قليلة هي الكتب التي نشرت في اللغة العربية عن جذور الفكر الديني المعاصر في إيران وأبرز المفكرين المؤثرين في مسيرة الفكر الإصلاحي الديني والسياسي. وباستثناء ما ترجم من كتب للمفكر الإسلامي الإيراني علي شريعتي في فترة مبكرة من انتصار الثورة، وكتاب المفكر عبدالكريم سروش الشهير «القبض والبسط في الشريعة»، وكتاب الرئيس الإيراني السابق السيد محمد خاتمي «بيم موج» قبل سنوات، وكتاب «نظريات الحكم في الفقه الإسلامي» للشيخ محسن كديفر، فإن معظم الترجمات في السنوات الأخيرة من الفارسية، قد خصصت لكتابات عن الخميني وخامنئي ولكتب فقهية ودينية كلاسيكية أو لمؤلفات ذات أغراض سياسية دعائية. ويأتي نقل كتاب «اتجاهات الفكر الديني المعاصر في إيران» للكاتب الإيراني مجيد محمدي من الفارسية إلى العربية والذي نشرته أخيراً الشبكة العربية للأبحاث والنشر بالاشتراك مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ليسد فراغاً في المكتبة العربية، التي تفتقر إلى كتب موضوعية وأكاديمية عن هذا الموضوع. فمنذ أكثر من قرن، يواجه الشعب الإيراني تحديات فكرية أساسية في الأزمة الفكرية، بين الدين والعلم، وبين الفلسفة والوحي، بين القديم والحديث، بين التبعية والاستقلال، وبين الاستبداد والحرية. وفي هذه المسيرة الطويلة أدّى المفكرون الإصلاحيون دوراً كبيراً في إعادة صوغ العقلية الإسلامية واكتشاف ثغرات المنهجية الفكرية الماضية واقتراح منهجية بديلة للتفكير تتجاوز ثغرات المنهجية السائدة، واكتشاف عوامل أزمة الأمة. في هذا الكتاب، يحاول محمدي دراسة أبرز ستة مفكرين إسلاميين، ساهموا في تطور الفكر الديني في إيران ونقده منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم، ولا يزال تأثيرهم ممتداً إلى الوقت الراهن. كما أدوا دوراً مهماً في نقد الفكر الديني المعاصر وتحليله. وقد اختار الباحث المفكرين من مراحل زمنية مختلفة (ستينات القرن الماضي وسبعيناته وثمانيناته)، ومن اتجاهات مختلفة، بدءاً بالميرزا النائيني منظّر الحركة الدستورية قبل قرن، مروراً بمرتضى مطهري وعلي شريعتي ومهدي بازرجان الذين قاموا بدور أساس في بلورة المفاهيم الإسلامية والتنظير الحركي في مرحلة ما قبل انتصار الثورة الإيرانية، وانتهاءً بحسين نصر وعبدالكريم سروش المعاصرين اللذين يشكل كل واحد منهما اتجاهاً معاكساً للآخر في التعامل مع مسائل، كالفلسفة والدين والعرفان والفكر الغربي. ولا يزال سروش يلعب دوراً مهماً في أوساط الكثير من النخب المثقفة الإيرانية. وقد مهد المؤلف لكتابه بثلاث مقدمات نظرية تأسيسية تناول في الأولى الدراسات الدينية بين الافتراضات والنقائص، وهو يرى أن نمو هذه الدراسات يحتاج إلى الدراسة التاريخية، والدراسة الأرضية - المادية، والدراسة التطبيقية المقارنة، والدراسة الوصفية والعرض، والدراسة على أساس الحوار والتفاهم، والدراسة الإيديولوجية. ويعتبر مجيد محمدي أن أفضل الأساليب لتتبع مظاهر التناقضات في الفكر الديني المعاصر وإبرازها، هو دراسة مفكر ديني تبلورت لديه هذه الأفكار وهذه الرؤيا أكثر من غيره. ومن هنا يركز على ستة أنواع من الرؤى: الفلسفية، والاجتماعية، والمعرفية (المنهجية)، والعلمية - التجريبية، والعرفانية - الرمزية، والفقهية - الأصولية، للدين والناتجة من تناقضات أو صراعات فترة الانتقال من التراث إلى الحداثة، وقد اختار ستة مفكرين إسلاميين معاصرين في إيران، لتتبع رؤاهم دراسةً وتحليلاً. فقد اختار الميرزا النائيني، الذي يعده أحد أبرز الوجوه الفقهية - الأصولية، لأنه أولاً أحد الفقهاء القلائل الذين اهتموا بالموضوعات المعاصرة، واقتحمها ليس بوصفه فرداً عادياً، بل بأفكاره الفقهية والأصولية. وثانياً، لأن الفترة المعاصرة، لا سيما بعد الثورة الإسلامية، حيث عرض الفقه بوصفه أيديولوجيا هادفة وبرنامجاً اجتماعياً أيضاً، لم تشهد فقيهاً أو أصولياً يتمتع بشخصية فقهية - أصولية (بحتة) ويعرض نظرياته في هذا الإطار. وفي مجال الرؤية الفلسفية، اختار محمدي الشيخ مرتضى مطهري، معللاً اختياره لهذا المفكر لتغلب نظرته الفلسفية على نظرته العرفانية (الصوفية)، أو نظرته الفقهية - الأصولية، ولأنه كان أحد رجال المؤسسة الدينية، وكان من الطبيعي غلبة نظرته الفقهية – الأصولية، على أن رغبته الشخصية ومتطلبات الفترة التي عاشها رجحت لديه كفة الفراغات الفلسفية. وكان يمكن دراسة أستاذه، العلاّمة محمد حسين الطباطبائي (1902- 1982) أيضاً في هذ المجال، ولكن مطهري جمع بين الاتجاه الفلسفي لأستاذه في شكل جيد، إلى جانب الاهتمام بالقضايا الاجتماعية - السياسية. ولهذا السبب نستطيع تتبع معطيات تلك النظرة في الأمور الجزئية، وهذا هو الدليل الثاني لاختيار مطهري في هذه الدراسة. أما في المجال الاجتماعي، فيؤكد محمدي أن علي شريعتي هو أبرز الوجوه، وأنه أكثر تأثيراً من جميع المفكرين الذين تشملهم هذه الدراسة. ويعتقد أنه بسبب حداثة دائرة العلوم الإنسانية، فإن أرضية ظهور وجوه متعددة قد درست واستوعبت مبادئ علم الاجتماع وأصوله جيداً، وحملت إلى جانب ذلك، هاجس الدفاع عن الدين، لم تنضج بعد. أما الرؤية المعرفية (المنهجية) فيعتبر محمدي أن عبدالكريم سروش قد طرحها في كتاب «القبض والبسط في الشريعة». فبسبب انفتاحه على علم المناهج والفلسفة التحليلية الحديثة من جهة، وانفتاحه على الفكر الديني التقليدي من جهة أخرى، اتجه سروش نحو طرح إجابات جديدة في قوالب جديدة أيضاً. وقد ساعده في طرح نظرته ورؤيته، عدم مواكبة الأفكار الدينية لمتطلبات العصر، بعد الثورة الإسلامية. ويرى محمدي أن مهدي بازرجان هو أحد أهم المفكرين الذين طرحوا تفسيرات علمية - تجريبية عن الدين. فقد نهض من جيل جعل العلم أيديولوجيته، وفي هذا الجيل لم يكن أمام الفكر الديني بد من الاندماج مع الأفكار القائمة على العلوم التجريبية. أما في الرؤية العرفانية – الرمزية، فلم تتوافر شخصية مؤثرة في هذه الفترة، ليكون هو شخصياً مؤمناً حقيقياً بهذه النظرة، ويكون أيضاً في موقف الدفاع أو عرض الرؤية، لذلك اختار محمدي المفكر حسين نصر لأنه حاول عرض الروح المعنوية – الصوفية للدين. واللافت عدم اختيار المؤلف للإمام الخميني كأحد المفكرين المؤثرين في إيران، في القرن الماضي، حيث لا يزال فكره الديني - السياسي القائم على نظرية ولاية الفقيه مؤثراً في إيران والفضاء الإسلامي الشيعي. ولا شك في أن آية الله مرتضى مطهري، وهو