة يوم 14 - 10 - 1998

عندما القى الرئيس محمد خاتمي كلمته في الجمعية العامة للامم المتحدة الشهر الماضي، كانت المرة الأولى منذ أواخر الثمانينات التي يخاطب فيها رئيس لجمهورية ايران الاسلامية تلك المؤسسة، او حتى يزور فيها بلدا غربيا. وكان خاتمي فاز بسبعين في المئة من اصوات الناخبين في الانتخابات الرئاسية التي جرت في أيار مايو من السنة الماضية، وتسلم المنصب في آب أغسطس من السنة نفسها. وحاول خلال السنة التي تلت ذلك تغيير اتجاه سياسة بلاده، على الصعيدين الداخلي والخارجي. وأشاع منذ قدومه الى السلطة نبرة جديدة في الخطاب السياسي الايراني، تدور على احترام القانون وتفعيل الديموقراطية واعطاء النساء دورا فاعلا في المجتمع. اما تجاه العالم، خصوصا الولايات المتحدة، فقد دعا الى الحوار ومحاولة تخفيف العداء الذي يتراكم منذ عقود. واستمر في انتقاد رفض اسرائيل قيام دولة فلسطينية، وادان الارهاب، فيما اكد ان ايران ستقبل بالحل الذي يقبله الفلسطينيون.
لكن انتصار خاتمي ليس امرا مؤكدا. فهناك في الداخل قوى محافظة واسعة النفوذ في الوسط الديني واوساط قوى الأمن تواصل التعبئة لنسف اصلاحاته. كما ان مدخول ايران من النفط انخفض بنسبة 40 في المئة هذه السنة، ولا بد ان الرأي العام سيحمل خاتمي مسؤولية المشاكل الاقتصادية التي تنتج عن ذلك. كما ان القضايا بين ايران والعالم العربي ودول بحر قزوين والغرب لن تجد حلا من خلال النوايا الحسنة وحدها. مع ذلك فان تسلمه السلطة وزيارته الى الأمم المتحدة تشيران الى تطور جديد في سياسة ايران، له اثره على على الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والعالم الاسلامي عموما. انه رجل جديد بصوت جديد.
ينتمي خاتمي الى قلب المؤسسة الدينية الايرانية. ولد في 1943 في بلدة أردكان قرب مدينة يزد في وسط ايران. والده هو آية الله روح الله خاتمي الذي كان من المقربين الى آية الله الخميني قائد الثورة الاسلامية، الذي عينه ممثلاً له في يزد بعد الثورة. والرئيس خاتمي متزوج وله ثلاثة اطفال وهو من اصهار عائلة الخميني. درس السياسة والتعليم والقانون وتعين في 1978 عشية الثورة رئيسا للمعهد الاسلامي في هامبورغ في المانيا. بعد الثورة عمل خاتمي وزيرا للثقافة والارشاد الاسلامي ما بين 1982 و1992، قبل ان يصبح مستشارا خاصا للرئيس على أكبر هاشمي رفسنجاني. وجاء انتصاره في انتخابات 1997 مفاجئا لكثيرين، اذ كان التوقع السائد ان رئيس البرلمان وزعيم الجناح المحافظ ناطق نوري سيخلف رفسنجاني. وفشل التوقع بعدما ضمن الرئيس رفسنجاني نزاهة الانتخابات الى حد كبير، فيما صوتت غالبية ساحقة من الايرانيين لمصلحة التغيير.
يعرف عن خاتمي تعلقه بالعلم، وهو يقول ان الغرفة الأهم في مسكنه هي المكتبة. ويمكننا استشفاف افكاره من خطاباته اثناء حملته الانتخابية وبعد توليه الرئاسة وكذلك من كتابيه، "الخوف من الموجة" 1993 المكون من خمسة مقالات، و"من العالم - المدينة الى المدينة - العالم" 1994، وهو دراسة عن الفكر السياسي الغربي من أفلاطون الى الليبرالية المعاصرة تدعو الى الديموقراطية والحرية والحوار المفتوح بين الحضارات. تسود كتابات خاتمي نظرة فلسفية شمولية، مع اشارات متحفظة الى المستتبعات العملية المعاصرة لتلك الأفكار. وتمثل الكتابات بالنسبة لأيران والتفكير الاسلامي عموما قطيعة مع النبرة السائدة في الأعمال الأصولية في الفترة الأخيرة. وبدل الدعوة المعتادة الى نبذ كل ما هو غير اسلامي، من ضمن ذلك الغرب، يدعو خاتمي الى معرفة الآخر من أجل الاثراء الفكري المتبادل. وتحمل كتاباته انتقادات الى الغرب، لكن، من دون تقوقع أو ديماغوجية. وتبدي انفتاحاً على التغير وعلى الأفكار العلمانية يناقض القول المألوف بأن الحلول لكل مشاكل العالم يمكن استنباطها من النص المقدس. والواقع ان خاتمي، في تجاوز للأصولية الدوغمائية، يعود الى تقليد أقدم في الفكر الاسلامي، كان السائد من أواخر القرن التاسع عشر الى العقود الأولى من القرن الحالي، يتسم بقدر كبير من الليبرالية والحداثة سواء في تفسير التراث الاسلامي او الموقف من الغرب. ومثّل هذا الاتجاه مفكرون مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبدالرازق وقاسم أمين ومحمد اقبال، يريدون كلهم البقاء على دينهم وحضارتهم لكن مع التعلم من الغرب. من السهل في الغرب في الآونة الأخيرة، مع الأزمات والأحداث المتوالية، اعتبار الأصولية الصوت الحقيقي للعالم الاسلامي. لكنها ليست كذلك ولم تكن كذلك ابدا. وما تحاول الاصولية خلال العقدين الأخيرين طمسه ليس الفكر اللا اسلامي او الغربي او الامبريالي فحسب بل ايضا التقاليد الدينية والثقافية البديلة في العالم الاسلامي. من بين هذه التقليد الحداثي في العقود الماضية وايضا التقليد الفكري الايراني الذي يعود الى قرون، بكل ما فيه من الدفق الشعوري والاقبال على الحياة وروح النقد. وتشكل كتابات خاتمي رفضا قاطعا للدوغمائية، بل ان عنوان كتابه "الخوف من الموجة" مأخوذ عن الشاعر الفارسي حافظ المعروف بتغنيه بملذات الحياة. كما ان دائرة اهتمامه الواسعة، التي تمتد من أفلاطون الى جون لوك وجان جاك روسو، ترفض بطبيعتها كل انغلاق. والأهم من كل ذلك النبرة السائدة في اعماله، خصوصاً تأنيبه للذين لا شاغل لهم سوى رفض الغرب والبحث الدائم عن "اعداء الاسلام" و"اعداء الثورة" و"المتآمرين".
أكثر ما يبرز في كتابات خاتمي مواضيع اربعة: فهو يبحث، في المقالات الثلاث الأولى من "الخوف من الموجة"، أعمال مفكرين اسلاميين حديثين حاولوا مواجهة التحديات التي يطرحها العالم الحديث على الأصعدة الاجتماعية والسياسية. من بين هؤلاء قائد الثورة الاسلامية الراحل آية الله روح الله الخميني، والمفكر الديني مرتضى مطهري الذي اغتاله متطرفون بعد الثورة الاسلامية بوقت قصير، وآية الله محمد باقر الصدر، المفكر العراقي الذي اعدمه صدام حسين في 1980. المقالة الرابعة "آمال ومخاوف" تدور على الموقف الذي على المسلمين اخذه تجاه الغرب، فيما تتناول المقالة الأخيرة "ثورتنا ومستقبل الاسلام" مسألة الحضارات والعلاقات بينها.
مقولة خاتمي هي ان هناك ثلاثة انواع من الاسلام: الاسلام المحافظ، والانتقائي، والصافي أو الحقيقي. يتميز التيار الأول برفض المحافظين مشاركة النساء في السياسة وعدم الاعتراف لأحد سوى رجال الدين بدور في الحياة السياسية والاجتماعية. كما يفرضون سياسة ثقافية متزمتة وصلت الى حد حظر الموسيقى والرياضة في التلفزيون. فيما يشير الاسلام الانتقائي الى أشخاص يتظاهرون بالاسلام تغطية لأهداف مغايرة له. أما الاسلام الحقيقي او الصافي فيستعين خاتمي لتوضيحه بمصادر من التراث الاسلامي. من هذه المصادر الفيلسوف أبو نصر الفارابي 870 - 950 للميلاد، الذي ولد في وسط آسيا وتلقى العلم في سورية ومصر ومارس التدريس في حلب. وهو واسطة رئيسية بين الفكرين الاسلامي واللااسلامي، ويعود بفكره الى أفلاطون وأرسطو، فيما ترك أثره على فيلسوف الكاثوليكية القديس توما الاكويني. وحاول في مفهومه ل "المدينة الفاضلة" التوفيق بين أفلاطون وارسطو ضمن اطار الفكر السياسي الاسلامي. وقسم الفارابي العقل الانساني، حسب الاتجاه الافلاطوني الحديث السائد زمنه، الى ثلاثة انواع: الفاعل والكامن والمستفاد. ما يستتبعه ان للانسان، على كونه رهن مشيئة الخالق ومحكوم بالنص المقدس، ان يكّون افكاره ويستنبط التفاسير والاحكام الخاصة به لمواجهة قضايا اليوم.