تلميذ مميّز للخميني، يعبّر في آرائه الفكرية والفلسفية والدينية عن الاتجاه الفكري الديني والسياسي للخميني ونظام الجمهورية الإسلامية، لكنه قتل في السنة الأولى لانتصار الثورة على يد منظمة «فرقان» الدينية المتطرفة بسبب آرائه المتنوّرة. كما أنه كان من المؤمنين بنظرية «المشروطة» وولاية الفقيه المقيّدة ونظرية شورى الفقهاء في المرجعية، ولم يكن من المؤمنين بولاية الفقيه المطلقة. يقول مطهري: «ولكن في الفلسفة الاجتماعية الإسلامية لا يؤدي الإيمان بالله إلى قبول الحكومة المطلقة للأفراد، فالحاكم مسؤول أمام الناس، والإيمان بالله يضع الحاكم في موقع المسؤولية أمام الناس، إذ يجب عليه أن يؤدي حقوقهم». وترى نظرية ولاية الفقيه المقيّدة أنّه يجب ألا يكون الفقيه على رأس الحكومة وألا يحكم عملياً، بل إنّ دوره في الدولة الإسلامية أشبه بدور المفكر منه بدور الحاكم، وأنّ وظيفته كمفكّر هي الإشراف على التنفيذ الصحيح والسليم للاستراتيجية المتبناة، والإشراف على رئيس الدولة أو الحكومة الذي ينفذ السياسة الإسلامية. وبالتالي لا يمكن التكهن بالاتجاه الفكري الذي كان سيسلكه مطهري لو بقي على قيد الحياة وشهد التطورات السياسية والفكرية في إيران خلال العقود الثلاثة الأخيرة، خصوصاً أن زميله آية الله حسين منتظري، وهو التلميذ المميّز الآخر للخميني، قد افترق عن الخميني في حياة الأخير وبعد مماته، نتيجة خلافات سياسية وفكرية، وابتعد عن نظرية ولاية الفقيه التي نظّر لها سابقاً في مجلدين، وأصبح من أشد منتقدي النظام الإسلامي في إيران إلى حين وفاته عام 2009. والحق أن منتظري قد دعا إلى ولاية الفقيه المنتخبة بحيث ينتخب الفقيه من الشعب من جهة، وصرّح أنه خلال صوغ دستور الجمهورية الإسلامية كان تصوّره أن دور الولي الفقيه سيكون الإشراف على الحاكم أو الحكومة، وليس دور الحاكم التنفيذي. والجانب الآخر الذي اشتهر به الخميني أيضاً هو الجانب العرفاني، ولم يذكره محمدي في كتابه، وآثر أن يختار حسين نصر، معتبراً أنه لم تكن هناك شخصية مؤثرة في تلك الفترة في هذا الجانب. والواقع أن نظرية ولاية الفقيه التي اشتهر بها الخميني قد أسس لها فقهياً فقيه العصر الصفوي المحقق الشيخ علي بن عبد العالي الكركي (ت 940ه)، والذي يعتبر أول فقيه شيعي تنمّ كتاباته حقاً عن مؤشرات على نظرية الدولة. وقد خلص إلى أنّ الفقيه الجامع للشرائط معيّن من جانب الأئمة ويُعتبر نائباً عنهم في عصر الغيبة. أما أول فقيه بحث بالتفصيل في مسألة ولاية الفقيه وجعل منها مسألة فقهية مستقلة، وأقام عليها الأدلة العقلية والنقلية فهو الشيخ أحمد النراقي (ت 1248ه)، فقيه العصر القاجاري، في كتابه «عوائد الأيام». ولعل أهمية الخميني تعود إلى قيادته مشروع السلطة الإسلامية المستندة إلى نظرية ولاية الفقيه وتطبيقه للنظرية في الواقع في النظام الإسلامي في إيران، أكثر من تنظيره للنظرية ذاتها. والجدير ذكره أن الباحث مجيد محمدي قد أغفل في كتابه ذكر المفكر محمد مجتهد شبستري، أحد واضعي علم الكلام الجديد في إيران، وذلك ربما لأن الكتاب نشر بالفارسية عام 1993، ولعل تلك الفترة كانت هي بدايات تبلور علم الكلام الجديد. * باحث لبناني