هذا الارث الكلاسيكي يستعمله المفكرون الإسلاميون في العصر الحديث من قبل المفكرين الاسلاميين، خصوصا ضمن الاسلام الشيعي، وليس في ايران فقط بل مناطق أخرى مثل العراق ولبنان، حيث يشهد الفكر الشيعي نهضته الحديثة. ويبدي خاتمي احتراما كبيرا لفكر آية الله باقر الصدر العراقي والامام موسى الصدر اللبناني، الذي اختفت آثاره بعد دخوله ليبيا في 1978 ...، ومؤسس المدرسة الاصولية الشيعية الشيخ مرتضى الانصاري المتوفى في 1864، مصدر آخر لفكر خاتمي. ويركز الاصوليون هؤلاء على الطبيعة المستقلة للاحكام، وعلى مرجعية المجتهد ومرجعية اجتهاده. وبلغ من قوة وترسخ هذا التقليد ان نظاماً تراتبياً جديداً قام على اساسه، على رأسه درجة "آية الله"، وهو ابتكار يعود الى اوائل القرن الجاري. وشكل هذا الاطار المؤسساتي في أواخر القرن الماضي وأوائل الحالي نواة المقاومة للنفوذ الاجنبي، خصوصاً البريطاني والروسي، في ايران، وأيضاً مقاومة استبداد الشاه. تعود بدايات السياسة الايرانية الى هذه الفترة، التي شهدت حركة مقاطعة التبغ في 1891 و1892، ثم الثورة الدستورية ما بين 1905 و1911. وتشكل الحركتان نقطة الارتكاز التاريخي التي يستشهد بها قادة ايران السياسيون، سواء كانوا من رجال الدين او العلمانيين. من هنا فان لهذا التاريخ دوما بعديه الديني والوطني. وكان الخميني توصل عن طريق الاجتهاد الى ان من الممكن قيام حكومة اسلامية في غياب الامام المنتظر. فيما توصل خاتمي عن الطريق نفسه الى موقفه الداعي الى انفتاح اكثر تجاه المشاكل الحديثة والافكار الغير اسلامية.
لكن هناك تياراً آخر ينتظم فكر خاتمي متماشياً مع الخط الحداثي. انه مفهوم "العرفان"، أي حدس الحقيقة كما تعرفه الروحانية الشيعية. انه تقليد استنكره مبكراً الكثيرون من المجتهدين، يقوم على فهم مباشر بعيد عن التناول المدرسي للإسلام. وكان له تأثير قوي على الخميني، وشكل جزءا من تجرده عن الدنيويات وادانته لها، وكذلك موقفه من السياسة بمفهومها اليومي، الذي يتسم احيانا بالتسامي، وبالنظرة الثاقبة، واحيانا بقدر من الادانة القاسية. ونقل عنه قوله يوما ان الاقتصاد موضوع ملائم للحمير! ومن المثير للاهتمام ان خاتمي الحريص على العقلانية جذب الانتباه الى هذا الوجه من فكر الخميني. ويصف الخميني في كتابه "الخوف من الموجة" بأنه "فقيه مجاهد، وروحاني ثوري، ورجل دولة مجبول بالقيم الأخلاقية". وللقارئ الايراني ان يدرك فوراً معنى هذه الاشارة الى العرفان: فهي تعني، من جهة، تقليداً روحانياً وثيق العلاقة بإيران، بل انه يفوق تشيعها كالعنصر المميز لها عن بقية العالم الاسلامي. من الجهة الثانية، يحاول خاتمي، بكلماته المختارة بعناية، ان يحمي الخميني من تهم يثيرها ضده سجله في العمل السياسي، ويقوم بذلك عن طريق التركيز على روحانيته واستعداده لفهم التقليد على ضوء الاهتمامات المعاصرة.
يتعايش موقف خاتمي من الماضي الاسلامي مع انفتاح على الفكر الغربي. ويركز مرارا في كتاباته وخطبه على الحاجة الى الحوار بين الحضارات. ويعطي هذه الحاجة ثقلها التاريخي عن طريق ابراز التفاعل في الماضي بين الفكرين الاسلامي والغربي، كما يعطيها اهميتها المعاصرة، حين ينتقد الذين يسعون الى عزل بلد مثل ايران عن العالم الخارجي. انه ليس موقفا نظريا فقط، اذا اخذنا في الاعتبار ان معظم سكان ايران تحت العشرين من العمر وتبدي اهتماما بالغا بكل ما يمكن ان يقدمه العالم الخارجي، من الانجازات العلمية والفكرية والفنية الكبرى الى الموضة وبرامج الترفيه، في الوقت الذي يستمر فيه معارضو خاتمي في التنديد الصاخب ب"الهجوم الثقافي" الغربي، ويحظرون استعمال صحون استقبال البث التلفزيوني. وتشكل ما يسمونه "الثورة الجنسية الصامتة" في ذلك البلد، اضافة الى الاقبال على القنوات التلفزيونية الفضائية وبضائع الاستهلاك، مؤشرات على تراجع القيود التقليدية على المجتمع. "الاسلام الرجعي" بالنسبة لخاتمي هو بالضبط هذه المعارضة للانفتاح. لكن حجة خاتمي في ذلك ايجابية تماما، وهي ان ليس للاسلام "الحقيقي" ما يخشاه من الاتصال بالعالم الخارجي، "ولا يمكن ان يكون الانعزال استراتيجية لمجتمع اسلامي حيوي متحرك".
يرتبط هذا المنظور الحضاري المفتوح بنظرية شمولية للحضارات طورها خاتمي في المقالة الرابعة من "الخوف من الموجة". ولا شك ان هذه النظرية لن تلقى ترحيبا من صموئيل هنتغتون وأمثاله من جهة، ومن الجهة الثانية من الأصوليين من كل الانواع، المسلمين منهم او المسيحيين او اليهود او الهندوس او الكونفوشيوسيين. ذلك لأنه يرفض فكرة كيانات حضارية منفصلة: "الحضارات عادة، باستثناء الحالات عندما تجهل بعضها بعضا، تتبادل التأثير والتغيير في ما بينها... التبادل الحضاري من ثوابت التاريخ". كما ان ليس لحضارة ما ادعاء السيطرة الدائمة: فقد سيطرت الحضارة الغربية على العالم في القرون الأربعة الأخيرة، لكن هكذا أيضاً كانت الحضارة الاسلامية اثناء ازدهارها. واذا كان هذا يشد انتباهنا الى الأزمة المتفاقمة التي تمر بها الحضارة الغربية، فإنه في الوقت نفسه يمنع الادعاء بعودة الاسلام الى السيطرة. والأغرب في الشرق الأوسط، حيث يشكل الدين أساسا لكل نقاش، سواء من رجال الدين او المثقفين عموما، ان خاتمي لا يعلل ازدهار الحضارات وتراجعها بالقضاء والقدر بل بحركية العقل البشري وبروز احتياجات جديدة في المجتمع الانساني.
يرى خاتمي ان الغرب يمر في أزمة، وأن فشل الماركسية يشكل فصلاً آخر من هذه الأزمة. ويكتب في القسم الأخير من "من العالم - المدينة الى المدينة - العالم" بنبرة تذكرنا بأفكار ما بعد الحداثة ان "الاضمحلال الواضح لقوته الغرب الذاتية" يبرز في فشله المتزايد في توفير اجوبة على الاسئلة الجديدة، وفي التراجع المستمر في الثقة بقدرة الحضارة الغربية على صنع المستقبل المرجو، وفقدان العلم والمنهج العلمي سلطتهما المطلقة: "لم يعد العلم ذلك الدواء الشافي أو القاعدة المرجعية ولا يمكنه تقديم جواب الى روح الانسان القلقة...". لكن مجتمع ايران الثائرة يشهد أزمة ايضا. وما لم تجد ايران أجوبة عن المشاكل امامها، وتؤلف ما بين التوجه الديني وضغوط العالم الحديث، فإنها ستعود الى الخضوع لسيطرة الغرب.
يقدم خاتمي في كتابه "من العالم - المدينة الى المدينة العالم" تطويراً مفصلاً لمنظوره الى الغرب. ويتخذ الكتاب شكل دراسة للفكر السياسي الغربي، تركز على نمو أفكار الحرية والحقوق. وبعد الفصول التي يتناول فيها أفلاطون وأرسطو والفكر المسيحي في العصر الوسيط يعلق ايجابيا على بروز العقل العلماني في عصر النهضة ومفهوم جون لوك للحرية. كما يناقش تطور الليبرالية وقدرتها على التكيف. ولا بد ان يبدو التناول الهادئ الايجابي لليبرالية مثيرا للاستغراب نظرا لأن الكلمة في ايران الثورة اصبحت بمثابة الاهانة، وصارت صفة ملاصقة للمثقفين الموالين للغرب، ان لم يكن لعملاء "سي آي أي" انفسهم. ويشكو خاتمي من أن الباحثين في ايران حرموا مما يكفي من المعلومات الموثقة لاصدار حكم منصف على القضية.
في أحيان عديدة يكتب خاتمي عن "الغرب" وكأنه كيان واحد متجانس، او قوة واحدة تنبع منها كل التوجهات، من القيم الليبرالية الى الرأسمالية الى الامبريالية، وهو أمر معتاد في كتابات منتقدي "الغرب" من العالم الثالث. لكن خاتمي يوضح في الفصل الأخير من كتابه ""من العالم - المدينة الى المدينة - العالم" ان القيم موضع تقديره ليست نتاجا ل"غرب" واحد موحد بل نتيجة صراع ضمن الغرب وتطلب ظهورها دفع ثمن باهظ. من القيم التي يذكر "الحرية"، و"الحدود على سلطة الحاكم"، و"الحكومة الدستورية"، وأيضا ايجاد"حلول انسانية عملية وملموسة" لوضع تلك القيم موضع التنفيذ. ويشكل هذا الفرز الداخلي للظاهرتين "الشرق" و"الغرب" مفتاحا للتغلب على النموذج السائد عنهما.
لا يقول خاتمي في كتابيه وخطبه الكثير عن ما يعنيه ذلك عملياً بالنسبة الى الحياة السياسية. لكنه يؤكد دوماً في كتاباته الفلسفية والتاريخية على حاجة أية حضارة أو نظام فلسفي الى التجاوب مع متطلبات عصرهما. وهناك في الواقع ما يكفي من المؤشرات الى ما يرى ان من الممكن بل الواجب عمله لمواجهة الأزمة المزدوجة التي يصفها، أي ازمة الحضارة الغربية من ناحية، وازمة الثورة الاسلامية في ايران من الثانية. ويصر خاتمي، سائرا على هدى الفارابي وقيم الليبرالية الغربية، على قيم سياسية ثلاث يعتبرها أساسية. الأولى هي الحرية، حيث يصارح، مثل كثيرين غيره في ايران، بالحاجة الى السماح بتشكيل الأحزاب السياسية وأيضا الحاجة الى حرية الصحافة. ثانيا، يؤكد خاتمي على سيادة القانون والحكم الدستوري. وكانت الهزة السياسية الأولى التي شهدتها ايران في القرن العشرين الثورة المطالبة بالدستور ما بين 1905 و1911. ولايران حاليا دستور يكفي، اذا طبق في شكل صحيح، لترسيخ الديموقراطية. ينادي الرئيس الايراني أيضا بپ"المجتمع المدني"، الذي يعني في مفهومه المحدد له مجموعة من الهيئات الاجتماعية العاملة في الحياة العامة، وبالمفهوم العام مشاركة الشعب في الحياة السياسية واخضاع الحكومة لارادته.
وجدت هذه الأفكار العامة تعبيراً مفصلاً في خطاب تسلم المنصب الذي القاه خاتمي في الرابع من آب أغسطس 1998. وحدد فيه مسؤوليات الرئيس بالذود عن دين الدولة وخدمة الشعب ونبذ الاستبداد وحماية حرية وكرامة الأفراد وحقوق الأمة. ودعا الجهاز القضائي الى اقامة المجتمع على اساس سيادة القانون، والجهاز الاداري الى ترسيخ مبدأ المساءلة. وركز الخطاب في غالبه على حقوق المواطنين والحاجة الى مشاركتهم، فيما دعا على صعيد السياسة الخارجية الى "ايران مستقلة مرفهة معتزة بذاتها"، والى حوار بين الحضارات.
تلقى آراء خاتمي، شكلاً ومضموناً، قبولاً واسعاً في ايران، اذ ان أكثر السكان البالغ عددهم 60 مليون نسمة لا يحتاجون الى من يقنعهم بأن هناك حاجة لمراجعة الأهداف الأصلية للثورة الاسلامية، او ان هناك، بفعل المشاكل الكثيرة في الداخل والخارج، تنوعا كبيرا في المواقف والآراء يجب اخذه في الاعتبار. وتتغذى شعبية خاتمي ايضا من شخصيته ذاتها، المتمثلة بتجنبه للشعارات الطنانة والادانات الصاخبة والحرص على النبرة العقلانية الهادئة، اضافة الى تواضعه الشديد، إذ كثيرا ما يستعمل وسائط النقل العامة ويهتم بزيارة المدارس من دون مظاهر رئاسية او مراسيم. لكن هذا لا يعني انه نجح في اقناع كل الايرانيين. فهناك في معسكر المحافظين عدد من المصممين على عرقلة جهوده بكل الوسائل المتاحة، السري منها والعلني، ويرون ان المرشد الروحي للجمهورية علي خامنئي يمكن ان يشكل ثقلا موازيا له. هناك ايضا بعض العلمانيين الذين يشكون بنوايا اي منتم الى المؤسسة الدينية مهما كانت اراؤه.
السؤال الرئيسي المطروح على الذين يحاولون تقويم مسيرة خاتمي هو المدى الذي يستطيع الذهاب اليه امام هؤلاء المعارضين. واذا كان الوقت لم يحن بعد للحكم يمكن القول ان وضعه، من نواح عديدة، يبدو مشابها لوضع ميخائيل غورباتشوف عند تسلمه السلطة في آذار مارس 1985، عندما أعلن انه يريد البدء بمرحلة جديدة لكن من دون ان يملك ما يكفي من القوة لتنفيذ رغبته. ولنا ان نتذكر ان غورباتشوف لم يتمكن من التوصل الى لجنة مركزية ملائمة لمتطلباته الا في 1987، أي بعد سنتين من تسلم السلطة. لكن هناك حدود للتشابه بين الوضعين. من ذلك ان تعدد مراكز القوة في ايران يجعل خاتمي في موقف أضعف من غورباتشوف، الذي كان تفرده في السلطة يمكنه من فرض الاصلاحات. لكنه من الجهة الثانية أقوى من غورباتشوف، لأنه جاء بتفويض شعبي ساحق، ولا يحتاج الى اعادة التفاوض على التزامات خارجية رئيسية، كما ان ايران تملك دستورا قابلا، بعد قدر من الاصلاح، الى يكون أساساً لإيران كما يريدها خاتمي. هذا الوضع الدستوري يحدد المنعطفات التي ستؤدي الى تقوية مسيرته او اضعافها، وهي انتخابات مجلس الخبراء التي تجري هذا الشهر، والانتخابات المحلية السنة المقبلة ثم الانتخابات الاشتراعية السنة 2000 والرئاسية التي يحق لخامتي خوضها في 2001.
لكن هناك أيضاً اسئلة عن برنامج خاتمي لا يمكن الجواب عنها سوى بالممارسة. فقد ساند الرئيس الايراني انشاء الاحزاب السياسية، لكن، لم يتضح بعد موعد أو كيفية تنفيذ الخطوة، او الحدود التي ستوضع عليها. كما أيد اعطاء المرأة دوراً أوسع في الحياة العامة، لكنه لم يقل شيئا حتى الآن عن التمييز الذي تتعرض له المرأة في مجالات عديدة، من الوضع القانوني الى اللباس. وهو منفتح على الافكار الغربية، لكنه ينتقد اعمال المثقفين العلمانيين والعلمانية عموما. كما ان موقفه من الفكر السياسي الغربي يتسم بالايجابية، لكن هناك من يتساءل اذا كان هناك ما يدعو الى القلق من اعجابه بفكرة "الملك الفيلسوف" الافلاطونية. وهو يريد التخلص من الافكار الدوغمائية التي صاحبت الثورة، الا انه يستمر، ولو كان باسلوبه العقلاني المستقل، في الاعتماد على ارث الخميني.لكن مهما كانت العراقيل أمام مشروع خاتمي والغموض في عدد من نقاطه فلا يشك سوى قليلين في مدى ما يتوقف على نجاح المشروع الليبرالي هذا او فشله، بالنسبة لإيران والشرق الاوسط والعالم الاسلامي المتمزق بين حداثته المترددة من جهة والأصولية المتشددة من الجهة الثانية.
* كاتب بريطاني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.